النقد الأدبي في المملكة: قضايا وإشكالات..!!
د. حسن بن فهد الهويمل
لم أكن حفياً بالعودة إلى القواعد القديمة، وإن كنت مسكوناً ببقاياها:
(وذو الشوق القديم وإن تعزَّى
مشوق حين يلقى العاشقينا)
وذو الشأن المتقصي لحراك المشاهد الإبداعي في الوطن العربي، يجده مستباحاً بالأدلجة العنيفة، والتسييس الأعنف، وتجريب التخريب.
والنقاد المرابطون على ثغور الأدب الخالص، ألقوا أقلامهم، وانفضوا من حول الإبداع القولي، بحثاً عن مواقع مغرية، والذين لم يستجيبوا لمشاهد السياسة والفكر، قتَّلوا أبناء النقد، واستحيوا نساء الثقافة، وخصَوا ذكورية اللغة، وتلقوا ركبان المستجدات. ولأن مشاهدنا لا تقول إلا معاداً أو معاراً، فإنها تهيئ نفسها لاستقبال (النقد المعرفي) أو ما يسمى ب(اللغويات المعرفية)، وهو لون من المناهج النقدية، التي تتقصى معارف النص. وإذ لم نصبر على طعام واحد، كانت كل المذاهب حِلاًّ لبني يعرب.
والمؤرخون للحركة النقدية، يكادون يتفقون على مرحلة الريادة ومنطلقها ورموزها وسماتها واهتماماتها، فلقد أجمعوا أو كادوا على انطلاق الريادة من (الحجاز) قبل ثمانية عقود أو تزيد على يد (محمد سرور الصبان) وقد أخذت وضعها الطبيعي بعد التواصل مع الحركات النقدية في مصر والشام والعراق، ولربما كان صراع المدرستين: (الديوان) و(أبوللو) في الثلاثينيات من القرن العشرين المثيرّ الأقوى لحركة التأسيس النقدي على يد المنهجيين.
وفي مقدمتهم (عبدُالله عبدالجبار)، والمجددين وعلى رأسهم (محمد حسن عواد)، والمؤرخين ومنهم (الساسي) و(بن إدريس)، والدارسين المفسرين ك(الشامخ)، والانطباعيين ك(أبي مدين) و(الفلالي) وآخرين واكبوا تلك الأجيال، أو جاءوا من بعدهم، وبخاصة الأكاديميين، وأبرزهم (أبو داهش) و(ابن حسين) و(باقازي) و(الرشيد) و(الفوزان) و(الحامد) و(الحارثي)، أما في العقدين الأخيرين فقد انطلقت الحركة النقدية في كل الاتجاهات، وتعالقت مع كل المستجدات، حتى لا تجد ناقدين على قلب رجل واحد.
ومثلما مرت الحركات النقدية في الوطن العربي بتحولات متلاحقة، تعرضت الحركة النقدية في المملكة لذات التحول، والفرق في (الوعي) و(التأصيل) و(الاستبانة) و(القدرة على الفهم الدقيق) و(التحكم القوي).
لقد تنوعت الاهتمامات، وتعددت المعارك، واختلفت السمات، فمن نقد أكاديمي تمثل بالمحاضرات والأطروحات، إلى نقد صحفي تجسد بالتطبيق والتنظير، واتسم بالانتقائية والفئوية، إلى نقد معياري استمد لحمته من مناهج الدراسات اللغوية في الغرب، ك(البنيوية) و(التقويضية) و(التحويلية) وعُرفت من بعد (النصوصيةُ) و(الألسنيةُ) و(النقدُ اللغوي)، وهي مناهج تعلي من شأن اللغة، وتُفضلها على سائر الأشكال والفنون والمعاني.
وواكب تلك التيارات اتجاهات موضوعية وأخلاقية وفنية، ولم يخل أي تيار من مؤصلين ومقلدين وأدعياء فارغين.
وجاء الحداثويون يخلطون الفن بالفكر، ويأخذون هذا الأدنى، غير مهتمين بضابط أو شرط، وغيرَ عابئين بالخصوصية الفكرية أو الأخلاقية، وحجتهم الواهية حقهم في حرية التعبير.
وأعجب العجب أن طائفة من مدعي الحداثة يجهلون مقتضاها، ومن ثم لا يتجاوزون التجديد، وواجب المنصف التحري قبل الحكم.
ولما كان النقد رديفاً للإبداع فقد استحوذ عليه سلطان الشعر ردحاً من الزمن، حتى عاد المبتعثون للدراسات العليا إلى أروقة الجامعات ومشاهد النقد، يحملون هموما وأفكارا، ومناهج وآليات جديدة، فكان أن ظهر (النقد السردي) على يد مؤسسة (منصور الحازمي) بعد رائدية (العواد) و(ضياء)، ولما يزل هذا اللون من النقد دون المؤمل، ذلك أن السرديات تحيل إلى مفاهيم الغرب ومناهجه، وهي لما تكن حاضرة المتداولين، إذ لم يكن التواصل كافياً لتجهيز أرضية معرفية صلبة.
والإشكالية الأكبر تتمثل في طغيان التأريخ والتنظير على التطبيق، وفي اشتغال المشهد بآليات ومناهج لا يتقنها المرسل ولا يفهمها المتلقي.
والمشهد النقدي وسع أشتاتا متفاوتين في اتجاهاتهم وقدراتهم، فلو قرأنا مثلاً للنقاد (الحازميين) و(الغذامي) و(البازعي) و(العباس) و(القرشيين) و(الزهراني) و(البواردي) و(القحطانيين) و(الفيفي) و(زياد) و(الحامد) و(أبو داهش) و(الرميح) و(الحارثي) و(الشامخ) و(الخطراوي) و(السبيل) و(ابن تنباك) و(الرشيد) و(السريحي) و(المعيقل) و(النعمي) و(المعطاني) و(الطامي) و(الزيد) و(الفيصل) و(عريف) و(بدوي) و(بافقيه) و(باقازي) وآخرين يراوحون بين القديم والجديد، ويتوسلون بمختلف المناهج والآليات لوجدنا المشهد يعج بألوان الطيف، وذلك مؤشر تعالق ممعن في الاندفاع، أو تخلٍّ مسرف في الانقطاع، والبعض يحمل ذلك التباين الشديد على التنوع الحميد.
ولما لم نكن بصدد التقصي والتقويم فإننا نكتفي بالإشارة إلى الظواهر، وندع القارئ يحدد موقفه على ضوء ما يسمع ويرى.
وقولي في تصور المشهد النقدي قابل للأخذ والرد، فما كنت قاطعاً أمراً دون استشعار الرؤى والتصورات الأخرى، فالقضايا والإشكاليات تختلف من دارس لآخر، والمهم أن يكون الدارس على علم بواقع الحركة النقدية: محلياً وعربياً. وإشكالية الحركة النقدية في المملكة أنها كما الشعوب والقبائل التي لا تريد أن تتعارف، ولا أن تعاون، وكأني بالمتعقب للأصوات المختلطة يرى أن كل تعدد ثراء، وما هو على إطلاقه، إذ التوفيق غير التلفيق، والصوت غير الصدى.
ولكيلا تتفلت الأمور في التوسع بالرخص، وتتبلد الحواس في الشرعنة لكل خطاب فإن على رعاة الحركة النقدية أن يغاروا على حماهم، وأن يفعلوا شرطهم، وأن يمتازوا عما سواهم، وأن يحرروا مسائلهم، وأن يؤصلوا معارفهم. وهذه الاحتراسات لا تمنع من التجريب والتهذيب، فنحن أبناء راهننا، ولسنا أسارى تاريخنا، والناس شركاء في المنجز الإنساني، ما لم يكن عندنا برهان بمنعه.
وإشكالات النقد متعددة ومتنامية، فهي: إما ناتج علاقات مع قيم تتقاطع معه، ولا تكون إياه، أو هي ناتج اضطراب في المفاهيم، أو عجز في الإمكانيات. وليس من السهل تقصيها، إذ ربما تكون لكل ناقد أو عصر أو ظاهرة إشكالياتها الخاصة. ولنضرب مثلاً بعلاقة اللغة بالنص على سنن التفريق بين (اللغة) و(الكلام)، وما جد من مناهج لغوية، ونصوص إبداعية بكل مستوياتها، وتداخلاتها، وتشعباتها، واتجاهاتها ومناهجها. ولو نظرنا إلى مشاهدنا خاصة، لوجدنا مكمن الخلل في الضابط والشرط والمفهوم، إذ كل مشتغل في النقد يشرعن لنفسه الوصاية المطلقة، ولا يتحرج من النفي والتجهيل لكل من يراجع أو يتساءل.
وقد يستهوي خطابه المبتدئين والمتعالمين، وبخاصة المتنفذين إعلاميا، بحيث يكونون له ردءا، يقولون بقوله، ويقلبونه ذات اليمين وذات الشمال على صفحات الصحف. ولما لم نكن ضد الضابط والشرط والمحظور والمباح فإننا ضد الأثرة والتمييع، ومتى رضي المختصمون في المشهد النقدي بمرجعية تفض الاشتباك، وتحسم الخلاف، وتجمع الشتات، فإن شِرَّة الإشكاليات ستخف شيئاً ما.
ولسنا هنا ضد التعدد والاختلاف، ولكننا ضد الفوضوية باسم التعدد، وضد المراء باسم الاختلاف. ومتى بلغ الناقد بموهبته ومعرفته ودربته حد الأهلية فإن من حقه أن يبادر المهمات، وأن يبحث عن الحق، وألا يلتفت إلى المخذلين غير أولي المعرفة.
وإشكالية المشهد أن المتسيدين ليسوا على شيء حتى يقيموا أوده، فهم لا ينطلقون من قاعدة معرفية ولا يحتكمون إلى ضابط، ولا يقبلون بمرجعية، وأي حضارة مؤهلة للنفاذ إلى ميادين اللزز، لا تقوى إلا بالمرجعية المطاعة، والضابط القائم، والسمة المميزة، والتناجي بالمعارف العميقة الشاملة.
وما عهدنا تمثل حضارة المهيمن، أو التماهي معها بين سائر الحضارات طريقاً للوجود الكريم. كما لم نعهد التركيز على التمايز، والتأكيد على الهوية، والحرص على الانتماء حائلة دون التزود من مستجدات العصر. وكيف نتوقع الاعتزال، والحضارات يرث بعضها بعضا، ويستفيد بعضها من بعض، وليس هناك حضارةٌ خالصةٌ من المؤثرات، ولا غنيةٌ عن الاقتراض، والإشكالية في ضبط التواصل وإتقان التفاعل.
ورأسُ الإشكاليات اضطراب التصورات حول مفهوم النقد وأنواعه، ووظائفه، ومقوماته، وثقافة الناقد، ومشروعية التنوع، وتعدد الاتجاهات.
والحركة النقدية في المملكة ليست بدعاً في سياق الحركات النقدية كافة، إذ لكل حركة قضاياها وإشكالياتها وناسها العارفون وغوغاؤها المخذِّلون.
وثمة إشكاليات إجرائية كاختلاط الموضوعي بالشخصي، وإصرار البعض على تضعيف المخالف، والتقليل من شأنه، ووصفه بالماضوية والمحافظة، وكأن استصحاب التراث وتفعيله عقبةٌ في طريق التجديد، والصراع بين القديم والحديث من الظواهر الحميدة، ولكن الحيدة به عن الموضوعية، وقيامَه على مصادرة الحق، وتصفية المخالف، حولته عن مساره الإيجابي.
وتلك شنشنة المتحدثين الذين يظنون أنهم أهل النقد وخاصته، وإذ يلحُّون على اتهام الخصوم بالتقليد، فإنهم ينسون أنهم مقلدون للغرب باسم التفاعل المشروع.
ودعاة التجديد النافون للحداثوية والاستغراب لا يسلمون لمن يتهمُهم بالتقليد ورفضِ التجديد، وهذا الصراع وإن جار بعض أطرافه، لا يخلو من إيجابيات، لأن فيه تحفيزاً للتزود من المعارف.
وتعميق الإشكاليات يتبدى في الإطلاقات المعممة، فالحداثويون ليسوا سواء في إمكانياتهم ومقترفاتهم، كما أن المجددين والمحافظة ليسوا سواء في تجديدهم أو في محافظتهم، وإذ لا تزر وازرة وزر أخرى، فإن ترشيد النقد يقوم على التثبت والتحديد، وتحامي الأحكام المطلقة، وما أضر بالمشهد النقدي إلا تعميم الأحكام، والتصنيفُ غيرُ المنصف، وتزكيةُ النفس، وإدانةُ الخصم دون سماع حجته، تلك طائفة من الإشكاليات، والخطوة الأولى في الحل السليم معرفة الذات، وتقويمُ المنجز، واستبانةُ الخلل، وتداركُه.
والحديث عن القضايا كما الحديث عن الإشكاليات، حديث متشعب، وقضايا النقد العربي تكاد تكون متجانسة، فهي إما: لغوية خالصة، أو موضوعية خالصة، أو فنية خالصة، أو هي خليط من ذلك كله.
ولعل المناهج اللغوية الحديثة عمقت الخلاف، وعددت القضايا، وبخاصة مفهوم (النص) و(التناص) و(التفكيك).
والمتعقب للقضايا يجد أنها تراوح بين الإلحاح والعفوية، فقد تخطر على بال الناقد، وقد يعمد إليها، كما لو كانت إشكالية قائمة، وأهم القضايا تقوم على المفاهيم والوظائف، وقضايا الشكل والمضمون، ومناهج النقد: كالمعرفي المتشعب، و(الأيديولوجي) المتعصب، والفني الخالص، واللغوي المعياري. ومجمل القول إن قضايا النقد العربي كافة لا تكاد تختلف، ولكن الاختلاف في القدرة على الاستكناه والتفصيل والتأصيل. إن هناك مؤرخين، ودارسين، ونقادا، وأكاديميين منهجيين، وعلماء معياريين، وهواة انطباعيين، وأشياعا، وأتباعا ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك، وكل فئة تدعي أنها أهل النقد وخاصته، وأن غيرها أدعياء متطفلون. والمتلقي المحايد كما الفتى العربي في (شعب بوان) غريب الوجه واليد واللسان.
والحركة النقدية اعتورها مؤرخون لا يعنيهم من شأن النقد إلا الإجابة على التساؤلات التقليدية: أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن؟ وهذا الصنف راصد للحدث، وليس مقوماً له، ودراستي لحركة النقد الأدبي في كتابي المخطوط (مداخل لدراسة الأدب العربي في المملكة العربية السعودية) جاءت قريبة من هذا النوع، ولقد شاطرت في هذا المنهج الدكاترة (محمد الشنطي) و(عبدالله الحامد) و(إبراهيم الفوزان) ولفيفاً من الأكاديميين الذين عنوا بهذا الاتجاه.
كما كتب عن الحركة النقدية نقادُ النقد، وهم قلة، وجاءت دراستي (النقد الثقافي: البديل أو الرديف) المنشورة في جريدة (الجزيرة) على مدى خمس عشرة حلقة من هذا النوع، وهذا اللون من الدراسات لا يخلو من الانحياز السلبي، والنوازع المذهبية، وحدة النبرة؛ فالعواطف لا تدع القلم ينقب في عوالم الآخرين، دون ميل يدع بعض القضايا كالمعلقة، أما النقد التطبيقي فقد سلك طريقه عدد لا حصر له، منهم من أنشأ كتباً عن مبدعين أو عن قضايا، ومنهم من كتب دراسات نقدية ثم جمعها في كتاب. ولقد كانت دراستي (النقد البنيوي للإبداع الروائي) المنشورة في ملحق (المدينة) على مدى خمس وثلاثين حلقة من هذا النوع، ومن خلال تلك الأعمال تبدت القضايا والإشكاليات، ولن نشير إلى أحد من المؤرخين والدارسين والنقاد، فالمتابع للحركة يعرفهم بسيماهم، وإذا سمحت لنفسي مؤاخذة هذه الألوان من الدراسات فإنني مصاب بدخنها، (وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء).
والحديث عن القضايا والإشكاليات يستدعي نقاداً اقتسموا مراحل الحركة النقدية، وتنازعتهم المذاهب والظواهر والتيارات، وكان لهذا التنازع أثره الإيجابي، والمؤرخون للحركة النقدية يختلفون في رصد هذه الظواهر، فمنهم من يقسمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الريادة، ويأتي على رأسها (الصبان)، ومرحلة التأسيس ويأتي على رأسها (عبدالله عبدالجبار)، ومرحلة الانطلاق، وهي خليط من كتاب ونقاد شتى، لا نستطيع أن نحصيهم عدداً، ولا أن نحدد اتجاهاتهم ونوازعهم ومستوياتهم، وتلك المرحلة مع ما هي عليه من تجاوزات تمثل الوجه المشرق للحركة النقدية، ومن محامدها تجسير الفجوات بين النقد في المملكة وسائر المشاهد النقدية العربية، ومهما تحفظنا على بعض التجاوزات فإن المشهد النقدي ينطوي على إيجابيات لا ينكرها إلا مغالط، وستظل القضايا والإشكاليات وأسلوب تداولها مثار جدل عنيف واختلاف لا يرجى حسمه، ومن الخير للمشهد أن يظل عامرا بالجدل المعرفي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|