مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:53 PM   #28
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
من الكتبَة الجوف إلى المشهد اليباب..! (1-2)
بقلم :د.حسن بن فهد الهويمل


الراصد الممتلئ بهم أمته، المسكون بقضاياها المستباحة، يبصر ويسمع كافة المشاهد: الفكرية والسياسية والأدبية، - وهي مليئة كما الفلك المشحون - بالقول الهزل والعراك الرخيص. ويكاد يعض على جذع شجرة هروباً من الخائضين في ثوابت الأمة. والمستمع الشهيد يصده عن المتابعة تكاثر المتدافعين إلى بؤر التوتر، ممن تحكمهم شهوة الكلام، ويقعد بهم داء الشهرة، ويعميهم غَمْط الحق، ويصمُّهم تأليه الهوى. ويأسى على ما يثيرون من آراء مرتجلة، تمس الثوابت، وتنقض عرى الإسلام، وتفرق ما اجتمع من صف أو توحد من هدف. ويزعجه ما يعبِّرون عنه من تصورات مضطربة. ويريبه ما يدوكون به ليلهم من نجوى آثمة، نهوا عنها، ولم ينتهوا. وسواء في ذلك الغلاة في الدين، والمفرطون في جنب الله. والمتحسس عن مبلغ الطرفين من الأشياء، يجدها غاية في الضحالة والتسطح. وما أدري في تلك الأجواء الملوثة، ماذا يراد بهذه الأمة؟ وإني لأرجو أن يريد الله بها رشداً. فقد تكون صحة الأبدان في العلل، ورب ضارة نافعة، والحب والكره لا يحققان واقع الأشياء، فكم من كاره لشيء، وفيه خير كثير، ونحن لا نعلم الغيب، ولو علمناه لاستكثرنا من الخير. وما نقوله عزمات صدق، لا تنجو من الزلل، وشفيعنا اجتهاد نبذل فيه الوسع، ونمحض فيه النصح.
وما نفتأ نُكره النفسَ على التفاؤل، وحسن الظن، والتماس المبررات، والقول عن المخطئ: لعله جهل أو لعله تأول، وإن بلغ السيل الزبى، وهم بمصالح الأمة من لا يدفع عن نفسه. والمتهافتون على القول ونقيضه لم يدعوا فسحة لمعذِّر ولا حجة لمبرر ولا مجالاً لمجادل، {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} «النساء: 109». واشتغال الكتبة الجوف في المسكوت عنه، والنبش في الموبقات، لم يكن أمراً عارضاً، ولا مروراً كريماً، إنها شنشنات أخزمية. وليس صحيحاً ما يشاع عن تمسك الماضويين بتحريم الحديث عن الدين والسياسة والمرأة وملحقاتها. وكم من مفتريات تشاع للتضليل أو للتخدير، وإشاعة هذا الإفك تهيئة للأذهان، وترويضٌ للجماح، وتمكين من التعايش مع المشككين والمخذلين والمستغربين. ولست متفائلا بمآلات هذه اللجاجة التي تغذيها أقلام غضة، وأفكار ضحلة، ونظرات قصيرة، وخصام غير مبين.
والمتابع المعني لا يستطيع أن يؤسس على هذه الأقاويل ونواقضها، في زمن اختلطت فيه الأوراق، وتساوت فيه الرؤوس، وتطاول فيه (مادر) على (حاتم)، و(باقل) على (قس)، وفي هذه الغمة لن نكون متشائمين، لنقول ما قال (المعري): - (فيا موُتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ) ولكننا - وقد هزل الدهر - نطلب من النفس أن تجدّ، وأن تكون لوَّامة لا أمارة بالسوء. والمشاهد الموبوءة بالمتناقضات الممتلئة بالكلم الرديء، لا بد فيها من الوعي التام، والتوقيت الدقيق، والتقدير المناسب، وأخذ الحذر، والأخذ على يد الفارغين الذين لا يراعون مقتضيات الأحوال، فمن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، ويباشر الفعل الرشيد قبل أن تفيض المشاهد بالغثاء والغثيان والفوضى، وأن يذر قرن (برودون) رائد (الفوضوية)، ويبدو وجه (سارتر) الباسر، رائد (الوجودية) فتظن وجوه المغلوبين على أمرهم أن يفعل بها فاقرة. وذلك الواقع العربي المدان بكل المقاييس يمتد دخنه إلى كل الأجواء المجاورة، وتلك أجواؤنا مصابة بعوارضه وأعراضه، إذ لا مجال للاعتزال، وعندئذ لا بد من التحرف لمواجهة متكافئة.
ومن المغالطات المربكة القول بأن هذه الإثارات المستفزة، وانفلات الأقلام من أفلاكها مخاض تحولات ومتغيرات طبيعية، إنه قول زائف، يروَّض فيه النفور، وتهدَّأ فيه الأعصاب، وبخاصة حين يعوِّلُ المتابعون على الوعود الزائفة والأماني الكاذبة، مما يتبادله أدعياء (التنوير) بين يدي نجواهم.
والعلل المستبطنة أن المتلقين لفيُوض الأفكار والمصطلحات، ما تقدم منها وما تأخر، لا يعرفون جذورها ولا محققاتها، ولا يراعون مدى تقبل حضارتهم لها، واتساعها لمقتضيات تلك المصطلحات التي ألْهتنا عن كل مبادرة. وهذا القبول والترويج دليل خواء فكري، وفراغ معرفي، وتبعية معتقة، وقابلية للخنوع.
وإلا كيف تعدو عيوننا عما في تراثنا من مصطلحات في الفكر السياسي الإسلامي، تغني عن استجداء الآخر؟ إن لدينا فكراً سياسياً لو تلقيناه باليمين، وأخذناه بحقه، وفعّلناه وفق مقتضاه، وخضعنا له، ولم نخضعه لأهوائنا، وعملنا من خلاله، ولم نستعمله لتبرير مقترفاتنا، لما كنا كما نحن، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومنذ اندلاق أقتاب الغرب في مشاهدنا ونحن نحذر مما تعنيه مصطلحات (التنوير) و(الحداثة) و(الليبرالية) وسائر المصطلحات الغربية القائم منها والحصيد، ونبين عن مدى مخالفتها لمقتضيات حضارة الانتماء، ونردد القول بأن تحفظنا لن يحول دون الاستفادة منها والتفاعل معها، ولقد أكَّدنا على التفريق بين الوسائل والمبادئ، فمصطلح ك(الديموقراطية) ينطوي على الوسائل والمبادئ، فوسائله وبعض مبادئه حق، والحق ضالة المؤمن. ومكمن الخلل في الطائفتين: طائفة الرافضين للمصطلح على الإطلاق، والمتلقين له على الإطلاق. وما أضر بالأمة إلا تلك الإطلاقات المعممة. والقبول بالمصطلحات دون تحديد وقوع في المحذور، غير أن تحذيرنا صرخة في واد، لا تؤوِّب معه إلا الجبال. وتلقي المستجد لا بد أن يكون محكوماً بضوابط الإسلام، وما أحد من المتداولين لشيء من مستجدات الغرب فصَّل القول، وحدد المواقف، وطمأن الموجسين خيفة.
وحرية التعبير والممارسة والتلقي في الإسلام ليست كما هي عند (الليبرالية) أو (الديموقراطية) ولهذا لا بد من الاحتراس عند التداول لهذه المصطلحات. والحرية التي يتغنى بها كل مفكر، ويدعيها كل مسيطر، تمثل إشكالية عصية الحل. لقد اعتورتها سهام المفكرين منذ العصور اليونانية حتى اليوم، ومازادوها إلا غموضاً وتعقيداً. وليست إشكاليتها واحدة، ولو كانت واحدة لأمكن اتقاؤها، ولكنها إشكاليات تتعد بتعدد الأزمنة والأمكنة والمفكرين: فهناك حرية الاعتقاد، كما يراها أهل الملل والنحل، وهناك حرية الفكر على إطلاقه، وهناك علاقة الحرية بالسلطة، وهي علاقة قول وفعل، وهناك حرية الرأي، وهناك تعددية المفاهيم بتعدد الحضارات والملل والنحل وتحولاتها في الأزمنة والأمكنة، وهناك إشكالية الحرية بين الحدِّ والمطلق، وهناك حرية الفنان والمبدع القولي بوصفها تختلف عن حدود غيرها، وهناك علاقة الحرية بالمقدس، وهناك حقوق الشعب، وحقوق الفرد وحقوق النوع كالمرأة والملونين وطبقات العمال. لقد عالجها الدكتور (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحرية) بوصفها جزءاً من الفلسفة، بحيث تناولها بين الإثبات والنفي، ومعنى الضرورة، وضروب الحتميات، وحرية الإرادة، وإرادة الحرية، والحرية والوجود الإنساني، والاختلاف بين الحرية والتحرر. وفي النهاية أكد على استحالة حل مشكلتها حلاً عقلياً على الأقل، وما من متوسل بالحرية حرر مسائلها، وحدد منطلقاته منها، وسنعود إلى مشكلة الحرية، عند مسح المراجع ونضوج الفكرة.
وأدعياء (التنوير) الذين يخادعون بمراوغة المصطلح، ينقمون على الماضويين الأخذ بالضوابط الحائلة دون استشراف المستقبل وتقبل المستجد، ويمارسون ردود الأفعال المفعمة بالانفعال، ويتعاملون مع مفردات حضارتهم تعامل التنويريين في الغرب مع مفردات حضارتهم. ونقد المعرفة ونظرياتها بمنهج (راديكالي)، واقتراف الاختزال لشموخ الحضارة تفويت لحق الأمة في السياق التاريخي. ومن الخطورة بمكان تقمص المناهج والآليات والمواقف دون استبانة أو تثبت. وما علينا إذا أردنا وضع الفارغين أمام أنفسهم، إلا أن نسأل عن (التنوير) في مفهومه الغربي، بوصفه مجلوباً بدون فهم، وبدون تعديل. و(التنوير) بهذا المفهوم وأسلوب الأداء من خلاله ليس بنافع لأمة ليست لها الخيرة في الرد عند التنازع إلى الله والرسول، فهي أمة محكومة بالنص التشريعي، وفسحتها في احتمال الدلالة والتأويل ومآلات الاجتهاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} «النساء: 59».
وإذا قبلنا الاختلاف في مقتضى النص وتأويله وفسح السياق فإن القبول بمخالفة القطعي الدلالة والثبوت أمر مستحيل لأن ذلك وقوع في نواقض الإيمان، والمتلقي للنص أمام برهان قطعي لا اجتهاد معه، أو دليل احتمالي يتحتم معه الاجتهاد، والكتبة الجوف يخلطون بين النصين دون وعي ب(نظرية المعرفة)، فمن لي بمن يلوي لسانه بالكذب، ليرده إلى جادة الصواب، ويعلمه أن للاجتهاد مجالات وإمكانيات وشروطاً، وليس مباحاً لكل من أجرى قلمه وأطلق لسانه.
والمصطلحات ليست مجتثة من فوق الأرض، فالرصد التاريخي والتفكيك المفهومي يعود بجذور كل مصطلح إلى حواضنه، ومصطلح (التنوير) - على سبيل المثال - يعود إلى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وهو عصر ظلمة وضياع وتخلف، يحتم التفكير بالتغيير، وتحرير العقل من هيمنة النص المزور، وأول من طرحه (الأب ميسلي) الذي يقول: - (بأن نور العقل الطبيعي هو وحده الكفيل بأن يقود الناس إلى الحكمة والكمال العقلي)، ونور العقل من خلال المنظور الإسلامي مستمد من نور الله، الذي هو نور السماوات والأرض، وليس هو بالنور الشرقي أو الغربي، كما يراه تنويريو عصر الظلمة، ولا الذي سايره الفارغون في عصر الخواء واليباب والتبعية العمياء. وبمراجعة الفصل الثاني من كتاب (الإلحاد في الغرب)يتعرى الأدعياء الجوف، فالحراك الغربي يمثل الانقطاع، وما الخطاب المستغرِب إلا صدى له، ولوضوح الرؤية نُحيل إلى كتاب (مقدمة في علم الاستغراب)، وكتاب (من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب) ففيهما يتعرى التهافت وينكشف العوار.
ومن بعد (ميسلي) قال (كانت): - (إن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر) فالتنوير الذي يعوِّل عليه الكتبة الجوف، يعني الخلوص من هيمنة الوصاية الماضوية بكل أشكالها ومرجعياتها، والتعويل على العقل كما يراه (كانط) أو كما يُنظِّر له (الجابري). والعقل مناط التكليف، ولكنه مؤطر بفضاء النص. ولقد كانت مقولة بعض المتعالقين مع الغرب في محققات (التنوير) صريحة، بحيث لا يتحقق إلا بالخلوص من المرجعية الماضوية، وبخاصة الشرعية منها. وإذا قُبل هذا الإطلاق في الفكر الغربي، فإن الفكر الإسلامي يخفق بجناحي (العقل) و(النص)، والكتبة الجوف لا يدرون ما المرجعية في المفهوم الغربي، وما هي في المفهوم الإسلامي، وتلك قاصمة القواصم. والتاريخ الفكري والسياسي الحديث ينطوي على محطات متوترة، مرت كما سحائب الصيف. غير أن الواقع المعاش مختلف جداً عما سبق، فليس التسطح على القضايا، كالتثوير والتبئير، وليس العلماء الضالون عن علم كالأدعياء المتعالقين عن بلاهة.
إن أصحاب الهموم، وأرباب القضايا، وأساطين المواقف، يمتلكون المناهج والآليات، ويستدعون أصول المذاهب وقواعدها، أما المغثون فكالصدى. والمتسطحون على حراك المشاهد المخادعون بالتشبع، المضلون بلوي الألسنة بالمصطلحات الغربية، المحيلون كل الخطيئات على خطاب التجديد الديني، لا يعرفون ما هي عليه، ولا يجوِّدون رؤيتهم بالضوابط والتحفظات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل