مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:23 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
عقائد المفكرين في القرن العشرين..!
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما هممت في تناول موضوع يشغل الرأي العام أو الخاص، وله مساس بالفكر المعاصر، هرعت إلى مكتبتي التي نشأت معي منذ نصف قرن، واتخذت لها توزيعاً وفق رؤيتي الخاصة، وليس وفق النظام العشري المعتمد لدى المكتبات العالمية. ومنها ألتمس المراجع والمصادر التي تعضد فكرتي، وتشدّ أزر موقفي؛ سعياً وراء تحويل المقال من الإنشائية المترسلة إلى الثقافية الممتلئة؛ فأنا أكره المترسلين والمخفين والإنشائيين، وأحفل بالمقال الممتلئ معرفة، والمؤصل علماً. وكلما ارتبت من شطحة كاتب أو جهله، أو ضقت ذرعاً بتعالمه هرعت إلى أمات المصادر والمراجع؛ للتمكن من ردّ التائهين إلى جادة الصواب. وما من كاتب إلا مدرك أو مستدرك عليه، كما قال الإمام مالك: (ما منا إلا رادّ أو مردود عليه إلا صاحب هذا القبر) - يعني مَن لا ينطق عن الهوى -.
والنصّ الثقافي هو النص المطعم بمختلف المعارف، المحلّى بأنواع الثقافات وأصناف الآراء. وعودتي إلى الكتب المسعفة ليست كعودة الخالي الوفاض الذي يأخذ من هذا، وينقل من ذاك، ثم لا يحسن الانتقاء، ولا يوفق في العرض، فيكون كمن يطيل الحديث، ثم لا يقول شيئاً، أو كحاطب ليل، وإنما هي عودة المتزود، وخير الزاد ما يقي الإنسان زلة اللسان وصبوة القلم.
ويقيني أنني مررت عبر عشرات السنين على تلك الكتب، وعرفت ما تنطوي عليه. ومن عادتي حين أريد شراء كتاب أجهل مؤلفه، ولا أتوفر على معرفة كافية عن حقله المعرفي، أن أستعرض المقدمة والخاتمة والمراجع، وأستبين المنهج والخطة وآلية التناول، ثم أختار بعض الصفحات عشوائياً، فإذا شدني سحر اللغة وحلاوة الأسلوب، أو استهوتني طرافة المعلومة، أو استمالني عمق الباحث واقتداره، اشتريت الكتاب. وإلى جانب هذا الاستعراض السريع أميل إلى استكمال ما ألفته طائفة من العلماء والأدباء والمفكرين ممن لهم حضورهم المؤثر في سائر المشاهد. أسأل عما لهم من مؤلفات أو عمن كتب عنهم؛ لكونهم يشكلون مكانة علمية متميزة. وتمتد رغبتي إلى جانب ذلك إلى مذاهب وظواهر لا بدّ من استكمال المعلومات عنها، ف (الحداثة) أو (العولمة) و(التفكيكية) و(التحويلية) - على سبيل المثال - من الظواهر التي يفرض عليّ حضوري الاهتمام بها، واستكمال المعلومات عنها، مثلما كانت (الوجودية) و(الماركسية) من قبل محط الأنظار، والاهتمام يمتد إلى الموسوعات والمعاجم كافة في أيّ حقل معرفي.
وحين أردت التعليق على مأزق التعالق والردّ على بعض المغالطين حول سائر الظواهر؛ بوصفها متعددة المفاهيم، لم أقنع باللغط المحلي، ولا باللغو الإعلامي؛ ذلك أنه زبد لا يغني ولا يقني، بل عدت إلى تاريخ الحضارات والعلوم والمذاهب والأفكار من خلال موسوعاتها أو رجالاتها، أو ما ألف عنها من كتب، أو ما كتب فيها من مقالات ورسائل علمية محكمة، وما أجري حولها من لقاءات، وكان من بين ما رجعت إليه كتاب (عقائد المفكرين في القرن العشرين) للمفكر العربي الكبير (عباس محمود العقاد - ت 1964م) - رحمه الله -، ولهذا المفكر الفذ في نفسي كل الإعجاب وكل الإكبار، وهو في حياته وبعد مماته ظالم ومظلوم؛ فكل الذين قرؤوه لم ينصفوه، وأكثرهم قرأ عنه، ولم يقرأ له، وتلك من عثرات الأقلام. لقد عرفته قبل نصف قرن، ودخلت كتبه مكتبتي في وقت مبكر، فهذا الكتاب وضع عليه تاريخ الشراء عام 1388هـ.
