مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:00 PM   #13
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
والآن لنبدأ مقالات 2005م


المواطنة بين تعدد المفاهيم وتشعب القيم الثقافية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لقد اهتم التشريع الإسلامي، بالتأصيل لمجموعة من القيم: العقدية والسلوكية والحقوقية والتعبدية والانتمائية الاصطباغية {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً}، وجاء المنقبون من علماء الأصول والكلام، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، وامتازت كل ملة أو نحلة بنظريتها المعرفية وقواعد مذهبها، وعرف كل أناس مشربهم، وتبدت هذه الأصول وتلك النظريات للمتلقي الواعي، وعرف كل قوم من لحن القول، وتشكلت عنده رؤية وسطية متوازنة، تعرف أركان الإيمان ونواقضه، وما هو قطعي يقيني، وما هو احتمالي اجتهادي، وواكبتها رؤية معرفية إيمانية لم تعطل الاجتهاد، ولم تعمله على إطلاقه في القطعيات واليقينيات والنصوص التي لا اجتهاد معها، كما يقول الأصوليون.
هذا الوعي الحصيف والرؤية النافذة روضت المستقيمين كما أمروا على قبول التعددية، واحتمال الاختلاف، وتقدير الآراء، واحترام الآخر، ما دام في النص بقية من فضاءات دلالية.
هذه الرحابة مكنت أهل الذكر من توقي التعويل على قيمة واحدة، تذر الأخريات كالمعلقات.
والرؤية لا تكون حقاً حتى تستوعب شمولية الإسلام وتتمثل توازنه، وتعي مجالات الثبات والتحول فيه، وتروض نفسها على أن الاختلاف أضعاف الإجماع، وأن العلماء متفقون على محدودية الإجماع وشمولية الاختلاف.
والذين اتخذوا بعض القيم معزولة عن السياقات والأنساق ومقتضيات العموم والخصوص والقوة والضعف والثبات والتحول، ولم يفرقوا بين الأفكار والعقائد، ومحضوا رؤيتهم الضيقة كل جهودهم، أضروا بمن حولهم، ممن صنعوا مثل صنيعهم، وممن حفظوا التوازن بين القيم. وكل من ذهب بما يرى، واتخذ إلهه هواه، وفارق جماعة المسلمين، وتفانى في تحويل فكرة إلى عقيدة، يكفر الخارج عليها، مستميتاً في استئثاره واستبداده، فهو واقع في نقض غزل الأمة من بعد قوة أنكاثاً، لأنه ترك المحجة، وتاه في بنيات الطريق، وكان أمره فرطاً. وكلما تعددت الثقافات بتعدد مصادرها، أو بتعدد نظريات التلقي، كان من الصعوبة بمكان اتفاق النخبة على وحدة المفاهيم والأفكار، وبخاصة أولئك الذين يوغلون في مسلماتهم، ويستسلمون للحساسيات المفرطة، ويقعون تحت عقدة الخوف غير المبرر ف(المواطنة) في ظل هذه المخاضات الفكرية والثقافية مفهوم مراوغ، يتعدد بتعدد الرؤى والمصدريات ونظريات التأويل. وليست هناك إشكالية عصبية في التوفيق بين وجهات النظر، متى حسنت النوايا، وشرفت المقاصد، وقوي الإيمان بالثوابت واليقينيات المجمع عليها، وتسامى الناس فوق الجزئيات والثانويات. أما إذا ضاع الإيمان أو اضطرب، لا أمان ولا قوة، ذلك أن طاقة القوة الحسية والمحرك لها والداعم لها إنما هو الإيمان الراسخ بالمبادئ، والمعرفة التامة بتفاوت الأحكام، وتبدل الأحوال، ودوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً.
والناهضون بالدعوة والإنذار لا بد لهم من فهم دقيق لمقاصد الإسلام، واحترام لمذاهب العلماء الأفذاذ، وترويض للنفس على قبول الرأي الآخر، وإمكان التعايش معه على قدم المساواة. وليس من حق أحد أن يصر على نفي الرأي الآخر ما دامت التعددية واقعة تحت طائلة الاختلاف المشروع. وإذا كان المذهب الواحد يقع بين علمائه الاختلاف، وفيه حكم مقدم، يعرفه الراسخون في العلم، فإن من حق المذاهب الأخرى أن تأخذ حقها ومشروعيتها، ولا تجوز الملاحاة، ولا الإصرار على التهميش، ولا استنزاف الجهد والوقت في المماحكة والجدل البيزنطي، وبخاصة إذا كانت لكل الأطراف مرجعية مشتركة وأصول معتبرة، فتلك المؤهلات تضبط حراك الناشطين في المجالات التوعوية والدعوية. و(المواطنة) الإيجابية لا تتحقق بالأثرة، ولا بالتنافي. وفي التسامح والتفسح في المجالس استجابة للمقاصد الإسلامية، كما يراها علماء الأمة، إذ هي تؤلف بين المفاهيم المتعددة. ولن يتحقق ذلك إلا بفقه النص التشريعي من حيث الرواية والدراية والبراعة في إنزال الحكم على النازلة. ومن الأخطاء الفادحة تصور الفقه مقصوراً على (فقه الأحكام) ومجرد القول بأن هذا حلال وهذا حرام، وتناسي (فقه الأحوال) وهو المتعارف عليه ب(فقه الواقع) و(فقه الأولويات) و(الفقه السياسي). والرسول صلى الله عليه وسلم استصحب هذه الأنواع الثلاثة، وما لحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن تركنا على (المحجة البيضاء)، ومن زاغ عنها بسبب الجهل، أو الهوى، أو التعصب، أو التقليد، هلك وأهلك من حوله من الأشياع والأتباع. وما استعصى على الرسل إلا (عقدة الأبوية)، وما استفحل التناحر، إلا في ظل الخلط بين الأفكار والعقائد، وما هلكت الأمة إلا على يد أغيلمة موغلة منبتة، تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
و(المواطنة) الإيجابية تتجلى في القول، وفي الفعل، وفي الترك، وفي التوازن بين الحقوق والواجبات. وحين يبادر البعض مهمة القول في (الشأن الوطني) في حالة من اضطراب المفاهيم، وتكالب الأزمات، تبدأ نذر الخلل في الوحدة الفكرية والدينية للأمة، وينسل من ذلك خلل آخر، يؤدي إلى تفكك الوحدات الإقليمية والسياسية والدينية. ومن استخف بالقيم والمبادئ، وركن إلى الحسيات والماديات، فوت على أمته فرصاً ثمينة.
وإذ يكون (الأمن) أغلى القيم وأهمها، فإن أي حراك ديني أو سياسي أو ثقافي أو فكري يساوم أو يزايد عليه تحت أي راية يعد في نظر العقلاء والمجربين ظلماً وعدواناً وتفريطاً، ولا ينظر إلى عوائد مزايدته أو مساومته مهما كانت. ذلك أن (الأمن) مصدر كل خير، ولن يستطيع أي مصلح في أي حقل حضاري أن يمارس عمله إلا في ظل (الأمن)، ولهذا شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ولزوم جماعة المسلمين، وغلظ على الخارجين، وأهدر دمهم، وقال: (فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، ومواجهة المؤسسات الشرعية خروج على السلطان، على أن السلطان ليس شخصاً بعينه، وإنما هو مفهوم وقيمة، متى اجتمعت عليه الكلمة، تعين سلطانه.
وإذا كانت (المواطنة) قيمة و(الدين) قيمة و(التعدد الثقافي) قيمة و(السلطة) بشعبها الثلاث: (الدولة) و(الدين) و(المجتمع) قيمة، فكيف نُوفّق بين هذه القيم، ونحفظ التوازن فيما بينها، وندرأ عن أنفسنا معرة الشقاق؟ ونحقق في ظل هذه القيمة وحدة وطنية شاملة.
لقد كثر المتصدرون للقول في هذه القيم، وأصبح الرأي العام نهباً للقول ونقيضه، تخترقه القنوات والمواقع والخطابات، ويتربص به المتعالمون والمستغربون والأضوائيون، وإشكالية الراهن من فئات تتجاذب الآراء والأحكام، وهي بعد لم تع عوائد ما تقول.
وما أضر بالأمة إلا اضطراب المفاهيم، وأنصاف المتعلمين، وإحجام المتضلعين إيثاراً للسلامة.
إننا نخطئ في مفهوم (المواطنة) ونخلط بينها وبين مجمل النزعات (الأممية) و(الأخوة الإسلامية) حتى لقد وقع البعض في التخلي عنها، نتيجة الفهم الخاطئ لمقتضيات (الأخوة الإسلامية) و(الاهتمام بأمر المسلمين) و(التداعي الجسمي للعوارض) ومقتضيات (التكفير) و(الجهاد) و(ديار الكفر والإسلام) و(أهل الذمة) و(المستأمنين) وأضاع البعض حقوق الوطن في ظل التعبئة العاطفية لدعوات (القومية) و(الدينية) و(الأممية) مع أنه لا تعارض بين هذه القيم، متى تعاملنا معها تعاملاً إسلامياً بعيداً عن (الفئوية) و(التطرف) و(هاجس التصفية للمخالف) ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم تنوع المفاهيم للجهاد وأحواله في (غزوة بدر) حين كرر كلمة (أشيروا علي) وكان قصده انتزاع موافقة (الأنصار) على مواجهة المشركين خارج أسوار المدينة، لأنهم لما يزالوا مرتبطين معه بعهد الدفاع عن حوزة المدينة. وهو المرتبط ب(جهاد الدفع). وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون (جهاد الطلب) أو هكذا خاف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصوروه.
وإذا كانت الأوضاع العالمية غير السوية في تصاعد مستمر، وتأزم مستحكم، كان لا بد من تبني أسلوب مرن، يحذر الاندفاعات غير المحسوبة، أو التردد الموهن.. فالقيم أخذت في ظل هذه الأوضاع المأزومة أبعاداً جديدة، وأصبح التعامل معها يتطلب عملاً مؤسساتياً، يتوفر على المعرفة والخبرة، ويتخلق بالحلم والأناة، ويمارس الدفع بالتي هي أحسن.
و(المواطنة) في ضجة الانتماءات وتناقض المفاهيم، ليست كلمة تقال، ثم لا تتبع ببرهان، إنها أخذ وعطاء، وتوازن بين الحقوق والواجبات. وتحقيق متطلباتها في ظل التعدد الثقافي قضية محفوفة بالمخاطر، وأخطر ما تواجهه الأوطان التعددية المعرفية والدينية والقومية والثقافية والطائفية. وبخاصة حين تتصور الأطياف أن تحقق انتمائها وولائها لا يتم إلا بإقصاء الآخر وتهميشه والنظر إليه بدونية.
وما سنومئ إليه لا يرقى إلى هذا التصعيد الخطير، ذلك أن وطناً ك(المملكة العربية السعودية)، لا يعاني من مثل هذه التعدديات الحدية الحادة، متى أخذت بحقها، وحيل بينها وبين الاختراقات المغرضة، فهو بلد إسلامي عربي خالص العروبة والإسلام. وإن كان ثمة إشكالية فهي في بعض الولاءات الخاطئة للإقليم أو للقبيلة أو للطائفة، أو لمناقضها من قومية أو أممية أو وحدة إسلامية غير ممكنة في ظل الضعف والاستكبار العالمي. غير أن ما منيت به البلاد شيء آخر، لما تزل بشأنه في أمر مريج. وفي ظل (الظاهرة الإرهابية) أصبح المتابع يخشى الاختراقات، ويعيش أسوأ الاحتمالات.. فالبنية السكانية والتعددية الثقافية والطائفية قابلة لكل الاحتمالات والاختراقات، والسمَّاعون للخطابات المتطرفة قابلون لمزيد من العنف والصلف والغلو والتطرف، وأحسب أن التعدد الثقافي من أهداف المناوئين والمتربصين.
وللحيلولة دون الاحتقانات والصدامات جاءت فكرة إشاعة ثقافة (الحوار)، و(مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) مبادرة حكيمة، اضطربت في مفهومه ورسالته الآراء، ولقد مر بتجارب حوارية، التقت فيها أطياف متعددة، وأتيحت للمؤتمرين فرص لإبداء المرئيات، والتعبير عن التصورات، وهامش الحرية المتاح لم يواجه معه المؤتمرون مرحلة حرجة، ولم يصلوا فيه إلى طريق مسدود، مع أن الأطياف دخلت خائفة وجلة متوترة، والبعض جاء وفي ذهنه أنه داخل في صراع التنافي والتصفيات، ولم يدر في خلد البعض أنه من الممكن أن تكون هناك أرضيات مشتركة، تتسع للتعايش والتقارب أو التعاذر، وقد تبلغ الجدلية ذروة التفاعل الإيجابي، ومثل هذا الوضع يعد من المبشرات. ومع هذا التفاؤل العريض فإن هناك مواقف لا يجوز الإغماض فيها، وهي مواقف نشأت من خطأ التصور، واستفحلت في ظل غفلة الرقيب، وتعدد الانتماءات الثقافية، وتجاوز سلطة المؤسسات، وتلقي المفاهيم من مصدريات غير شرعية، وسلبية المواقف أو عجزها عن تفكيك الذهنيات المضطربة وإعادة تركيبها، والتفريق بين الفئة الضالة والفئة المضلِّلة.
لقد عشنا غفلة المؤمن، حتى جاء (الحادي عشر من سبتمبر) ليكشف أوضاعاً غير سوية، وغير متوقعة، و(رب ضارة نافعة)، فلو امتدت تلك الغفلة لكان أن اتسع الخرق على الراقع.
والمسارعة في إشاعة ثقافة لحوار ومأسسة الحقوق حيلولة مرحلية دون تفاقم الأمور وتدهور الأوضاع، وتناول مثل هذه الطوارئ في وضح النهار من الأساليب الحكيمة، فما دام أنه بالإمكان المكاشفة والشفافية ومعالجة الأمور دون الخوف من الاستحكام والتأزم فإن السكوت مسايرة خاطئة، وتأجيل وقتي. وفتح الملفات ومعالجتها في ظروف الصحة والقوة أفضل من إرجائها، حتى يأتي وقت لا يحتمل استدعاءها، وقد يجد المتربصون الفرصة في تحريك تلك الملفات في الزمن العصيب، وفتح هذه الملفات ليس وقفاً على المؤسسات الرسمية.
إن على المقتدرين من علماء ومفكرين وخطباء وإعلاميين تناولها والتحذير من مغبتها، وطرح البدائل التي تسد مسد المغريات، فالمكافحة والتخويف حلول وقتية، والتأسيس لفكر بديل قادر على المنازلة وانتزاع الحق من أولويات المهمات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل