مرحلة التكتُّم والتكتُّل ..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل
لكلِّ شيء قانونه أو خَلقه الذي به ينضبط، ومن خلاله يبقى وينمو، ولا يند عن ذلك إلاّ المعجزات المؤيِّدة للرُّسل. والله قد {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}طه: 50 فلا تبديل، ولا تحويل للسُّنن الكونية. والحياة بوصفها مجموعة أشياء وأحياء محكومة بالنظام الأزلي، ومن بادر شيئاً من أشيائها بدون قانونه ابتلعته، كما دوامات البحر. وسائر الحيوانات والموجودات: الحسِّيّة والمعنوية تحكمها القوانين، وتسيِّرها الأنساق والسِّياقات. ومن غرَّد خارجها، فكمن يسبح ضد التيار. والحراك الذي تشهده مسارح الحياة كافة، لا يَحكمه الخير المحض، ولا الشر المحض. وكم يكره الإنسان ما فيه الخير، أو يحب ما فيه الشر عن جهل منه، أو عن تَسرُّع، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له.
وإذا كانت اللُّعب السياسية محكومة بقوانينها، فإنّ القضايا الفكرية هي الأخرى محكومة بأصولها وقواعدها وأحكامها القطعيّة أو الاحتمالية. والفقهاء قبل أن يخوضوا غمار النصوص، ضبطوا فعلهم بالقواعد والأصول، ومثلهم المفسِّرون والمحدثون وسائر المشتغلين بالعلوم الإنسانية أو بالمهارات الصناعية أو بالمكتشفات العلمية البحتة. و(نظرية التلقِّي) لها محقّقاتها، فالمتلقِّي يتوسَّل بالمنهجية والآلية، وخطّة العمل، لتساعده على استخلاص النتائج، وتحديد المفاهيم، وسنِّ الطرائق. وبتعدًّد المفاهيم تتعدّد المواقف، وتتنوّع الملل والنِّحل والمذاهب، وتخلف نظريات المعرفة. وحتمية الاختلاف تستدعي التقريب والتسوية وتفادي الصّدام، ولا يعمِّق العصيان والتنازع إلاّ الذين هم أراذل القوم.
والإنسان الذي زجّ بنفسه في أتون الجدل، لا بدّ أن يتوفّر على قوانين القضايا وضوابطها، لكي يعرف متى يصدع بالحق، أو يسر به، ومتى يمارس التورية والقناع، ويستخدم الرمز، ومتى يتقي خصومه تقاة، أو يقدم بين يديْ نجواه صدقه، ومتى ينبذ إليهم على سواء. فالضّعف مع الحكمة قوة، والقوة مع الطيش ضعف.
ومن تصوَّر أنّ كلَّ مباح ممكن فقد عرَّض نفسه للانكسارات المؤلمة. والأصوليون يضعون ضوابط للمباح الممكن وغير الممكن. وإشكالية كثير من الكتبة الذين لا يتكتَّمون ولا يتكتَّلون أنّهم لا يفرِّقون بين المحرَّم لذاته والممنوع لغيره، وهو ما يسمِّيه الأصوليون ب(المحرّم لغيره)، ولهذا حين تمنع السُّلطة التشريعية شيئا، لجلب مصلحة، أو لدرء مفسدة، أو لسدِّ ذريعة، كالتحفُّظ على (قيادة المرأة للسيارة)، يجأر البعض منهم، متوسِّلاً ب(فقه الأحكام)، ويعضدهم المحيلون إلى الحرِّية المطلقة كما هي في سائر الأنظمة الغربية، محتجين بأنّ الممنوع نظاماً ليس محرّماً شرعاً، وأنّ سقف الحرية تسلُّط لا سلطة، وفي ذلك خلط عجيب بين حقِّ السُّلطة وسلطان التشريع، وتغييب متعمّد ل(فقه الواقع) و(فقه الأولويات)، وحدود الحرِّيات. ومثل هذه المرافعات غير المحكومة تؤدِّي في النهاية إلى المجاهرة بالخلاف حول أوهام يظنُّها الخليون قضايا مهمّة، تستدعي التصدِّي والتحدِّي والصُّمود.
وكم أحسست أنّنا بحاجة ماسّة إلى مراجعة دقيقة لكلِّ القضايا المتداولة، وبحاجة إلى رصدٍ أدق للجدل القائم حول مجملها، وإلى محاولة التفريق بين قضايا الذات وقضايا الآخر، ومتعلّقات كلٍّ منها. وكم راعني ما ألقاه يوماً بعد يوم لدى مجموعة من الشباب الذين تنقصهم الخبرة، وتعوزهم المعرفة، وتشط بهم المثاليات، حتى لكأنّهم غرباء. ولقد أدركت أنّ المؤشرات تنذر بالخطر، فالطَّرح العنيف، والتساؤل المخيف يدلاّن على أنّ مثل هذه الذهنيات المتحفّزة لكلِّ جديد مخترقة من فئات الغلو والتطرُّف، ومن ذوي النوازع المشبوهة، وأساطين اللُّعب الدنيئة.
ومن عادتي منح المتوتِّرين منهم الثقة والاطمئنان، ودفعهم إلى كشف منطوياتهم والبوح بمعاناتهم، ولو عن طريق الأسئلة المكتوبة، وكلّما أوغلوا في البوح، قطعت بأنّ الاختراق منظم وفاعل، وأنّنا نفرط بمن استرعانا الله عليهم، أو نغفل عنهم، ليكونوا لقمة سائغة للمضلِّين.
(ومن رعى غنماً في أرض مسْبَعة .. ونام عنها تولى رعيها الأسد)
وإذا وقعت الواقعة، أقبل بعضنا على بعض بالتلاوم، وأوسعناهم سبّاً واتهاماً، ولمَّا نفكر بالخلايا الخفيّة التي نسمِّيها تجوزاً بالنائمة، وما هي إلاّ المتربّصة والمتصيِّدة لفلول الشباب، الذين يبيتون على الطوى، ثم يفتحون عيونهم وعقولهم على القول ونقيضه من كتبة لا يراعون مقتضى الحال. والنُّخبة حين تستدبر هذه الفئات التي تشكِّل مشروع فتنة عمياء، وتشتغل عنهم بالجدل العقيم حول قضايا ثانوية وغير ملحّة، تمكِّن المتربِّصين من التفرُّغ لهذه الأراضي البور، واستنباتها بما يهلكها لا بما يحييها، وذلك بشحن عواطف الشباب، وتأزيم مشاعرهم، وتضليل أفكارهم، وإغرائهم بالتدافع إلى حلبات المصارعة الفكرية.
وهذا الصراع العقيم يحقق للأعداء مكاسب متعدِّدة، فهو من جهة يفرق الكلمة، ويشتِّت الشمل، ويغرس الضغائن في النفوس، ويُحرض على التدابر. وهو من جهة أخرى يشغل المتفقِّهين عن احتواء طلائع الشباب المهيأ للتكيُّف كما عجينة الصلصال، وهو من جهة ثالثة يلهي المقتدرين عن حماية أجوائهم الفكرية من الاختراقات. وفوق ذلك كلّه فإنّ مراكز المعلومات العالمية ترصد كلََّ هذا اللّغط الفارغ، وتحسبه مشاريع فكرية تهدِّد مصالح الأقوياء، ولا تتردّد الدول المستبدّة من تغذية إعلامها بنتائج الرَّصد والتحليل، لتفتّ في عضد الأُمّة، كلّما وقفت للدفاع المشروع عن قضاياها المنتهَكة. وفي ظل هذه الظروف العصبية يتحتَّم الجنوح إلى المواقف الاستثنائية، وليس هناك أهم من التكتُّم والتكتُّل.
لقد ريع (هتلر) حين وظَّف خصومُه خطابَه الإعلامي الدعائي لمعرفة عدّته وعتاده، وتصوَّر أنّه مخترق بالجاسوسية، وما درى أنّه مخترق بما يتداوله كتّاب بلاده. ونحن بممارساتنا الكتابية المتوسّلة بالحرية والشفافية نموضع ذواتنا وأشياءنا، فالقنوات، والمطبوعات، والمواقع لا تحقِّق وجودها، إلاّ بالنّفاذ إلى أشيائنا واتخاذها مجالاً للعلك الرخيص. وفي ظل العُجب والعزّة والأنفة لا استبعد التحفُّظ على مثل هذه الدعوة ووصفها بالغرائبية، وبخاصة ممن لا يرقب المشهد عن قرب، وكم من برم يردِّد:- (ويل للشجي من الخلي) و(ذو العقل يشقى في النعيم بعقله)، فالذين في آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة، يتصوَّرون أنّ الوضع سمن على عسل، وأنّ هذا الصّخب الفاضح عبر الإعلام والمواقع إن هو إلاّ أخذ بأطراف الأحاديث التي تطرد الملل، وتقتل الوقت، على حد:- (فلما قضينا من منى كل حاجة) وما هو في بعض أحواله إلاّ كمن يلعب في أرض ملغمة.
فالرّاصد الواعي لما يجري، يرى أنّ الأمر مختلف جداً، فالتلاسن يفشي الأسرار المفيدة للمناوئ، ولاسيما إذا جعلنا من الوقوعات الفردية ظواهر عامة، واعتمدنا الإطلاقات المعمِّمة، والموافق الحدِّية، ومصادرة حق المخالف في إطار الاختلاف المعتبر. إنّ كلَّ متحدِّث عن المرأة - على سبيل المثال - لا يجد حرجاً من القول: إنّها النصف المعطَّل، والشريك المهمَّش، والإنسان المضطهد، وما هي كذلك، ولكنّها الإطلاقات المسجّلة لحساب الأعداء المتربِّصين. وأمام تلك المفتريات، زاد الضغط علينا من سائر المنظمات العالمية، الأمر الذي ضعف معه الأطر، وخفَّت معه المتابعة. والمختلفون حول سائر القضايا، ينتهبون الخطى وراء سراب القيعان. ولما لم يكن هناك رغبة عند الغثائيين في التصوُّر السليم، والاشتغال في القواسم المشتركة، والتعاذر والتعايش، فإنّ واجب الناصحين محاولة التهدئة، وتلطيف الأجواء، وفك الاشتباك، والتحذير من مغبَّة التفرُّق.
إنّ المتابع لما يحدث، يدرك أنّ الشّقاق على أشدِّه حول قضايا ربما تكون وهمية. والقرآن الكريم أوصى بالإصلاح بين الطوائف المؤمنة، وأمر بحسم الموقف متى بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، وليس شرطاً أن يكون الحسم بالقتال، إنّ هناك خيارات متعدِّدة، وواجب أهل الحل والعقد الأخذ بأيسرها، فالرِّفق واللِّين والتيسير والعفو والصَّفح من المقاصد الإسلامية، ومتى حسن الظن، وسلمت النوايا، تلاشت المشاكل، وأمكن التقارب. فهل نحن قادرون على ممارسة الأسلوب الحضاري الأمثل للتوفُّر على التكتُّم والتكتُّل المنقذين في زمن تداعت على أُمّتنا العربية والإسلامية أمم الأرض القوية؟
إنّه زمن عصيب، لا يحتمل انكشاف الساحة، وإفشاء أسرارها. إنّنا مطالبون بالاعتصام، وعدم التفرُّق في سائر الأحوال، فكيف إذا كانت الأوضاع قاب قوسين أو أدنى من المهاوي السحيقة. ومهما تفاءلنا وأحسنّا الظن بأنفسنا، وحَسِب الخليون أنّنا قادرون على رأب الصدع، وجمع الكلمة متى شئنا بالرّكون إلى قوة الاحتمال، فإنّ من المتوقَّع أن تضعف المناعة، وبخاصة حين تكثر العوارض التي نحرضها بأنفسنا، مما يجعل الكيان عرضة للتأثُّر. وليس من حسن التدبير والتقدير أن نقيم رهاننا على الإمكانيات الآنية، ظنًّا منّا أنّها لا تخضع لعوارض التبدُّل والتحوُّل.
ومن الحصافة والرّصانة، ونحن نشاهد القوم صرعى، أن نقوِّم المواقف، وأن نتّعظ بمن حولنا، فلسنا بدعاً من الأمم، وليس بيننا وبين الله عهد، وإنّما الجزاء من جنس العمل، والله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}الرعد: 11، ولن نهتدي إلى طرق الخلاص إلاّ إذا عرفنا قدر أنفسنا، وقدَّرنا الواقع قدرة. فالمجتمعات السوية تنشد الوئام، وتنبذ الخلاف، وتُؤثر ولا تستأثر، وتستمع إلى القول، وتتبع أحسنه، ولنا في التكتُّلات (الأوروبية) والإقليمية أسوة:-(تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا).ومع كلِّ الاستجابات الطوعية أو التطويعية، فإنّ الخلاص لن يتأتّى إلاّ بتوفيق الله ومشيئته {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ}الإنسان: 30، ومشيئة الله لا تمنع من العمل، فالتوكُّل غير الاتِّكال، وكلٌّ يعمل على شاكلته، ولما لم تكن الدولة من أصحاب النوايا السيئة والمغامرات الطائشة، ولما تقترف من الأعمال ما نتوقّع انعكاسه عليها، فإنّ الضلوع في كشف المخبوء والمصير إلى التفرُّق المعلَن على الملأ في الأداء والمواقف والتصوُّرات مدعاة إلى نفاذ الأيدي العابثة. وها نحن وعلى ضوء ما نتداول نفتح شهيّة الآخر بالمطالبة ب(حقوق المرأة) و(حقوق الإنسان) و(تعديل المناهج) والقفز في الإصلاح، وكأنّنا أمة (تيمية)، فمن الذي أعطى أولئك الوثائق المزّيفة، ومكّنهم من التلويح بها في المحافل الدولية.
لقد استشْرت شهوة القيل والقال، وتعمَّقت هوّة الخلاف، وانصرف حديث المختلفين من الموضوعي إلى الشخصي، ومن البحث عن الحق إلى التأكيد على الانتصار.
وهذه الممارسات تشغل عن المهام الجسام، وحين تصاب المشاهد بحالة من تشتُّت الجهد والوقت، تصاب الأُمّة بالإنهاك والعجز عن ممارسة وظائفها الرئيسة، وقد تفتح على نفسها أكثر من ثغرة، وتمكِّن أعداءها من جمع أكبر قدر من المعلومات الموهنة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|