الفكر التصالحي في خطاب عبده..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل
يظن البعض أن مصطلح (الخطاب) كأي مصطلح متداول من المصطلحات الغربية المترجمة، وأن الوعي العربي لم يبلغ الرّشد، وأن الثقافة العربية ثقافة استهلاكية، لا ترهص للظواهر الحديثة، ولا تؤسس للمصطلحات المعاصرة. وأحسب أننا نغمط التراث العربي حقه، وبخاصة حين نولي وجوهنا شطر الحضارة الغربية في كل ما نحن بحاجة إليه من مصطلحات تسد الرمق في كافة المعارف المتداولة.
ويقيني أن التراث الإسلامي أسس لكثير من المفاهيم الحديثة عرفها، وعرّف بها المنصفون من المستشرقين. وهذا التنبؤ لا يحفز على المقاطعة، ولا يغري بالاستغناء، ولا يوقع في مأزق المفاضلة والتصدير، وإنما يوجه إلى الأخذ عن الآخر بمقدار، ويشيع الشعور بالندية، ويحرض على التفاعل الحضاري، ويحذر من الانفعال غير المحسوب في القبول أو الرفض.
وأذكر أنني اشتركت قبل عقدين في ندوة أدبية نظمتها إحدى مؤسساتنا الثقافية عن تراثنا النقدي، وكان بعض المؤتمرين من أساطين الحداثوية كالدكتور (كمال أبو ديب)، وكنت وبحثي نشكل نشازاً في هذا السياق، وبالذات حين بحثت في الربط بين ظواهر النقد الحديث وما يقابلها في التراث النقدي القديم. ف(الحداثويون) جبلوا على نفي القديم والتقليل من شأنه، واحتقار الذات، والتباهي بالآخر، ولم يكن بمقدور أحد منهم أن يتفسح للتراث العربي في مشاهد الأدب والنقد، ليأخذ مكانه الطبيعي، ولا أن يذكر محاسنه حين قطع بموته، وما مروا من حضارة الهيمنة إلا ليعلموا مفرداتها، وينفوا تراثهم، وإن ذكروه فبسوء.
ومصطلح (الخطاب) متداول عند (الألسنيين) المحدثين، بوصفه مجمل النص لا جزئياته، وهو كذلك على مستوى الأفكار والحركات، إذ يعني مجمل الفعل لا جزئياته. وتراثنا العربي يعطي هذا المصطلح مفهوما مغايرا للمدلول اللغوي، جاء ذلك تلميحا في كتاب (الكليات) ل(أبي البقاء الكفوي ت 1094ه) أما مدلوله اللغوي فإنه يعني: (الكلام الذي يقصد به الإفهام)، وقد التبس هذا المفهوم على (علماء الكلام) حين يوصف القرآن به، حيث أثار كثيرا من التساؤلات حول الحدث والأزلية، وهو اختلاف واكب الذكر الحكيم منذ أن استفحلت قضية (خلق القرآن) بين (المعتزلة) و(أهل السنة والجماعة). ومرادنا من كلمة (الخطاب) هنا (جماع الحركة الدعوية وخصوصياتها وأهدافها). وأستطيع أن أقول انه الشرعة والمنهاج الذي يتبناه المفكر أو المصلح، فهو بإزاء الماهية بكل أجزائها.
وما نود تقصيه في فكر المصلح (محمد عبده 1849 - 1905م) نزعة المصالحة والتسامح والجنوح إلى الحوار الحضاري، وميله إلى الاشتغال في القواسم المشتركة بين الحضارات المهيمنة. وليس يعنينا بعد ذلك ما يخالف به سائر الخطابات السالفة أو اللاحقة، كما لا يعنينا ما يؤاخذ به من سائر المفكرين. إن هدفنا أن نثبت أثر الجنوح للسلم، واحترام الآخر في الحوار الحضاري، وهي السمة التي يتصف بها فكر (محمد عبده) بوصفه يعيش الوسطية بين (الطهطاوي) و(رشيد رضا). ولكي لا أتوسع في البحث، فقد جعلت متكئي في استجلاء نزعة (المصالحة) في خطابه على كتابين لعلمين من أعلام الفكر والفلسفة في العصر الحديث هما: الدكتور عثمان أمين، والأستاذ عباس محمود العقاد.
ف(أمين) جلّى بعده الفلسفي ونزوعه الروحي، و(العقاد) جلّى بعده النفسي وفكره التطبيقي، وكلاهما متوفر على دراية ورواية مكنتاهما من تقصي أحوال المصطلح. فالدكتور (أمين) ألف كتاب (رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده)، والأستاذ (العقاد) ألف كتاب (عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ الإمام محمد عبده).
ولقد تشعبت الدراسات، وتعددت الرؤى، وقيل عن المفكر ما لا يمكن الجمع بين أطرافه، وكل دارس من قبل أو من بعد أخذ الإمام من الزاوية التي تهمه، ولكن الجميع يكادون يلتقون عند نقطة واحدة، تمثلت بالتسامح والوسطية، كما يجمعون على أهمية الأثر الذي تركه في وسطه، بسبب ما توفر عليه من تأصيل معرفي، وتجربة عميقة، وتصالح غير مخل بهدفه الأسمى، وهو إشاعة الفكر الإسلامي بالمفهوم والطريقة التي يراها. فلقد كان كما وصفه (عثمان أمين) (أصدق داع للحرية الفكرية، وأول رائد للحركة الإصلاحية)، ثم هم بعد هذا الإجماع على التسامح تتشعب بهم الطرق، وتختلف الآراء، وتتعدد المواقف.
وعندما أشير إلى (المصالحة) فلست أقصد بها ما يسلكه المبهورون من استسلام مطلق، وتسليم غير مشروط، فذلك نوع من التمييع والمداهنة، وإن اتهم بها (عبده) تلميحا وتصريحا. كما أني لست معنيا بتفاصيل الحركة الإصلاحية ومدى التقائها أو افتراقها مع المذاهب الإسلامية في (الفقه الأكبر) أو في فقه الفروع، فالتقصي يستدعي التقويم الشمولي والدراسة المعمقة، وذلك غير مقدور عليه في بحث محدد، وما أقصده هنا وعيه للمرحلة التي عاشها، ومحاولته الجنوح للسلم والدفع بالتي هي أحسن، لتفادي المواجهة غير المتكافئة في العدة والعتاد، وهو الأسلوب الدعوي الذي نحن بأمس الحاجة إليه في ظل ظروفنا الراهنة، ظروف الغثائية وتداعي الأمم، وبخاصة حين تحرف العدو لإحياء الفتنة الطائفية والعرقية والإقليمية، وحقق ما يصبو إليه من مواجهة عسكرية يضرب فيها بعضنا رقاب بعض، وهو ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونود الإشارة إلى أن هناك تراجعات وتنازلات، يعدها المنهزمون لوناً من اللين والرفق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وما هي كذلك والخلط بين المفاهيم أضاع الفرص، ومكن للمهيمنين. والحركة الإصلاحية التي اعتمدها (محمد عبده) حركة ذات طابع حضاري، فهو قد عاش الاستعمار التقليدي في أوج نفوذه، وهو قد واكب حركة التغريب في عنفوان قوتها وتحرفها واستنجادها بالمبشرين والمستشرقين والمناديب، وهو في هذه المعمعة بحاجة إلى خطاب تصالحي يستطيع من خلاله أن ينهي مشروعه دون قمع أو مصادرة.
ومع تسامحه فقد تعرض للقمع والنفي، ولكنه واصل كفاحه لإبلاغ دعوته التي لم تعد جاثمة في الكتب، بل كانت مفهوما متمثلا في الواقع، والمتقصي لقدرات المصلح العلمية والعملية واهتماماته، يدرك أنه جمع بين التراث والمعاصرة، وأنه شكل حركة وسطية أتيحت لها فضاءات لم تتح لغيرها، وهذا مكمن التمكن. وهو فيما أرى يمثل الانفتاح على الثقافات والقبول بتفاعلها، ولكيلا تتشعب به الطرق فقد اتخذ القرآن الكريم منطلقه، ولم يكن قرآنيا نابذاً للسنة، ولا عالما يشتغل بمعارف اللغة، وإنما كان مستلهماً للمعاني، مستبعداً تشتت الآراء. ولهذا نجد مذهبه في التفسير يقوم على العموم والتعويل على المعاني العامة والشاملة، ولم يتوان في الإشارة إلى شمولية الإسلام وعموميته. والفرق بين الشمولية والعموم أن الشمولية ترتبط بالأحكام، والعمومية ترتبط بالمحكومين، فمنطلق الأولى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ومنطلق الثانية (هدى للعالمين).
ومن الثوابت عند علماء المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة، وهذا المفهوم عمق عنده نزعة المصالحة، وتفادي الصدام الذي أعاق كثيرا من الحركات الإصلاحية ومكنه من تقديم مشروع أخلاقي إنساني تقبل به الفطر السليمة. ومتى استجابت القيم السلوكية مع الحاجة قامت الألفة واستحال الصدام المعوق لنفاذ مبادئ الدعوة. وذلك ما عمد إليه المفكر في تفسيره، إذ لم يعمد إلى التفسير العلمي أو المعرفي، وإنما استوحى القيم. وكل صاحب مشروع فكري أو دعوي ينطلق من مؤيدات مشروعه، نجد ذلك في (الظلال) ل(سيد قطب)، وفي تفسير الشيخ (عبدالرحمن الدوسري)، ونجده بشكل أوسع عند الاتجاه العقلي في التفسير، ولقد استدركت عليه شطحات ولكنها ليست بحجم شطحات (مصطفى محمود) أو (شحرور).
لقد بدأت محاولاته الأولى متواضعة، تمثلت بتفسير سور أو أجزاء من القرآن الكريم، حيث فسر (سورة العصر) و(جزء عم) و(سورة الفاتحة) وهي سورة مكية تؤسس للدين، ولا تفصل، وهذا سر اهتمامه بقصار السور. ثم شرع في (تفسير القرآن الكريم) المعروف باسم (تفسير المنار) الذي بدأه ووصل به إلى الآية (125) من سورة النساء ثم أتمه تلميذه (رشيد رضا). ومنهجه في التفسير يكشف بوضوح عن نزوعه ل(المصالحة) في خطابه، فهو يعمد إلى استكناه القيم الأخلاقية الصالحة لكل زمان ومكان، وكل نحلة أو ملة تقيم مبادئها على القيم الأخلاقية وتنطلق منها.
ولهذا تجده يبحث عن إيصال روح القرآن الكريم ومبادئه العامة، واستبطان قيمه المشتركة في الحضارة الإنسانية، وهذه النزعات حادت به عن جادة المفسرين الذين درجوا عليها.
ولقد أشار إلى هذه النزعة التأملية في تفسيره لسورة (الفاتحة)، ولكيلا يدخل في دوامة الخلاف التي تحد من نزعة (المصالحة) عنده فقد سعى إلى تجنب مسائل الخلاف العويصة، وأخذ بوضوح المقاصد وما ظهر من المعاني في آي الذكر الحكيم، كما أنه لم يدخل في جدل مع المذاهب الإسلامية إلا بمقدار، وجل اهتمامه بالحوار الفكري مع الآخر، وهو حوار يتوسل بالعلم التجريبي والعقل الخالص، وهذا مكمن التحفظ عليه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|