مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:15 PM   #47
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
متمردون لوجوه شتى..! 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل


وأي تمرد قولي أو فعلي يحال إلى حواضن، تُنشئها الأوضاع أو يجلبها الأتباع، ومن جَهَلَها فكأنّما وتر أمنه واستقراره، وفي كلِّ يوم تطلع فيه الشمس نسمع عن تمرد عنيف ورد فعل أعنف، تلفظه فوَّهات المدافع أو أفواه الرجال، وتفاهة التمرد الأكثر إيذاءً، والأضعف جنداً ما نسمعه أو نقرؤه عبر وسائل الإعلام من أصداء لصائحين محكيين. فمن الناس من يكون تمردهم اجتراراً لقضايا مهترئة، ليس لهم فيها من أثر إلاّ التسخين لما غَبَّ من طبيخ. فأصحاب هذه الإثارات لم يكونوا أهل مشاريع فكرية، ولا أصحاب قضايا مصيرية، وإنّما هم أصداء يأوِّبون الصوت، وأجسام يعكسون الضوء، وهم كما يقول (بتلر): (ثمة رجال يولدون أذناباً، ومحاولة جعلهم رؤوساً ضرب من العبث). وهؤلاء الأذناب لا يلوون على معرفة عميقة ولا يتوفرون على تجربة ناجحة، وليس لهم أشياع ولا أتباع، يتولون إشاعة قولهم، وحماية ساقتهم. وليس بمستبعد أن يكون اللاعبون الكبار في بعض المواقف أحوج إلى أذناب الثعالب منهم إلى براثن الأسود، ومن ثم لا يجدون بداً من النفخ في هذا النوع من البالونات، وتمرد هؤلاء يكون لوجوه كثيرة، بحيث يكون لكلِّ تمرد وجه جديد يوفض إليه كما النُّصب، وكلّ همّ هذا الصنف المزعج الشغب والإثارة، لضمان بقائهم في دائرة الضوء الزائف. ومن إضاعة الجهد والوقت نزيف الأحبار لصدهم عما هم فيه، إذ من الحكمة ألاّ يُعبأ بهم، لأنّ المرور الكريم بمثلهم كفيل بتجفيف مستنقعاتهم. والمشهد الإعلامي مليء بهذا الصنف المخف من كلِّ شيء. والإشكالية حين يكون البعض من هذا الصنف محسوباً بمظهره أو بعلمه أو بتخصصه على مدرسة فكرية تتسم بالوسطية والتوازن، والتأصيل والمرجعية، أمّا حين لا يكون معروف الانتماء بمظهره أو بعلمه أو بتخصصه فالأمر جد بسيط.
ولا تخلو أي مرحلة تاريخية من متمرِّدين لوجه الرحمن، أو لوجه الشيطان، أو لوجه الدينار، أو لوجه الوجاهة. ومكمن الخطورة في التباس الأمور والتياث الكلم، وما من متمرد إلاّ هو على بيِّنة من أمره، يعرف لوجه من يتمرد، والنوايا لا يسبر أغوارها إلاّ بارئها، ولو عرفها الأشياع والأتباع معرفة المتمرد بها لما كان تناحر ولا صدام. والمتمردون لوجه الكسب المادي الرخيص يتعمّدون الاستفزاز بسوء الأدب، وكشف المستور. والسرديون يقدمون غيرهم إلى بنيات الطريق، وكم سيئت وجوه العقلاء العالمين من هراء سردي يتخطفه القراء في طبعته السادسة، لا لشيء إلاّ لأنّه تمرد على القيم وصدم للمشاعر.
وكلُّ متمرد إمّا أن يكون في مقدمة الفتن يرود لها الطريق، أو في ساقتها يذودها عن القوم. وإشكالية الفتن أنّها مجهولة عند الإقبال، معروفة عند الإدبار، وما يوقظها من مرقدها إلاّ الذين هم أراذل القوم، وليس شرطاً أن يكون كلُّ المتمردين من علية القوم: علماً وعقلاً، فالشرفاء يفكرون ويقدرون، والأشرار يُقتلون حيث يقدِّرون.
والمتمرد حين يكون تمرده لوجوه متعدِّدة، يكون ذا مستويات متعدِّدة، فقد يكون تمرد فكر لا تقدر السلطة على ضبط إيقاعه، وقد يكون تمرداً حركياً لا تستطيع أجهزة الأمن على قمع اعتدائه، وقد يبلغ ذروته فيكون تمرداً مسلّحاً يألف الناس معه حمامات الدم. فهذا (العراق) و(الصومال) و(أفغانستان) وبقاع شتى تتبادل القبس كما لو كان جذوة من نار. والعالم بأسره عبر تاريخه الطويل يمر بهذه الأنواع وتلك المستويات، وما من متمرد إلاّ هو آخذ بناصية النوايا: الحسنة أو السيئة، وهي كما قيل خطوات يمشيها من كُتبت عليه، فإمّا أن تبلغ الغاية أو تقعد دون ذلك. ولسنا بصدد التزكية أو التخوين، ولكننا نقرأ تأريخ الأمم والجماعات والأفراد، ونقر ما اطمأنت إليه النفس، ونود أن نكون ممن يوعظ بغيره، ولا يوعظ به غيره.
وإذا كان القسط الأوفى في ظاهرة التمرد للعلماء والمفكرين والمجدِّدين فإنّ المبدعين أقل تمرداً وأعنف لغةً، ولكنه تمرد لا يحدو الجماهير بمثل ما يحدوهم المفكرون والعلماء والمصلحون، وأخطر الأنواع ما كان مصنوعاً لأداء دور يعوق مسيرة الخير، ويزرع الشوك.
ولقد عُرف التمرد الإبداعي عند (الصعاليك) من قبل، ثم اندلقت أقتاب الشعوب حين دخل الناس في دين الله أفواجاً، واستفحلت ظواهر الشعوبية والزندقة والمجون، وعُرف من الشعراء من أوغل في ذلك، فكان (بشار بن برد) و(أبو نواس) وسائر المجان والمتهتكين من الشعراء الذين تقصى أخبارهم (ابن المعتز) و(الأصفهاني). ثم جاء تمرد من نوع آخر عند (المتنبي) كان وقوده جنون العظمة، وتحدى العوائق والإحباطات المتلاحقة. أمّا التمرد الفكري عند المبدعين فكان رائده (أبا العلاء المعري). ولكلِّ قوم أو فترة متمردون هادون أو مُضلون. وخير الفترات من تكون ولاداتها ميسرة ولا مبتسرة، وأطيافها متعاذرة لا متنافرة، وخطاباتها متناغمة لا متصادمة.
ومكمن الخطورة في العصر الحديث سهولة الاتصال وسرعته، واستغلال (الليبرالية) في حرية الدين والسلوك والتعبير، ومن ثم استفحل تمرد القول، بحيث اقتسم الظاهرة الشعراء والسرديون، والأدباء والمفكرون، والساسة والإعلاميون وسائر الأحزاب الطائفية والقومية. ولقد كانت تمرداتهم لوجوه كثيرة، ليست على شاكلة ما سلف، وكان في مقدمة الوجوه (المد الثوري) و(المد الماركسي) و(المد التنويري) و(الطائفية) و(القومية)، ومجمع الوجوه رفض السلطات الثلاث (الدين) و(السلطان) و(المجتمع)، ومخاضات العصر المتواصلة أطفأت حدّة التأثُّر والتأثير، وجعلت العامة يمرون بها دون اكتراث.
وللروائيين تمرد متعدد الوجوه، لقد تمرد عليتهم على الدين، فكان الانحراف الفكري، وتمردوا على المجتمع، فكان السقوط الأخلاقي، وتمردوا على السلطة فكانت الفوضى وضعف الوازع السلطاني، فجاءت الأعمال الروائية متأدلجة لوجه الفوضى الوجودية و(الليبرالية) الفوضوية. وكان هذا الحراك يملك إمكانيات التمرد من لغة متعالية وفن رفيع، ولكنه لا يملك مشروعية الفعل، ولقد لحق بكبار المتمردين من عمالقة الروائيين أوغاد تافهون، لا يملكون إمكانيات إبداعية، ولا يتوفرون على أدنى مشروعية للفعل. والراصدون لهذا اللون من التمرد يذكرون ما أحدثه (محفوظ) و(حيدر) و(حامد) و(شكري) وآخرون لم يلحقوا بهم في الإبداع، وإنّما تماهوا معهم في السقوط والانحراف.
أمّا في مجال الفكر السياسي فحدث ولا حرج، والمشاهد مليئة بالمتمردين لوجوه متعدِّدة. ولقد كان متكأ أصناف المتمردين حرية الرأي التي لم تؤخذ بحقها. وستظل المشاهد مسرحاً لبغات الطير، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وليس تمرد المفكرين والعلماء والصحفيين بأقل من تمرد الساسة والمصلحين، ولعلّنا نذكر على سبيل المثال أنواعاً من عمليات التمرد الفكري المتفاونة في دركاتها وآثارها. فالدكتور (عبد الصبور شاهين) الذي قاد حملة عنيفة على المتمرد لوجه العقل الحر (نصر حامد أبو زيد) تمرد هو الآخر على المسلّمات، حيث ألّف كتاب (أبونا آدم) فأحدث ضجة في وسطه الفكري الذي ينتمي إليه، الأمر الذي حمل المتمردين لوجه العقل الحر على الشماتة. وكتاب (شاهين) الذي أتممت قراءته بين السماء والأرض من (القاهرة) إلى (الرياض) لا ينتمي إلى فكر، ولا يناصر نحلة، ولكنها فكرة فجّة، اجتاحت مخيلته فحوّلها من الخيال إلى الخبال، ومن الإخفاء إلى الإبداء، فجاءت رؤية ليست في العير ولا في النفير، وأحسب أنّها أطفأت ما اكتسبه من نور. وقد أضافها الخصوم إلى موقفه المشبوه من الاقتصاد الإسلامي الذي خيّب ظنه، ولم تنج سمعته.
