حمزة شحاتة.. حياته من شعره
بقلم : د. حسن بن فهد الهويمل
لكل ناقد مناطه في عوالم المبدعين. ومناهج النقد وآلياته لا يقر لها قرار، فهي في تحول مستمر، إلا أن طائفة من المتلقفين لا يحسنون استثمارها، ومن ثم فإنها مع كثيرٍ منهم لا تشكل ظاهرة حميدة، وتنقل مركزية الاهتمام بين النص والمؤلف والمتلقي، شتت شمل النقاد، وإن أثرت المشهد. ولعل أقرب المحطات إلى نفسي محطة النص بوصفه لغة، ولكنه ميل لم يكن على حساب منطويات النص الأخرى، كالبعد الفني، والبعد الدلالي.
وحين عزمت على خوض عوالم الشاعر (حمزة شحاتة 1328 - 1390هـ، 1910 - 1970م) تنازعتني عدة رغبات تقتسمها: عوالم النقد وعوالم الشاعر.
فأي الزوايا التقط؟ وأي المناهج اعتمد؟ وإذ يشاركني الحديث عدد من النقاد فإن هاجس الفرادة يمثل الشغل الشاغل على المستويين: الموضوعي والنقدي.
وحين أختار التماس حياة الشاعر من شعره، يتبادر إلى الذهن كتاب (ابن الرومي حياته من شعره) للعقاد، وهو ناقد اعتمد المنهج النفسي في كثيرٍ من دراساته للشخصيات، وقد يمتد التذكر إلى كتبٍ أخرى ومقدمات ودراسات خصت الشاعر وشعره، وأطوار حياته: الخاصة والعامة، كعبدالله عبد الجبار وأبي مدين والغذامي وعزيز ضياء وبكري الشيخ أمين وصالح سعيد الزهراني وعاصم حمدان وآخرين. ومن ثم لا يكون قولي في الشاعر وشعره إلا معاراً أو معاداً. ولقد تذكرت ما ادعاه (طه حسين) حين كتب عن (المتنبي)، من أنه فرغ لشعر المتنبي، ولم يلتفت إلى ما كُتب عنه، مع كثرته وتشعبه، ولكنه حين شاع الكتاب بين أيدي الناس، ادعى العلامة (محمود محمد شاكر) وهو من هو في مصداقيته وصراحته وسعة اطلاعه على التراث أن (طه حسين) سطا على جهده، وسرق أفكاره، وعول على النتائج التي توصل إليها. والمستفيض على ألسنة الباحثين أن مشكلة (المتنبي) تكمن في نسبه، ولقد أطال الباحثان التنقيب في هذه المعضلة المستعصية، وأبديا براعة منقطعة النظير، وتوصلا إلى نتيجة في منتهى التناقض. والمتحدثون عن (حمزة شحاتة) لن يشغلهم نسبه بقدر ما تشغلهم أطوار حياته الغربية، وهجرته المغاضبة.
وحديثي (عن حمزة شحاتة) من خلال شعره لن يعول على ما سلف، فالذين تناولوه سمو به فوق هام السحب، وقصروا رؤيتهم على ما يتمتع به من مثاليات، وغضوا الطرف عن بعض ما وقع فيه من تجاوزات، طالت ذاته، وطالت من حوله. لقد أطلق عليه بعض الدارسين (الأنموذج)، ولأنه كذلك حسب تصوره، فقد كثرت إخفاقاته في فهم الحياة، ولم يوفق في مصاحبته للأحياء. وحرصاً مني على اتخاذ منهج مغاير فإنني قد أستعين ببعض آليات ما قد سلف، ولكنني لن انتهي إلى ما انتهوا إليه. والشاعر لم يحتفِ بشعره، ولم يعبأ بحفظه فضلاً عن أنه يتكلف عناء جمعه، والضائع منه ضعف ما أخرجه المتطوعون للناس، ولم يكن ك(شوقي) الذي انتقى الشوقيات ثم تعقبه من أخرج (الشوقيات المجهولة)، وهذا النزر اليسير لن يعطي الصورة الحقيقية عن حياته التي نلتمس. وإذ لم يكن من شعراء الواحدة فإنه لم يكن من المكثرين، وإن تبذل في بعض قصائده، وشعره المجموع لا ينهض بمهمة إبراز حياته، وأمام كل المثبطات فلن انثني عما عزمت عليه. والشعر فيما أرى لا يكون شعراً إلا إذا توفر على أربعة مكونات تتمثل ب:
- الموهبة
- والثقافة
- والموقف
- والأجواء
فالشاعر لا يكون شاعراً إلا إذا كان موهوباً، وهو حين يكون كذلك لا يقول إلا ما هو شعر متفق عليه. والشاعر لا يثري نصه ما لم يكن مثقفاً ثقافة تأصيلية، تتسم بالعمق والشمول والتعددية، وقد ينعكس الأثر المعرفي على الشعرية، فيعيق لغة الفن، كما حصل عند (المعري). والموهبة لا تجود بما يمتع ويفيد حتى تستدرها المواقف، وسيان في ذلك موقف الفرح أو الترح، الرغبة أو الرهبة. والشاعر لا ينطلق على سجيته حتى يأمن على نفسه وعلى سمعته، ولا يأمن إلا حين تتوفر الأجواء الملائمة، وتخف من حوله حدة المراقبة. وشاعرنا ألّم بتلك العناصر كغيرة من الشعراء، وإلمام أي شاعر بتلك العناصر يؤكد المصداقية، ويجعل الشعر جزءاً من حياة الشاعر. ولقد تكون وجدانيات الشاعر أقدر على كشف حياته ومعاناته، أما شعر الغزل فهو يراوح بين الفعل والافتعال والانفعال، ومن الصعوبة بمكان القطع بالمصداقية.
ومن الشعراء من يفترض وجود المعوقات فيحتبس شعره أو يتعثر، وقد يبلغ به الارتياب ذروته، فيأتي شعره إدانة لواقع غير مدانٍ، نجد ذلك عند (المعري) في القديم، وعند (الفقي) في العصر الحديث، كما نجد أطرافاً منه عند شاعرنا، وقد يكون ذلك بعض ما عول عليه بعض الدارسين له. وعلى الرغم من أن الشاعر قد توفر على تلك العناصر، فإن لم يفرغ للشعر، ولما فرغ له بعض الوقت لم يحفل به، وإنما عده لحظة تأمل أو تحسر، وهو في التأمل والتحسر يسجل موقفه من الحياة، ويرصد مرحلة من مراحلها. وإذ لم يعتزل الناس، فقد جعل إلمامه بهم حالة من السخرية. فهو الشاعر الساخر الهجاء حين يختلط بالناس، وهو المتأمل المثالي حين يعتزلهم، وشعر التصور والتأمل حفز بعض الدارسين إلى التماس فلسفة الجمال عنده، ورؤيته الجمالية جزء من حياته، فالنظرة الفلسفية تحوّل الشاعر إلى مسيّر غير مخيّر في رؤيته للحياة والأحياء.
ولو تلمسنا موقع الشاعر (حمزة شحاتة) من خلال تلك المكونات الأربعة لوجدناها تلم به تارة، ويتخلف بعضها عنه تارة أخرى، وهذا التفاوت انعكس على شعره. ورديء الشعراء الكبار ك (المتنبي) مثلاً مرده إلى تخلف بعض تلك العناصر أو ضعفها. وليس بناقدٍ من يطلق كلمات الثناء دون استثناء، ومن يجعل من نفسه محامياً يذب عن الشاعر، ويترقى به صعداً إلى مدارج الكمال. وإشكالية المشاهد النقدية أنها محكومة بالرضا المطلق أو بالسخط المعمق، وكأن مصير الناقد مرتبط بمصير المدروس تألقاً أو إخفاقاً، وهذا ما أعانيه في كثيرٍ من الرسائل العلمية التي أتيحت لي مناقشتها. وتعاملي مع شعر (شحاتة) لم يضطرني إلى افتعال القول، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن رديء شعره قد يرقى إلى جيد غيره، فهو شاعر أمكن، ولكن الإمكانات لا تحول دون الوقوع في هنات ينفذ من خلالها النقاد.
وحين عقدت العزم على التماس حياته من شعره، لم أشأ استكمال ظروف تلك الحياة ومراحلها، فالشاعر له حياته التي فرضتها حالته النفسية الناتجة من ظروف حياته الاجتماعية والعملية، وما تصوره من تفريط به، وكأنه الشاعر الذي قال عن قومه: (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا). والإحباط الذي يعاني منه مرده إلى تصوره للأشياء وموقفه منها، ويكفي دليلاً على اضطراب حياته إخفاقه المتواصل في حياته الزوجية، وهجرته المغاضبة. فالمتشائمون والمتفائلون هم الذين يقرؤون الوقائع والأحوال وفق رؤيتهم. بحيث يكون الحدث الواحد والظرف الواحد له معطيات مختلفة. فالماء الجاري يصطبغ بتربة المجرى، ليكون ملحاً أجاجاً، أوعذباً فراتاً. ولهذا ليس من الإنصاف أن نتصور الحياة كما يتصورها البعض من الشعراء الحادي المزاج، ولا أن نتخذ الشعر وحده مرجعية مطلقة لتجسيد الواقع، ولكن الربط بين الشعر والوقوعات الثابته يعزز بعضها بعضاً. فالشاعر حين يمسه الفقر أو المرض، أو حين يرتطم بنتوءات السبيل، يتصور أن تلك سمة الحياة مع غيره، وليس هذا التحفظ مقصياً لدلالة النص الشعري، ولكنه ضابط للتعامل معه. وقراءة شعره تعطينا مؤشرات ذاتية، بمعنى أنه يمثل رؤية الشاعر لمحيطه، بصرف النظر عن سائر الرؤى الأخرى. ودراسة الأستاذ (عبدالله عبد الجبار) المبكرة أعطت مؤشرات إلى واقعيته، والواقعية مذهب اضطربت حوله المفاهيم، فهناك الواقعية الاجتماعية والاشتراكية والفنية, ويبدو لي أن واقعية الشاعر أميل إلى الاجتماعية، وإن عرف عنه الشموخ والتعالي والنزعة (الارستقراطية) ولأن حياة الشاعر تعتمد المزاجية فإن مستويات الحالة النفسية تتفاوت من قصيدة لأخرى، وهذا التقلب المزاجي لم يؤثر في سائر الوحدات الفنية: موضوعياً ولغوياً ونفسياً. فالحوافز النفسية قد تؤدي إلى فك المسحة المهيمنة. ولو ضربنا الأمثال ببعض الشعراء الذين طغت حالاتهم النفسية على شعرهم أمثال (أبي العتاهية) و (المتنبي)
و(المعري) لوجدنا أن هناك فترات خلصوا فيها من السمة النفسية. وفي العصر الحديث نستطيع أن نضرب المثل بالشاعر السعودي المكثر (محمد حسن فقي)، ومع إغراقه في التشاؤم والإباء والثورة النفسية، إلا أنه في بعض الحالات، يند بشعره عما هو شائع من سمات دلالية ذات طابع نفسي.
وعندما نجاوز الإطلاقات، ونعمد إلى الشواهد من شعره، نجد أن لكل قصيدة حوافزها النفسية، وضغوطها الاجتماعية، وأجواءها المحفزة. والذين يودون التماس حياته لا بد أن تعدو أعينهم إلى إسهاماته السردية، وبخاصة كتابه (الرجولة عماد الخلق الفاضل)
و(رفات عقل) و(إلى ابنتي شيرين) و(حمار حمزة شحاتة) إذ تمثل جماع رؤيته، إضافة إلى ممارسته التطوعية في مطلع شبابه، ويقيني أن تفكيك قصيدة من مطولاته ينبئ عن رؤاه وتصوراته. ولعلنا نشير هنا إلى قصيدة (تأملات) التي جاءت على شكل أشواط دلالية، تفيض بالتساؤل والتعجب والحكمة. والقصيدة مؤشر على اضطراب نفسي، واستياء من التقلبات، فهو يتطلع إلى المصرّحين بعد الصمت، ويعجب من ذوي العدل الظنيين به عندما اقتضاه المستضام، ومن المتّقين الذين لا يدفعون بالحجة في لجة الشك، ومن تساؤل الحكيم الاستنكاري عن الغرام والحسن، ومن عبودية المال والجاه والهوى. وكأنه يستوحي حديث (تعس عبد الدرهم...) إذ يقول: (فماتت دواعي الكبر فينا... فما نحن؟) هذا الحشد من التساؤلات التقريعية توحي بالضيق والشك والرفض واحتدام المشاعر. فهل تلك السمات سائدة في شعره, أم هي عرض زائل؟ لا أشك أن الشاعر مر بحالات من الانكسارات التي أحس أنه ضالع فيها، ومن ثم نجده يلوم نفسه، ولكنه لا يصل إلى جلد الذات.
والتساؤل المشروع أن نستبين ما إذا كان ذا خليقة تخفى، حتى لا تعلم إلا من خلال شعره. الحق أن شعره نفثات مصدور، أرهقه واقعه. لقد كانت له طموحات ترفس تحت وطأة الواقع غير المواتي، فكل قصيدة تنم عن معاناة نفسية, وقصيدة (تأملات) من أوضح الشواهد على اضطرابه النفسي، ولأنه يعتمد التفصيل، ولا يكتفي باللمحة، فقد اتكأ على (قافية النون)، وهي من قوافي المطولات، ومع أن القصيدة ذات أشواط عشرة، إلا أنه لم يعمد إلى تحويلها لرباعيات أو سداسيات على شاكلة الشاعر (الفقي) الذي اشتهر بذلك. والذين جمعوا شعره نظروا في ظواهر القصائد ومطالعها، وظنوا أنهم قادرون على تحديد المعاني في (الوجدانيات)
و(الغزل) و(الملاحم) و(المنوعات)، وهذا التقسيم مع سذاجته يوحي بعدم استكناه الوحدة الموضوعية التي تكاد تنظم الديوان كله، وهو الهم الذاتي، أو الذاتية المسكونة بالكبرياء والألم والإحباط. وفوق ذلك فإن الشاعر عميق الثقافة، متعدد الاهتمامات القرائية، ولا شك أن الخلفية الثقافية لها انعكاساتها على التصورات، وهذا مؤشر دلالي، قد يند بالناقد، ويحول دون تحديد ملامح حياته.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|