مرحلة التكتُّم والتكتُّل ..! ( 2-2 )
د. حسن بن فهد الهويمل
والدعوة إلى التكتُّم، لا تعني الخفاء الغنوصي، ولا تعطيل الأفكار، ولا تمنع من المشاطرة في المهام الجسام، وتمحيص القضايا، والتخوُّل بالنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ف(الدين النصيحة)، وما لعن الكفرة من بني إسرائيل إلاّ لعدم تناهيهم عن المنكرات. إنّ ما ندعو إليه قضاء الحوائج بالكتمان، والتعامل مع الظروف بما يناسبها، وبروح الفريق الواحد، إنّه نوع من ترك المراء فعند (أبي داود):- (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فكيف إذا لم يكن محقاً، أو كان الحق مشتركاً، والاختلاف معتبراً. إنّه الانتصار على الهوى، والانحناء للريح. ومن المسلّمات أنّ لكلِّ دولة أسرارها وقضاياها التي لا يُسمح بتداولها، ولا تسريب المعلومات عنها. حتى الدول الغربية التي تركن إلى (الديموقراطية) لديها سقفها وخطوطها الحمراء، وإعلامها مسيَّر، وليس مخيّراً. والدين الإسلامي في القضايا المصيرية يحثُّ على التآلف والتكاتف والانضباط، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس التورية في بعض أعماله الحربية، وأمين سرِّه (حذيفة بن اليمان).
وذهاب كلِّ عالم أو مفكِّر أو كاتب مبتدئ بما يرى، وإعلان الاختلاف والشّحناء حول القضايا المصيرية، والإلحاح في إشاعة المستور عبر الصُّحف والقنوات والمواقع، وتضخيم الوقوعات المتوقّعة، دليل على غمط الحق، وتغليب الانتصار عليه، والجنوح إلى الفوضوية. وقد لا يكون ذلك من باب الصّدع بالمأمور به. والمستفيض أنّ المشاهد كلّها تعجُّ بالمناكفات، وهذا من الظواهر السلبية. والذين يصدعون بآرائهم قبل نضجها، ولا يتيحون لأنفسهم فرصة للاستشارة والاستخارة والتأمُّل، وتفهُّم الآراء الأخرى، ولا يتحسّسون عمّا يترتّب على المجاهرة بالاختلاف، يكونون كما الفتن التي لا تصيبنَّ الذين ظلموا خاصة. وهل أحد يجهل ما تعانيه البلاد من أخطاء الغير في بقاع العالم العربي؟، والمسيء أنّ اختلافنا مشَرْعن بحب الوطن، وما سيء وجهه إلاّ بالتقدير الخاطئ، والتوقيت السيئ، وتهافت الفارغين على قضايا الوطن المصيرية.
وسمات المشاهد العربية المرتبكة أمام طوفان الطوارئ الإصرار والعناد واللّجاجة والتعالم، والتهوين من شأن القطب الواحد المهيمن بقوّته وتعمُّد استفزازه، وتبادل الاتهامات، والضلوع في التصفيات، وتحميل الأقوال والأفعال ما لا تحتمل، وتحويل الوقوعات الفردية إلى ظواهر اجتماعية يخوِّفون بها الرأي العام، ويحرِّضون بها الأعداء، وتلك الأخلاقيات لا تفرز إلاّ الوهن، وتمكين المناوئين من اختراق الأجواء، وتحريض بعضنا على بعض، واستثمار نقاط الضعف.
وذوو الألباب الناصحون المتمرِّسون في الأمور يلبسون لكلِّ زمان لبوسه، ولا يستغلِّون الإمكانيات للشُّهرة الزائفة، والكسب الرخيص. فما يُقال في وقت الرخاء، يختلف عما يُقال في وقت الشدّة. والأُمّة العربية المحكومة بسياق ضعيف متفكِّك يعتمد في قوَّته وقوتِه على غيره، لا يسوغ لنخبها أن تكشف كلّ أوراقها، ولا أن تقول ما يخيف الآخر، ويحفزه على الترصُّد والكيد. ومن مصلحة الأُمّة وإن كانت قوية أن تجنح للسِّلم، وأن تختار الوفاق على الشّقاق، وإذا كانت متمكِّنة من الحصول على حاجتها بالتي هي أحسن، فإنّ من الرعونة أن تمارس الغطرسة والتباهي واستعراض العضلات.
ولعلّنا نضرب الأمثال بما يعيشه العالم اليوم من حروب غير معلنة، ومن مقاومة عنيفة، يندسُّ فيها من له حسابات معلَّقة. و(أمريكا) الأقوى والأعلم بظاهر الحياة والمدارة بمؤسسات دستورية وتشريعية وتنفيذية مستقلّة، تمرُّ بحالات من الإحباطات والنّكسات، وهي قد مرّت بما هو أدهى وأمر في (فيتنام)، وهي قد تلقّت ضربات مؤلمة في (الصومال) و(لبنان)، وكلُّ ذلك ناتج عطرسة القوة والإخفاق في سياسة القطب الواحد. ولو أنّها تركت عصاها معلّقة، حيث يراها المناهضون، لكان خيراً لها وللعالم أجمع. والكلمة والرّصاصة صنوان، فمن لا يحسن استخدامهما، يكون كمن يضع السيف في موضع النّدى.
إنّ لغة التعالي والاستفزاز تتطلّب ثمناً باهظاً، مع أنّها لن تحقِّق من المكاسب ما تحقِّقه لغة اللِّين والتلطُّف والتكتُّم. والذين لا يعرفون إلاّ تبادل الاتهامات يفوِّتون على أُمّتهم فرصاً كثيرة. والفظاظة والغلظة مؤذنة بالتخلِّي والفرار، ذلك على مستوى الرُّسل المؤيّدين من الله وا لمعصومين من الناس، فكيف إذا جاءت تلك الممارسات من كاتب غير عارف ولا معروف، وبخاصة حين يحفل بالشّقاق وسوء الأخْلاق، والإصرار على الرأي، والإلحاح في نبش المسكوت عنه، وترويج رأي المعادي فينا.
وتداول القضايا بأنكر الأصوات، يضع الأُمّة تحت دائرة الضوء، ويثير حولها التساؤلات. وصِدقُ الخطاب ومشروعيّته لا يكفيان لمشروعيّة المجاهرة بالهنّات واللَّمم، والغايات لا تبرِّر الوسائل. والسياسة (الميكافيلية) تحتاج إلى أجواء ملائمة، تمكِّنها من فرض إرادتها، وفي الحديث:- (كلُّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون)، وبدوُّ صفحة الخطيئة تؤكِّد المساءلة، ولكلِّ حدث حديث، حتى الفتيا تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة والأحوال. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة، ويقول (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) والله سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16 ويقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: 286) ويقول: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}الأنفال: 66، ومشروعيّة المجاهرة في المشاهد تحتاج إلى أجواء وإجراءات ومقدِّمات ملائمة، وكيف لا نهتم بالمقدِّمات المهيِّئة والمقنعة، والله يقول لرسوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159).
والمجاهرة بالخلاف، مؤذن بتفرُّق كلمتنا، وارتباك صفوفنا، وتعدُّد أهدافنا. وارتفاع نبرة الاستعداء ونعرته في زمن التداعي والغثائية محقِّق للتخلُّف. وما دعاؤنا للتكتُّم والتكتُّل إلاّ من باب مراجعة الحساب، والتحرُّف لخطاب ملائم للمرحلة العصيبة التي تمرُّ بها أمّتنا العربية والإسلامية. وإذا لم نكن في معزل من أحداث منطقتنا العسكرية والفكرية، فإنّ من واجبنا أن نرتِّب أمورنا، بحيث لا نكون نشزاً في سياقنا العربي والعالمي.
والتكتُّم والتكتُّل مرحلة (تكتيكية) وليست مقتضى (استراتيجياً) ذلك أنّ الاختلاف قضية أزلية، ولا حياة سوية بدون الاختلاف في وجهات النظر، وكيف يكون الوفاق وتصرُّف الإنسان محكوم بمفهومه ومعلومه، فهو رهين المحبسين: فهمه الأشياء، وخلفيته الثقافية. ونظراً لاختلاف المفاهيم توسّل العلماء والمفكِّرون بمنهج التأويل للخلاص من سُلطة النص القطعي. فالقارئ يدخل عوامل النص، وهو محكوم برؤيته ومفهومه وثقافته، وقد تستفحل عنده المذهبية والإعجاب بالرأي، بحيث تتحكَّم بإمكانياته، وتوجّهه صوب التبرير والتعذير. وحين لا نتوقع وئاماً نهائياً، لا تعقبه أعاصير الاختلاف، نتطلَّع إلى التفكير الجاد بالواقع، ومدى احتماله لمزيد من الصراع، ونود استصحاب حسن الظن، وعدم التشكيك في النوايا، والإبقاء على جسور التواصل، والجنوح إلى الإقناع والاستمالة، والمصير إلى التعادلية في احتمال الصواب والخطأ، إلاّ مع النص القطعي الثبوت والدلالة، وهو البرهان المخوّل للخروج على السُّلطة.
إنّ المرحلة المُعاشة بحاجة ماسة إلى تهيئة الأنفس الأمَّارة القلقة للقبول بالتكتُّم والتكتُّل، ولو إلى حين، وبخاصة في زمن يكون فيه الاختلاف مطلب الأعداء، ويكون اختراق الأجواء، وانتهاك السيادة، والحيلولة دون تقرير المصير من ظواهر المرحلة المعقّدة، مرحلة القطب الواحد، والإرادة المدعومة بالقوّة، والتي لم يَعُد معها مجال للمراجعة، ولا للمساءلة. في هذه الأجواء يكون من واجب المستهدف الضعيف أن يتحوّل من (الاستراتيجية) الباذخة إلى (التكتيك) القنوع. وليس من الحصافة ولا من الرَّصانة أن يكون الخيار واحداً، والطريق واحداً يحمل الكافة عليه كما القطيع. والذين يرفعون أصواتهم فوق صوت الحكمة والتروِّي يتحوّلون إلى عدو وحزن.
والتكتُّل الذي ننشده من العلماء والمفكِّرين والخطباء والكتّاب والمؤلِّفين، لا يمتد إلى إلغاء الذات، والتسليم للمخالف وتعطيل العقل ومنع الاجتهاد، وإنّما هو الخيار بين ضياع الكل، والإبقاء على القدر الممكن. والدول الأكثر تحضُّراً حين تبدو أمامها مؤشرات الانتهاك والاحتناك، تفكِّر في توحيد خطابها المؤدِّي إلى وحدة الصف والهدف، والعمل ضمن القواسم المشتركة، وتأجيل الملفّات الحساسة، ولا سيما إذا كان المصير مشتركاً، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّماً ناصحاً، حين ضرب المثل بالمستهمين على السفينة، وركّز على ضرورة الأخذ على يد المجازفين.
إنّ التحسُّس عن الأوضاع وجسَّ النبض يعطيان مؤشرات مخيفة للمخيفين فضلاً عن الخائفين. والمصير إلى التكتُّم والتكتُّل هو الخيار الوحيد لمرحلة الرَّصد والترصُّد، يُقال ذلك بالنسبة للدول المتجاورة والمتجانسة، ويُقال مثله للأطياف داخل المنظومة السياسية الواحدة، إنّه خيار المرحلة، ومن لم يقوِّم المواقف، ويمارس النّقد الذاتي، غير هياب، ولا وجل، يكون كباسط كفّيه على الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه.
والقول بالتكتُّم والتكتُّل لا يشرعن الركون والمداهنة، ولا يغري بالتخلِّي عن الثوابت، ولا التنكر لمحقِّقات الحضارة. والذين يصدعون برويتهم الحدية، ثم لا يستحضرون (فقه الواقع)، ولا يقيمون وزناً ل(فقه الأولويات)، ويجعلون مناطهم (فقه الأحكام) المعزول عن سياقه، يتجمّدون عند خطاب يعطي أحكاماً، ولا يرسم حلولاً، وتلك الطائفة فوّتت على نفسها تسامح الإسلام وانفتاحه، وأخذت بالحدِّية الصارمة، وفي المقابل فوّتت طائفة أخرى على نفسها ضوابط الإسلام بالتمييع لحدوده والتلميع لخصومه، وكلتا الطائفتين عمّقتا المراء حول بدهيات ونصوص حمالة، كما نص (لا يصلين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة) ومع أنّ حياة الأُمّة لا تستقر إلاّ على علم الفقه بكلِّ أنواعه: (الحكمي) و(الواقعي) و(الأولوي) فإنّ التفريط بشيء من ذلك مؤذن بتخلُّف مريع عن ركب الحضارة. والمراهنون على حتمية الاختلاف لا يضعون قيمة للقدر المسموح به، ولا يستحضرون الظروف غير الملائمة، ولا يتوفّرون على منهجه وآليته ولغته، ولا يحتملون المخالف، مع أنّ إبلاغ المشرك مأمنه مقتضى إسلامي.
ولست أشك بأنّ الذين يعدُّون الاختلاف نوعاً من الرياضة الفكرية، والحضور الفاعل سيسخرون من مثل هذه الرؤى التوفيقية، بحجّة أنّ العصر لم يَعُد قابلاً لمزيد من التنازلات عن وجهات النظر، وأنّ القضايا لا يمكن أن تنضج إلاّ بتفرُّق وجهات النظر، وتبادل الاتهامات. ومع مشروعية بعض هذه الحيثيات فإنّ الوقت وإفرازاته لا يحتملان مزيداً من الفرقة ونشر الغسيل، ولا سيما أنّ طائفة من قضايا الاختلاف المثارة لا تشكِّل معوقاً لمسيرة الحياة السوية، وفق ظروفها المعاشة، وإمكانياتها المتاحة، وبالإمكان رفع ملفّاتها إلى حين. والدعوة إلى التهدئة في ظل قسوة الظروف أفضل من تصعيد الخلاف، وإذا كانت السُّلطة قادرة على إدارة دفّة الاختلاف، والتحكُّم فيه فإنّ تبادل الاتهام في النهاية رسائل حسّاسة، تقع في يد الخصوم، وملفّات ساخنة تفتح في ساعة العسرة، وبخاصة أنّ المستفيدين من اختلافنا لا يفتؤون يصدقون الاتهامات.
ولو نظرنا إلى المشاهد المحدودة داخل المنظومة الواحدة، لوجدنا نبرة التنابز والتنافي متنامية، والصراع على أشدّه حول قضايا إن لم تكن وهميّة فإنّها هامشية، والمرجفون لا يتثبّتون، والمشيعون لا يبالون بأيِّ واد هلكت مصالح الأُمّة، والخطاب المناوئ يستفحل في ظلِّ الضعف والتفكُّك، حتى لا يدع فرصة تفوته، فهو دائب البحث في بؤر التوتُّر، ومغرم بفتح الملفّات الحسّاسة، وليس أدلّ على ذلك من استدعاء ملفّات (المناهج) و(الحقوق) و(الإصلاح) و(المجتمع المدني) بمفهومه الغربي إضافة إلى ملف مهترئ منذ مئات السنين، وهو (ملف المرأة)، والذين يصطرعون حول قضاياها هم الأكثر تمسُّكاً بما هو في نظر التحرُّريين مصادرة لحقوقها. إنّ استلال الوقوعات الخاصة من سياقاتها، والنّفخ فيها، تضخيم غير مبرر، وتمكين للأعداء من رقاب الأُمّة، ومواجهة الوقوعات والظواهر لا يستقيم أمرها إلاّ من خلال مؤسسات مسؤولة. إنّ استدعاء القرار في البيوت، وعدم التبرُّج والاختلاط، وهو قول ربَّاني، لا يعني حرمان المرأة من التعلُّم والعمل والتجارة.
قد يبادر البعض إلى القول بأنّ الحراك الفكري لا تتجلّى مسائله إلاّ بالاختلاف، والحق أقول: إنّ الاختلاف غير الاتهام والاستعداء والتشكيك في المقاصد. والجدل الإيجابي لا يكون إلاّ بالتي هي أحسن، وفي ظروف مواتية لا تكون فيه الأُمّة مستهدفة في أمنها واستقرارها واقتصادها. وتماسك الجبهة الداخلية، وكونها ظهيراً للمؤسسات الفاعلة، مدعاة إلى حماية الأُمّة من الأعاصير الهوجاء التي تعصف من كلِّ جانب. فهل نقبل باستراحة المحارب، ونكتفي بالاشتغال في القواسم المشتركة، إلى حين انقشاع الغمّة، وعودة الحياة إلى وضعها الطبيعي. إنّنا بحاجة إلى حسن الظن، والتماس العذر للمخالف، حتى يتبيّن لنا عناده وإصراره على الحنث العظيم، وعندئذ نجنح لأهون الضررين.
أحسب أنّ الحلَّ الأمثل يكمن في التكتُّم والتكتُّل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|