يسير الحساب لمعرض الكتاب
د. حسن بن فهد الهويمل
سيُقال فيه وعنه معلقات ينطح بعضها بعضاً، تمجد حتى التقديس، وتحز حتى العظم، وقد يكون القول ونقيضه صحيحين، فالكتّاب كالمصورين، يلتقطون صورهم من زوايا مختلفة، ومن أبعاد متباينة، يعجب الذواقين بهاؤها، فيما يشمئز منها آخرون. والقصر المشيد لا يخلو من صناديق النفايات. وليس هناك امتياز مطلق في أي عمل، فمن تملكته المحاسن شهد بما علم، ومن تعثر في الإخفاقات سلقها بلسانه، والراضي يحكي أحسن ما يعلم، والساخط يروي أسوأ ما يرى، فالحامد صادق في الأولى، والشانئ ليس كاذباً في الثانية. وهذا هو الصدق المتعدد الذي حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على القول: (إن من البيان لسحرا). والعمل الاستثنائي كالشخصية الاستثنائية، تكون هوة الاختلاف حولها شاسعة، وتلك مؤشرات التميز والعبقرية.
هذه التوطئة صدقة بين يدي نجواي، هدفها تهيئة النفوس، وتطييب الخواطر لما سنرصده من قول يتداوله الناس فيما بينهم عن (معرض الكتاب)، و(وزارة التعليم العالي) لم تقض نحبها بحيث نستجيب لذكر محاسن الأموات. إنها حية فاعلة وقادرة على مزيدٍ من المبادرات، ولكيلا نغمطها حقها نقول: إن هذا المعرض يعد استثنائياً بالنسبة لكافة ما سلف من المعارض، ففريق العمل الذي أنجز، وتابع، لم يركن إلى تسليع الكتاب وحسب، وإنما حاول جاهداً الاحتفاء به، وإيجاد هوامش تفوق المتن، فكان أن تحول المعرض إلى تظاهرة ثقافية، التطمت فيها الآراء، وتباينت التصورات. فالهدف الأساس للمعارض تجميع أكبر عددٍ ممكن من دور النشر العربية تحت سقف واحد، وتمكين المثقفين والباحثين من الحصول على مبتغاهم دون عناء، وبأسعار مغرية. ومثل هذه الاستجابة لا تبرح تسليع الكتاب، غير أن الوزارة ومن خلال جهود استثنائية سبقت ظلها - كما يقول - وأحدثت تغييرات وإضافات، أعطت المعرض قيمة حضارية، تمثلت باستضافة العلماء والمفكرين، وتنفيذ المحاضرات والندوات، وتكريم الأحياء والأموات من الرواد والمؤسسين.
هذه المخاضات غير المألوفة كادت تخلط الأوراق، وتبدي أعناق الآراء المتناقضة إلى حد التناحر، وتكثر التساؤلات إلى حد الإحراج. ومن الناس من لا تعجبه الهوامش، حتى يبيح لنفسه إحالة مثل هذه المبادرات إلى شكليات لا تضيف شيئاً. وهذا البعض المتحفظ من الذين لم تصل إليهم هذه المبادرات، أو لم تصل إليها أيديهم، أو أنها لا تجمجم عما في نفوسهم. وقد يكون من وراد المعرض من لا يعنيهم مثل هذه اللمسات. فهم يودون توفير الجهد والوقت لذرع المعرض جيئةً وذهاباً، ومعرفة المستجد من المطبوعات والترجمات. وإذا كان هواي مع من يودون إطلاق أيديهم وأرجهلم في فجاجه، وتركهم ينقبون عما يشتهون، فإن الهوامش مجدية ومهمة ولا سيما أن الفعاليات ذات أنواع، تمثلت بالمحاضرات والندوات والأماسي وورش العمل وحفلات الافتتاح والتكريم، وأدت في النهاية إلى التعارف، وتجاذب أطراف الحديث التي تشغل حملة الهم الفكري والأدبي وصناعة الكتاب. والذين استقبلوا تلك المبادرة بالمباركة، وقف إلى جانبهم من تساءل عن التعددية، ومن طالب باستيعاب كل الأطياف. والمؤسف ما بدر من تنازع أفقد بعض الفعاليات ألقها. وأملي أن تمحص كل المواقف وكل الأطراف بحيادية تامة، لكيلا يتسع الخرق على الراقع، وأن يكفل حق التعبير لكل الأطياف، متى كانت في إطار المعقول والمباح الممكن، وألا يترك الحدث يمر بدون حسم، فما أسوأ أن يرمَّ الجرح على فساد، وإذا كان الاختلاف ممكناً فإن ضبط الإيقاع وحفظ التوازن أمكن.
ولا شك أن هذه الهنات لم تعكر صفو النجاحات، ولا أحسب تلك التجهيزات المثيرة قد جاءت من فراغ، إنها مخاض جهد استثنائي جندت له فرق عمل، ووفرت له الإمكانات، ومهما استكثرنا ذلك فإنه أعطى الوافدين صورة مشرفة عن المؤسسات الثقافية في المملكة، ومكنت المثقف من التواصل مع أطياف الثقافة داخل الوطن وخارجه. وإذا كنا نتداول مفاهيم خاطئة عن حرفة الأدب وصناعة الكتاب، ونمعن في التزهيد والتخويف فإن (وزارة التعليم العالي) عمدت إلى تكسير هذه المسلمات، وأثبتت أن الأدباء والمفكرين ودور النشر من الممكن أن يكونوا على شيء من اليسار والرفاهية، بحيث تتمتع بزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق.
كل ذلك الإنفاق، وكل ذلك الترتيب، وكل ذلك الإخراج الرائع واللمسات الفنية المبهجة لا تحول دون استدعاء الملاحظات، والرصد الدقيق لما يتناجي به القوم في مجالسهم، فأحاديث المجالس مرايا مقعرة ينظر فيها الإنسان كل تجاعيده، ومن تهيبها وازور عنها، ظل كما هو. والتقاط المتداول من الأحاديث المادحة أو القادحة إنما لتكون حاضرة المنظمين للمعارض القادمة، وسوف لا نقتصر على الملاحظات، ولكننا سنخلط ذلك بشيءٍ من التطلعات.
ومما هو مجال لغط يقترب شيئاً قليلاً من الفضولية تلك الشكليات في المواقع الدعائية، حيث استحوذت على مساحة واسعة. ولقد سمعت الدكتور عبدالله المعجل في (خميسية حمد الجاسر) يشكو من ضيق المكان. وتجلي الاستعراض الباذخ بشكلٍ لافت للنظر، قد يكون مقبولاً إذا لم يكن على حساب المهمة الأساسية، فالبعض يود أن يكون المعرض خالصاً للعرض والطلب، وأن يخلي بين المثقف والكتاب، فالمسألة في النهاية عرض وطلب، وإن كان ثمة جهد وإمكانات فإنه يجب صرفها لمزيد من الرقابة على البيع الجشع. فالغلاء الفاحش سمة ضاق بها ومنها رواد المعرض، ولقد شهدت ذلك، وسأضرب مثلاً بكتاب (الفسر) وهو شرح (ابن جني) لديوان (المتنبي) لقد اشتريته ب(250) ريالاً خارج المعرض، وهو في المعرض ب(350) ريالاً، وقس على ذلك، ولقد بدا تضارب الأسعار وتراجع المسوّقين أمام المساومات، وإني لخبير بذلك عن قرب ف (نادي القصيم الأدبي) خصص مائة ألف ريال للشراء، وهذا الجشع والتلاعب اضطرانا لإيقاف الشراء عند نصف المبلغ المخصص. والملاحظ أن المكتبات المحلية عرضت بضاعتها المتداولة خارج المعرض، ولم تسع للاستعداد للمعرض ببضاعة جديدة، والشاذ لا يكسر القاعدة.
وإذا خرجنا من متن المعرض إلى هوامشه وجدنا الناس مجمعين على أهمية التكريم وإنسانيته، ولكنهم مختلفون أشد الاختلاف حول آلية اختيار المكرمين، ومن حقهم جميعاً أن يتساءلوا، وأن يلحوا في التساؤل عن المعيارية والضابط. فهل المعيار السن، أم الاستفاضة، أم الكثرة، أم الجودة؟ وهل للمناطقية والتنوع الفكري دور في ذلك؟ لقد استعرض المعنيون الأسماء، ولم يكن هناك خلاف حول أهلية المكرمين، ولكن الاختلاف حول الأولى بالتكريم، وحول الضوابط، وحول من لم يكرم، ممن هو حقيق في نظر البعض.
أعرف جيداً أن المعايير والضوابط لا تكون فاعلة حتى تكون محددة وصارمة، وحين تكون كذلك، يكون لها ضحاياها، ولكن المسألة ليست حول من تقصيه اضطراراً. فإذا كان للمناطقية اعتبار فإن من في الحجاز أو في الرياض يفوق العدد المطلوب، وإذا كان لتنوع الأطياف الثقافية والفكرية اعتبار فإن عند كل طائفة ما يفوق المستطاع. نحن نعرف ذلك كله، ونقدر ذلك كله، ولكن الأمر مختلف جداً، وأرجو أن يعيد المعتمدون لقوائم التكريم ما قدم لهم، ليعرفوا أن فريق العمل المكلف للاختيار لم يكن مستحضراً الضوابط الدقيقة، ولا أشك أنه وقع في خطأ الاجتهاد المأجور.
قلت - وسوف أكرر ما أقول - إن الذين كرموا أهلاً للتكريم، فهم أصدقاء وزملاء وأساتذة، وهم قبل ذلك مواطنون قضوا شطراً من حياتهم في خدمة الفكر والأدب، ولكن الأهلية غير الأفضلية، وشرعيتها لا تسقط حق الذين تقحمتهم العيون، وكل الذي أتمناه ألا يتصور البعض أنني أتطلع إلى شيء من ذلك، ومتى طبقت رؤيتي أصبح بيني وبين التكريم أمد بعيد. ويعلم الله أنني أشد حرصاً على إنصاف الآخرين والوفاء بحقوقهم، ولقد لقيت من التكريم فوق ما أستحق، فلله الشكر من قبل ومن بعد. والاستياء يكبر حين يسمع ذوو المتوفين أن ذويهم قد ظلموا دون قصد، أعرف جيداً أن من نُسي لم يتعمد أحد نسيانه، وإذا كان النسيان لا يؤاخذ به الناسي فإنه لا يشفي صدور المنسيين. ويقيني أن الذين كلفوا بالاختيار أو استؤنس برأيهم، ذكروا من يحضرهم، ولم تكن بين أيديهم معايير وضوابط تحقق العدالة المنشودة عند الجميع، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. لقد صرف النظر عن مبدعين ومؤرخين وأساتذة جامعيين متقاعدين وعلماء أمدوا المعرض بمؤلفاتهم العلمية، وإذا كان في النية استمرار التكريم فإنه من الحتم المقضي تكوين مجموعة من المتخصصين الفاعلين في المشهد والمتابعين لتقبل قوائم الترشيح من سائر المؤسسات الثقافية كالأندية والجامعات، ومن أفراد لهم حضورهم الفاعل، ومن موسوعات راصدة، ومهمة اللجنة تقتصر على ممارسة عملية الترجيح، ولعل المسؤولين يأنسون بأسلوب مؤسستي: (المهرجان الوطني)
و(الحوار الوطني) إذ تعتمدان في الترشيح والتكريم على مجموعة المشورة من مختلف الأطياف، ويعقب ذلك لجان اختيار وتحكيم.
لقد توقعت أن يكرم لفيف من الأحياء والأموات، كنا ولما نزل نعدهم من الأخيار، وما كنا نتوقع أن تزيغ عنهم الأبصار. ونقطة خلاف أخرى فلقد خُص بالتكريم الأدباء من نقاد وشعراء وسرديين، و(معرض الكتاب) يتسع لشرائح أخرى، فأين العلماء؟ وأين الموسوعيون؟ وأين المؤرخون؟ وأين محققو التراث؟
وأين أساطين العلم البحت من أطباء ومهندسين؟ فما دامت الفعاليات على هامش معرض الكتاب فإن الكتاب ليس حكراً على الأدباء. ولقد ثار التساؤل نفسه قبل سنوات حين سنت الدولة سنة حسنة، تمثلت بجائزة الدولة التقديرية للأدباء، فكان تساؤل من سواهم من الفقهاء والمؤرخين، الأمر الذي أوقف تلك البادرة الإنسانية إلى حين وضع نظام وآلية.
ومن همِّ التكريم إلى همِّ التسويق، ومن الإشكاليات المتداولة قضية الرقابة على الكتب، ومنع بعض الإبداعات السردية، وبعض الكتب الفكرية والسياسية والدينية، والناس في هذا الشأن أوزاع. فالذين لديهم نفس (ليبرالي) لا يرون مشروعية الرقابة من أساسها، والذين يعدون أنفسهم تنويريين، يطالبون بحصر الرقابة في أضيق نطاق، والذين يسمون أنفسهم بحراس الفضيلة يطالبون بتشديد الرقابة، ويرفضون الفوضوية، ويؤكدون على حق السلطات الثلاث: السياسية والدينية والاجتماعية. ولما كانت نقاط الاختلاف متباينة ومتعددة فإن المسؤول يظل في حيرة من أمره، ولعلنا نقتصر في الحديث على (مشروعية الرقابة) وحدودها، وحين نؤكد على مشروعيتها، ندخل في جدل القدر المشروع.
وإذ تكون المشروعية صنو السلطة فإن الخلاف حولها مساس بحق السلطة، نحن نرى مشروعية السلطة، ونرفض التسلط، وحين تكون الرقابة من مقتضيات السلطة فإن ضبطها يقي من التسلط، ولتلافي الإفراط والتفريط لابد من وضع ضوابط متوازنة، وأن تفرق في الرقابة بين الاقتناء الشخصي والتسويق العام. على أننا نكاد نختلف حول مفهوم الحد المقبول، وهذا الاختلاف يصعد نبرة الجدل، ويعمق هوة الخلاف. لقد أحسست أن تداول هذه القضية جاء في غياب الفهم السليم لحق الرقابة. وإذا كان (الليبراليون) يباركون الرقابة على الأغذية والأسعار، وإذا كان الغذاء الفاسد يضر بالأجسام، وإذا كانت المغالاة في الأسعار تضر بالأموال، فإن الأفكار السليمة المستقيمة تتضرر بالعهر والتطرف والغلو، كما أنها تتضرر بالتسيب والتمييع وترك الحبل على الغارب. وحماية الأفكار أهم من حماية المعدات والجيوب، والكافة محكومون بالأوامر والنواهي، والمحظورات والمباحات، والفوضى غير الحرية، والسلطة غير التسلط، ولا يصلح الناس فوضى، والحضارة لا تتحقق إلا بالمكاره، كما الجنة ومحفوفها.
ولما كان العمل مظنة الاختلاف فإن على الذين يتصورون أنهم حين يجودون بمبادرات استثنائية يكونون ملء السمع والبصر أن يعرفوا أن لكل عمل مهما كان تألقه تبعاته التي قد تثير أكثر من تساؤل، وكم من عمل خير يود صاحبه أنه لم يفعله. إنني مشفق على الطيبين الذين يراهنون على الكسب، ومشفق أكثر على الذين يظنون أنهم سيخرجون من الزفة لا لهم ولا عليهم. وكيف لا يتحقق أقل الكسب، وهم يفعلون ما يفعلون بصدق وإخلاص وتفانٍ، فما عملوه لوجه الوطن الذي بوأهم أسمى المناصب، وعليهم أن يتذكروا قوله تعالى

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (2) سورة العنكبوت.
لقد سمعت لغطاً كثيراً يذكيه متناحرون في الآراء، ومن حق الزملاء في وزارة التعليم العالي علينا ألا نكتمهم الحديث، وأن نصدقهم القول، فما حصل على هوامش المعرض يحتاج إلى تجميع وتقويم وتمحيص. ولا يجوز بحال إحالته إلى الشغب أو ضيق العطن، أو إلى النوايا السيئة، ذلك أن مجرد الإحالة تصعيد للخلاف، والمختلفون مواطنون، لهم رؤيتهم التي يجب أن تسمع بصدر رحب، وليس شرطاً أن تُقبل.
وخارج إطار المسؤولية المحدودة نجد أننا أحوج ما نكون إلى (مدينة معارض) تكتمل فيها البنية التحتية، وتتوفر على كل المتطلبات، بحيث تتسع للمعروضات كافة من كتب وصناعات ثقيلة وخفيفة، ومن حولها مواقف للسيارات، وتشتمل على مطاعم ومساكن للوفود، ومستودعات، ومصارف، وقاعات محاضرات، وساحات عرض، ومسارح عروض، وإسعاف، ومطافئ، وأمن، وكمرات رصد، فالمواقع المؤقتة تؤذي المسؤول والمستفيد والمتسوق، وتحتاج في كل عام إلى جهد يضيع سدى بمجرد انتهاء المناسبة، وتلك مسؤولية رجل المهمات والمبادرات ومهندس الرياض (سلمان بن عبدالعزيز)، وأحسب أنه حان الوقت لتشكيل
(هيئة للكتاب السعودي) تنهض بمهمات المعارض والترجمة وسائر متعلقات صناعة الكتاب، وليس هناك ما يمنع من تفعيل (جمعية الناشرين السعوديين)، وتشكيل هيئة مؤقتة من المؤسسات ذات الشأن الثقافي، حتى يتسنى إنشاء هيئة مستقلة لها نظامها ولوائحها، وأخشى أن ينطبق علينا المثل الغربي: - (لا يدوم إلا المؤقت).