و(شاهين) الأمكن في عالم الفكر الإسلامي المعاصر، تعرّض لضربات موجعة، قد تكون مدبرة لتقليص شعبيته، وتقليص أثره بوصفه خطيب جمعة يحرِّك الشارع الإسلامي. وتجربتي مع الدعاة تؤكد أنّ من يؤجِّجون الشارع براجماتهم البلاغية يستهلكون ترسانتهم في وقت قياسي، ويحققون مكتسبات بوقت قياسي أيضاً، ولكنهم لا يحافظون على تلك المكتسبات، فهم كالمتظاهرين، يلتهبون بسرعة، ثم يخبو أوارهم.
أمّا (نصر حامد أبو زيد) فتمرده لوجه العقل المتعالي فوق النص معيداً إلى الأذهان الخطاب الاعتزالي الذي أصبح من أكثر الخطابات حضوراً وإثارة، وهو وإن استعاد بعض آراء المعتزلة إلاّ أنّه أبعد النجعة، وأتى بما لم يأت به سلفه، وحجّته الخطيرة التي أردته أنّ (القرآن) تأنسن حين تلبس باللسان. فالقرآن كلام الله يوم أن كان خارج اللغة في (اللوح المحفوظ)، وحين تلبسته اللغة أو تلبسها أصبح محكوماً بضوابطها ودلالاتها، ولقد كان لآرائه الفجة أثرها في تحريك الوسط العلمي. والإشكالية تكمن في تطرُّف الفئتين عند تفنيد وجهة نظر الآخر. (أبو زيد) أوغل في طيشه، والمتصدُّون له أوغلوا في تكفيره. والحكمة تقول الرأي كالضيف، يكرَّم ولا يتحكَّم، والمنحرف كالمريض، يٌتلطف معه ولا يٌطاع، والخطأ في إصدار الحكم قبل المحاكمة، وفي ذلك تقديم للعربة على الحصان، وكان الأهدى والأجدى أن تحرر المسائل، وتحدد الانتماءات، ثم تؤخذ القضية من أطرافها. لقد أنزل عليه حكم الردّة والإلحاد قبل جر قدمه للمصير إلى الحكم دون إصداره، والذي خلط الأوراق وفوّت فرصة الجدل الموضوعي إصرار كل فئة على رأيها، ودخول انتهازيين استغلوا المواقف. لقد تراجع سلفه (طه حسين) وأذعن للحكم، متوسلاً بالتأول، فيما أصر (أبو زيد) على خطيئته، فكان النفاذ بجلده إلى جامعات تؤوي المحدثين.
ومن قبل أولئك رأس الهدامين (القصيمي)، لقد كان سلفياً ينافح عن أهل السنّة والجماعة، ولم تكن منافحته هوجاء ولا عاطفية، وإنّما كانت عن علم عميق ومعرفة بأصول المذاهب، وبين عشيّة وضحاها أخذه طائف التمرد العنيف، فكان أن فسق عن أمر ربه، وخاض وحل الهدم والإلحاد الذي لم يوافقه عليه أصحاب المذاهب المادية والإلحادية. ذلك أنّ لكلِّ ملحد مناطة، ولكلِّ متمرد وجهته. أمّا (القصيمي) فلم يكن له مناط، ولم تكن له وجهة يوليها، فكان من الهدامين الذين يتوسلون بكلِّ مذهب، لهدم ما سواه، ثم يعمدون لهدم المستعان به بآلية ما سبق هدمه، وتلك جدلية رعناء، لم تكن لها سابقة ولا لاحقة. ولهذا نبذه العلماء والمفكرون والساسة، وعاش غريباً ومات غريباً، وظلّت كتبه متداولة على أضيق نطاق لعجزها عن الإقناع، واتسامها بإسهاب كلامي ممل.
ولو ذهبنا ننقب في أرض الله الواسعة عن طوائف المتمردين، لما كان لنا أن نؤوب، والمأخذ المعرفي والموقفي أن الذين يتصدَّرون الوسائل الإعلامية يؤبنون المتمردين لوجه الشيطان بعد هلاكهم. وتظل راية التمرد تتلقّاها الأجيال باليمين، وتظل الشعوب المغلوبة تدفع الثمن من دمائها وأموالها وأمنها.
بقي أن أقول: - من عنده نعمة فليرعها، فإنّ المراء يزيل النعم، والأُمّة العربية والإسلامية مستهدفة، ومن الخير لها أن تتمترس خلف التعاذر والتعايش والتصالح حتى يأتي الله بنصره أو أمر من عنده.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل