الدامغ في يوم تكريمه
د. حسن بن فهد الهويمل
كان بودِّي أن أكون معكم لأفوز بلقاء يعزُّ عليَّ فواتُه، وما كنت لأفرِّط في احتفائية كأنها لي لولا ظروف سبقت. وكلمتي تلك ليست اعتذارية وحسب، إنها مشاطرة محب فوَّت على نفسه أكثر من فرصة، وحين حبَّب إليَّ القائمون على هذا المركز الثقافي المشاركة العملية في تكريم الشاعر القدير والصديق العزيز إبراهيم بن محمد الدامغ، والاشتراك مع أخوين عزيزين: زميل اليوم وتلميذ الأمس الدكتور إبراهيم المطوع، والصديق والشاعر الرقيق الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السماعيل؛ أقول حين حبَّبوا إليَّ المشاركة على أي شكل أحسستُ أنني مقصِّر في حق المركز والشاعر؛ إذ هما أصحاب الفضل، ولي كل الشرف أن يكون لي ولو مفحص قطاة في هذا الاحتفاء بشاعر نعزُّه ونسعد بالحديث عنه.
لقد عرفتُ الشاعر الدامغ في مطلع حياتي الأدبية، وأعجبني في شعره روحه الحماسية، وصفاؤه الموسيقي، وصدق مواقفه. وكنت ولما أزل أذكر الأماسي العذاب التي كان يحييها الشاعر أو يشترك فيها، ولما أزل أذكر الاستقبال الرائع لروائعه. لقد كان الدامغ ملء السمع والبصر يوم أن كان حاضر المشاهد كلها، ولكن اختار الاعتزال، وصرفته صوارف الحياة عن الشعر والمحافل، فما كنا نلقاه في صحيفة ولا نشهده في منتدى، وإن تكرَّم وأخرج لنا بعض شعره على استحياء، وتلك سنن المثاليين الذين لا يرضون عن أنفسهم ولا عن مجتمعهم، وإن كانت مشاهد الأدب والثقافة قد شُغلت بغيره فإن ذلك من فعله بنفسه؛ إذ لم يكن هامشياً فهو شاعر متمكن ومثير ومطرب، وله إضافات في عالم الشعر، ولقد كان يوم أن اختار الحضور ملء السمع والبصر، ولكن حين انطوى على نفسه وانسلَّ من المشهد راغباً شُغل المشهد بمن هم دونه، وتلك سنة الحياة.
لقد عرفتُ الشاعر قبل أن أدخل عوالمه الشعرية فكان مثار إعجابي، وعرفته أكثر حين أعددتُ رسالتي للماجستير (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) وعرفت اتجاهاته الموضوعية، ثم زادت معرفتي به حين أعددت رسالتي للدكتوراه (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر)؛ فهو عربي فاقع اللون، وإسلامي ناصع الإسلامية، وشاعر جهوري الصوت، صاخب الموسيقى، يؤدي رسالته بكل وضوح ولما يزل حاضراً بين يديَّ مع عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تتاح لي فرصة مناقشتها، وبخاصة التي تتناول الأدب العربي في المملكة.
الشاعر الدامغ أكاد أصفه بالخضرمة؛ فهو بقية الجيل الثاني وبعض الجيل الثالث الذي يبدو حراكه الشعري المؤدلج والمسيَّس. وإذا قلتُ بأنه بقية الجيل الثاني فإنما أعني جيل الستينيات الذين فتحوا عيونهم على المد الثوري والخطاب القومي والحماس العربي.
والمتابع لشعره يرى فيه الرصد الدقيق للمرحلة إذ ذاك، وهو لا يختلف كثيراً عن جيله المتوقد حماساً الذين درسهم وترجم لهم الأستاذ عبد الله بن إدريس في كتابه (شعراء نجد المعاصرون). وكلمة كهذه لا يمكن أن تأخذ بأسباب التحليل والتوصيف والنقد وإن كنت حريصاً على ألا أقول إلا ما يفيد المتلقي؛ فالشاعر متمكن أمكن في سوح الشعر، وليس بحاجة إلى الثناء الباذخ، وليس يضيره أن تختلف الآراء حوله، وإذا كنا من مريديه فإن طوائف من النقاد والدارسين لا يقبلون هذا اللون من الشعر شعر الخطابة والوضوح والجماهيرية. إن النقد الحديث يحتفي باللمحة والغموض والهمس، ويكفي الشاعر أنه مجال اختلاف وتنازع.
(وكم على الأرض من خضراء مورقة
وليس يُرجم إلا مثمر الشجر)
ومهما اختلفنا أو اتفقنا حول شاعرية الشاعر فإنه سيظل مشروع إشكالية نقدية تضيف للمشهد النقدي أسساً نقدية. ومن مؤشرات الضعف أن يظل الشاعر ساكتاً ومسكوتاً عنه، وقديماً قال المتنبي:
(أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم)
إن شوارد الدامغ قادرة على شغل المشهد، وهي جديرة بأن ينشغل بها المشهد، وكم أتمنى أن أكون فيها جذعاً متوفراً على الجهد والوقت لأبوح بما أرى؛ فعلاقتي الشخصية بالشاعر أمتن من علاقتي الأدبية، ولهذا فليس يمنعني من الصدق معه مانع، ولست بحاجة إلى المجاملات الزائفة.
الشاعر في النهاية له وعليه، وحاجتنا إلى نقاد يفرزون شعره، فمهما اختلفت الآراء حوله فإنه سيظل شاعراً متمكناً شغل المشاهد ردحاً من الزمن، ثم تسلل من الأبواب الخلفية مغاضباً على المتشاعرين والمجاملين، فهل هذا التكريم الذي سبقت إليه (المجلة الثقافية) و(مركز بن صالح الثقافي) قادر على جرِّ قدمه وزجِّه في حلبة الأدب ليعيدها جذعة؟! أرجو أن يكون هذا التكريم استدراجاً لمثله؛ فإنه في دخوله في الميدان إضافة جديدة لشعراء القصيم الذين درسهم زميلنا المطوع واكتشف قيمة فنية ومادية تدلُّ بها على مناطق المملكة الزاخرة بالشعراء والنقاد.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|