وجناح (العقاد) في مكتبتي من أوسع الأجنحة لا ينازعه إلا جناح (طه حسين) و(عبد الرحمن بدوي) و(زكي نجيب محمود)؛ إذ يشتمل على كل كتبه التي ألفها، وطبعها في حياته، وما طبع له بعد مماته، وأكثر ما كتب عنه. وحين أقول: (أكثر ما كتب عنه) فإنني أعرف حجم ما كتب عنه، ولا سيما بعدما استعرضت السلسلة (الببليوجرافية) عن أعلام الأدب المعاصر في مصر، التي أعدها فريق عمل، تحت إشراف الأستاذ (حمدي السكوت) الذي نال جائزة الملك فيصل. وهو قد انفرد بإعداد ما يخص (عباس محمود العقاد) في مجلدين نيفا على ألف ومائة وخمسين صفحة، ليس فيها إلا عناوين الكتب والمقالات. وفيما يتعلق بالكتاب مجال الحديث (عقائد المفكرين في القرن العشرين) فإن ترتيبه يأتي بين مؤلفاته المطبوعة في حياته بعد أربعين كتاباً سبقته، ولعل هذا مؤشر على نضجه وسيطرته على معارف عصره. ولن أنقب عما كُتب عن هذا الكتاب من مدح أو قدح فيما كتب عن العقاد من رسائل علمية وكتب دراسية أو نقدية، والتي تجاوزت السبعين كتاباً في مصر وحدها؛ لأن ذلك يند بنا عما نحن بصدده.
والمتتبع للعقاد يجده في اللغة كمن ينحت من الصخر، وفي المعاني كمن يغرف من البحر؛ فهو حين يعزم على تناول ظاهرة فكرية تنثال عليه المعلومات من كل جانب، وتحتشد الكتب بمختلف اللغات. ولأنه لا يعتمد النقل، ولا يهتم بالإحالة، فإن القارئ المبتدئ لا يملك مجاراته. ولقد تجرعت مرارات المغالبة؛ إذ شدني (العقاد) وأنا غض الإهاب، وأحسست وأنا أجيل النظر في كتبه أنني أمام مطلسم لا يبالي بقارئيه، حتى لا أدري كيف السبيل إلى مراميه وأهدافه، ولم يكن في مقدوري إذ ذاك السيطرة على فكره، ولا السيطرة على غرامي بكتبه، ووجدت أن الحل الأمثل في التوفر على كتبه، وتركها مرصوصة في المكتبة يعلوها الغبار، حتى تتوفر القدرة على التفكيك والتشريح والتقويض، وحتى أمتلك أكثر من نظرية معرفية؛ فقراءة العقاد تحتاج إلى آليات قرائية تقدر على تثوير معارفه المتماسكة كما الصخر.
وحديثه عن (عقائد المفكرين) حصيلة قراءة مباشرة لما كتبوه بأيديهم؛ إذ لم يقع تحت رحمة المترجمين الذين لا يملكون القدرة على استيعاب الأفكار ولا القدرة على معضلات اللغات. وكل من يتلقى معارفه من المترجمين يكون مرتهناً لمبلغهم من العلم. و(العقاد) حين يعطيك تصوره للأفكار يدعم رؤيته بنقول في غاية الاختصار؛ ففي حديثه - على سبيل المثال - عن (مشكلة الشر) تجده يقدم رؤيته كمفكر لا يقل عن أساطين الفكر الغربي، حتى إذا وثق من تحرير موقفه، عطف على مَن لهم رؤية موافقة أو مخالفة، وهو في أمور كثيرة لا يحسم الإشكالية، ولكنه يتركها لمزيد من الإضافات. والذين يمتلكون ترويض جماح فكره يخرجون بنتائج إيجابية.
والكتاب - كما يقال - (معتصر المختصر)، وهو من الكتب المؤلفة، وليس من المقالات المجموعة، وميزة التأليف أنها تعتمد الخطة والمنهج والآلية والمراجع والمصادر، وتحتفظ بالوحدة الموضوعية والعضوية، وتبسط الحديث عن الموضوع، وليست كذلك المقالات أو الدراسات المجموعة بعد النشر أو الإلقاء. وللعقاد عشرات الكتب من هذا وذاك؛ ذلك أنه زهد بالوظائف، ولم يمارس التجارة، وجاء من (أسوان) إلى (القاهرة) شاباً معدماً مجهولاً تتقحمه العيون ويزدريه الكبراء، فكان أن اعتمد على قلمه في رزقه، وفي فرض وجوده، ومن ثم جذبته الصحافة واستهلكته، والعباقرة كالمجانين، لا تسعهم الوظائف، ولا تصبر عليهم النساء، فما باع نفسه بالتقسيط - كما يقول -، وما شغلته زوجة ولا ولد، ولسنا معه في شيء من ذلك، ولكنها حيوات العباقرة الشاذة والمفيدة في آن.
و(العقاد) الذي شدّني إليه صلفه وعنف مواجهته الأفكار والأناسيّ ليس معصوماً من الأخطاء الفادحة، والانحياز السلبيّ والدخول في اللعب السياسية أثناء المدّ الشيوعي، ولسنا بصدد الحديث عن جوانب حياته ومجمل أفكاره، ولكننا نودّ الحديث عن كتاب قرأته أكثر من مرة، وعدت إليه أكثر من مرة، وأحسست أنه من أصول الفلسفة الحديثة؛ لأنه يعرض - بالإيجاز - رموز الفكر الغربي الحديث، ويرصد التحولات الفكرية والعلمية كافة. وما من طالب علم وفكر يريد لنفسه التأصيل المعرفي إلا ويكون (العقاد) واحداً من أهم مراجعه، وغياب التأصيل للفلسفة الحديثة يعرض الدارسين للتيه، وذلك ما نراه ونسمعه. وتشكّل الثقافة من الكتبة المتسطحين يؤدي إلى ثقافة ضحلة متسطحة. وكتاب الصحف أو بعضهم على الأقل ممن تجذبهم الصحافة، وتحملهم على تنويع الموضوعات يكبرون في أعين الناس، وتصبح مقولاتهم حاسمة، وما هم في الحقيقة إلا منشئون لا يؤصلون لعلم، ولا يحررون لمسائل، فإذا تحدثوا عن القضايا والظواهر والمذاهب والمبادئ، ربكوا الأذهان، واضطربت من أقوالهم المفاهيم، وأدت كتاباتهم إلى التنازع بين القانعين بما يقولون. والذين يتوفرون على المعاجم والموسوعات والمترجمات وأمات الكتب والدراسات، ويتابعون ما يجدّ من قضايا وظواهر، ويحصلون على ما يكتب فيها وعنها تكون لهم رؤية صائبة فيما يكتب من مقالات ودراسات مرتجلة. ومكمن الإشكاليات الفكرية والسياسية والدينية في واحدية التلقي؛ بمعنى أن يقيد القارئ نفسه بعالم أو كاتب أو مصدر علمي ناقص، أو يكون مقلداً لفكر أو مذهب، يرى فيه العمق والشمول، وما هو كذلك، وإنما هو التعصب الأعمى والتزكية المتعجلة.
وحديثي عن الكتاب لا ينهض بمهمة العرض ولا التلخيص، ولكنه يومئ إلى حلقة مفقودة عند سائر الكتبة الذين يتصدرون القول في الظواهر الفكرية الغربية، وهم لم يتمكنوا من استكناه الجذور، ولا الإلمام بمتطلبات القول عن المفاهيم، وفي هذا تضليل وإرباك.
والراصد لفيوض الحديث عن (الغربنة) وسائر مفرداتها من عشرات الظواهر والمذاهب والمصطلحات يصاب بخيبة الأمل؛ ذلك أن أكثر المتحدثين يخلطون بين المبادئ والتطبيقات، ويعولون على إيجابيات الممارسة لتزكية الآخر، ولا يفرقون بين (الأيديولوجيا) والإجراء، وإذا حددوا مفهومهم للظاهرة تبين أنهم مثقفو مساع، وليسوا مؤصلين للمعارف؛ فهم ثملاً يتصورون أن (الحداثة) مجرد التجديد، والدليل على ذلك وصفهم الخصوم بالتقليديين، وهم يتصورون أن (الليبرالية) مجرد التوفر على الحرية وعصرنة الدساتير؛ ولهذا يصفون خصومهم بالرجعيين أو الماضويين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الديموقراطية) وغيرها، ومصدر المشاكل التعويل على المتداول الإعلامي، والركون إلى الشعارات الثورية. والعلماء والمفكرون يقصدون بحار العلوم، (ومن قصد البحر استقل السواقيا). ومن لم يوظف الجهد والوقت والمال لمتابعة ما يجدّ من الدراسات والمعاجم والموسوعات والمترجمات لا يقدر على استبانة الرشد، وسيظل يخبط في بنيات الطريق كما العشواء.
وكتاب (العقاد) الذي تداعت معه هذه الهواجس يضع قدم الباحث على المحجة، ويمكنه من الرصد الدقيق لتحولات الفكر، ومع أنه يقع في مئة وسبع وستين صفحة فإنه يمكن الباحث من ترائي فضاءات الفكر المعاصر، ويغريه بالبحث والتقصي عمن ذكر من الأناسيّ والمبادئ. و(العقاد) لا يفصّل القول، ولا يحمل همّ الشمول؛ فالعقائد والفلسفات متاهات داخلها مفقود وخارجها مولود، على حد: (نهاية إقدام العقول عقال). و(العقاد) الذي يملك جَلَد المثابرين، ونباهة العبقريين، يلمّ بكل المنجز الفكري، ويعرف دخائله وأصوله. ومصائب المشهد الفكري المعاصر أن سواده الأعظم لا يتجاوزون سقط المعارف، وحين يتحدثون تتفرق بهم سبل المفاهيم ونظريات التأويل والتلقي. والمقتصر على ذلك النوع من النثار أشبه بالمجتث من فوق الأرض، لا يكون له قرار. وما صعّد الخلاف، وأشعل الجدل إلا المتسطحون على المعارف، وكل متابع تعدو عينه إلى جذور النظريات وأصولها ومرجعياتها وأنساقها يريح ويستريح؛ لأنه يقطع قول كل خطيب. و(العقاد) من هذه النوعية القليلة، وسواء اتفقت معه، أو لم تتفق، فإنك لا تجد بداً من احترامه.
وإذ يتحدث في كتابه المركز عن (عقائد المفكرين) فإنه يحاول تحديد مفهوم (العقيدة). وبعد مجمل التساؤلات يقرر أن العقيدة في بحثه تعني: مشمول الوجدان، وطريقة الحياة، وحاجة النفس، وهي تتجلى بالتقديس والتصديق والتسليم، ويمحّصها الإدراك والشك ثم اليقين. وحرصه على التكثيف والإيجاز لم يمنعه من إطالة الحديث، واستعراض مجمل الرؤى والتصورات عند علماء النفس والفلسفة والتاريخ. وتجلية عقائد المفكرين في مقطع زماني أو مكاني تتطلب التحقق من الأنساق والسياقات، وقد سماها العقاد (سمة العصر)، وأبرز سمات العصر طغيان سلطان العقل وسلطان العلم.
وهو قد صوّر التحولات على النحو التالي:
- هيمنة سلطان الدين.
- ثم هيمنة سلطان العقل.
- وأخيراً هيمنة سلطان العلم.
وقد حصر أسباب التحول العقدي في خمسة أمور:
- اكتشاف مركز الأرض في منظومتها.
- ظهور القوانين المادية.
- مذهب النشوء والارتقاء.
- مقارنة الأديان.
- مشكلة الشرّ.
ولقد تناولها بشيء من التركيز، ولم يكن - فيما أعلم - متحدثاً عن مجرد العقيدة، ولكنه أراد أن يرصد التحولات العقدية؛ فالغرب قبل التنوير كان (لاهوتياً) تقوده الكنيسة، وأثناء التنوير ساد العقل، وتخلف النص، ثم تخلف العقل والنص، وساد العلم، وكانت المادة وقوانينها مجال التفكير والبحث. وكنت أتوقع منه أن يؤخر الحديث عن قوانين المادة؛ ذلك أن عقائد المفكرين حطت برحالها عند تلك القوانين، وإن كانت المكتشفات قد أسقطت الكثير منها، ولما جاءت (النسبية) كادت تنهد معها كل القوانين. وأمتع بحوثه ما كتبه عن (مشكلة الشرّ)، وهو حين تناولها، من خلال الحكمة والعدل والأسس، تقصاها عند فلاسفة الغرب، ولم يعرج عليها في الفكر الإسلامي. ومنهجية البحث لا تقتضي ذلك، وهو قد نهج الطريق ذاته عندما تحدث عن (نظرية النشوء والارتقاء)، وللفكر الإسلامي رؤية مسددة في قضية (الخير والشر) قد نتقصاها في مقال لاحق.
ومثلما فعل مع تحولات العقائد، فعل في كتابه (إبليس)؛ حيث أخذه الحديث عن تاريخ الشيطان كرمز للشر، ولكنه - كما هو في كتابه (الله) - لم يتحدث عن فلسفة (الخير والشر)، ولا عن (الفلسفة الأخلاقية) بالقدر الكافي. وأحسبه معنيّ بتحرير عقائد المفكرين في حقبة محدودة ومكان محدود. وإشكاليات الخير والشر تتنازعها حقول (الناسوت) و (اللاهوت)، وما لهما من فلسفات ومثاليات.
ومحصلة القول: أن نتجافى في تناول القضايا عن السماع المبعثر، ومن أراد تحرير القضايا والتأصيل لها فعليه أن يتحمل عناء القراءة الشمولية المعمقة، أو ليدع ما للعلماء للعلماء، وما للعامة للعامة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل