المواطنة بين تعدُّد المفاهيم وتشعُّب القيم الثقافية 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل
ولعل أولى الإشكاليات ما يتوهَّمه البعض من تناقض بين (الأخوة الإسلامية) و(المواطنة الإقليمية) المتمثلة في الحدود السياسية. ومع القطع بعدم التعارض تظل هناك تصرُّفات تؤدي إلى التناقض؛ فحب الوطن الإقليمي والعمل من أجله لا يقتضيان تصنيم الحدود، ولا المفاضلة، ولا التصدير، ولا يمنعان من الوفاء بمتطلبات الولاء والبراء، والنهوض بحق الأخوة الإسلامية. والحب الفئوي، والقطرية المنغلقة على ذاتها، وهاجس التصفيات للآخر بكل أنواعها ضربت مفهوم المواطنة في الصميم. وليست الممارسات على ضوء المفاهيم الخاطئة وَقْفاً على أمة دون أمة، وهواجس الخوف إن هي إلا بواعث ممارسات خاطئة، وحب الوطن لا يكون سليماً حتى ينفي عنه المقتدرون ما علق به من مفاهيم خاطئة وإغراق في التعالي والادِّعاء الأجوف، وخاصة حين تكون التركيبة السكانية قابلة للتنازع تحت أي ظرف عارض أو دائم؛ كالطائفية والعرقية والقومية. ومعضلة (الأقليات) الحقيقية في البلاد الواقعة تحت تأثير هذه الظروف مجالُ أخْذٍ ورد، حتى خرج مَن يقول: (مواطنون لا ذِمِّيُّون)، و(الوطن للجميع، والدين لله). وحتى اضطرَّت بعض الدول إلى وجود قوة محايدة للحجز بين الطوائف المتصارعة، وحتى وُجد مَن يتحدث عن (الجِزْيَة) واليد الصاغرة، ومَن يطالب بصرف النظر عن الأحكام الشرعية؛ لارتباطها بوقوعات تاريخية. وفات الجميع أن الأمر محلول إسلامياً، ولكن الناس لا يفقهون. ف(الرق) حين لا تتوفر شروطه لا يكون هناك (رقٌّ) بوصفه حدثاً، ولقد استطاع (الملك فيصل) رحمه الله حَسْمَ ذلك شرعاً، والخلوص من مأزق النقد العالمي، مع بقائه متى توفَّرت أسبابه. ولقد فعل مثل ذلك من قبلُ الخليفة الرائد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين لم يُعْطِ المؤلَّفة قلوبُهم، وحين لم يُنفِّذ (القطْع) في عام الرمادة، وظنَّ البعض أن هذا تعطيلٌ، وما هو بتعطيل. و(الذِّمِّيَّة) حين لا تتوفر حيثياتها لا يكون هناك أهل ذمة ولا جزية، ولما تُحسم مثل هذه القضايا، وكان بالإمكان حسمها، فوجود حُكْمها لا يقتضي وجود عَيْنها. والحياة بدون سلطة تحسم وتعزم حياةٌ وحشيةٌ، والسلطة بدون نظام يحدُّ من غلواء كل الأطراف تسلُّطٌ وفوقيةٌ. ولعلنا نضرب المثل بحق (القوامة) وما يستتبعه من (طلاق) و(هجْر) و(تعدُّد)، لقد أخطأت أطراف كثيرة في فهم هذه الحقوق؛ إذ ربطتها بالوقوعات لا بالمقْتضيات، وأحسَّت بالحرج، وأعطى البعض الدنيَّة في الدين بوصفه - حسب تصوُّرهم - عاجزاً عن مواجهة الحضارة والمدنية، فكان أن اخترقت (العلمانية الشاملة) و(الفوضوية) باسم الحرية نظام الأسرة والأحوال الشخصية فأفسدتها، وفرضت واقعاً يُوهم بضرورة المراجعة للثوابت. وليس أمام المسلمين ما يحرجهم لو أنهم فهموا المقاصد والمقتضيات، واستجابوا لله والرسول. والمستجدُّ من القضايا بحاجة إلى دراسة فقهية مؤسساتية تتعامل مع النوازل، وتواجه الرأي العام العربي بحُكْم متَّزنٍ تتمخَّض عنه مداولات أهل الذكر. وكم هو الفرق بين حفظ التوازن بين سائر الحقوق والواجبات والاهتياج العاطفي الذي يصنِّم الحدود، ويُلغي كل حق في سبيل الحق الفئوي الأهوج للوطن أو للسلطة أياً كان مصدرها. وإذا حصلت مواقف فردية تُقصي حقوق المسلمين، وتضحِّي بها في سبيل النزعة القطرية، فإن ذلك لا يخوِّل الأطراف الأخرى نسْف المواطنة الإقليمية وإلغاءها.
والتعدُّد الثقافي وتفاوت المفاهيم لا يحملان على الصدام، وإنما يحرِّضان على إيجاد أرضية مشتركة يمارس الفُرقاء من خلالها إعادة الوفاق ومبادرة الحوار، وامتحان المفاهيم؛ سعياً وراء تمحيصها، والتأليف فيما بينها، والنظر إليها بوصفها رؤًى متعدِّدة لا متناقضة. وكل ذاهب بما يرى يجب عليه ألاَّ يقطع بصحة ما يعتقد وخطأ ما يعتقده الآخر، إلا ما كان حُكمه مقرَّراً بنصٍّ قطعيِّ الدلالة والثُّبوت، وما كان من أركان الدين المعلومة بالضرورة، فهنا لا تكون مزايدةٌ ولا مساومةٌ ولا اجتهادٌ. ولكن يجب أن يكون التحديد ناتجَ تداولٍ مؤسَّساتي يضع في (أجندته) كل الاحتمالات، ولا تُؤخذ الأحكام المصيرية من أفراد يتَّكئون على أرائكهم ويطلقون الأحكام على عواهنها، لمجرد أنهم يعرفون فقه الأحكام، ويأنسون بحُكمٍ أطلقه عالم تُوجِّهه سياقاته، ولم يكن حكمه من باب الإجماع. وإذا كانت القضايا والرؤى والتصورات مجال اجتهاد فإن التعصُّب لها يُعدُّ من تأليه الهوى. وأخطر قضية تعيق المسيرة الثقافية الخلطُ بين الأفكار والعقائد؛ فالأفكار قابلة للاختلاف، أما العقائد فهي من الثوابت والقطعيات، ولكن كيف نفرِّق بين الثوابت والمتغيرات واليقينيات والاحتماليات والأفكار والعقائد؟ إن هناك دليلاً يحتمل التأويل، وهناك برهاناً لا يحتمل إلا معنًى واحداً، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منازعة الأمر أهلَه: (إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، ولم يقل (دليل)؛ لأن الدليل يحتمل عدة مفاهيم، أما (البرهان) فدليل قاطع. والعلماء اختلفوا في الفروع، وتقاربت وجهات نظرهم في الأصول، وكتبوا في قضايا الإجماع ومجالات الاجتهاد، واختلافهم لم يصل بهم حدَّ المواجهة، ولم يمتد إلى العامة إلا في حالات نادرة، حشد فيها البعض مشاعرهم، وتحوَّلت تلك المواقف في التاريخ الحضاري إلى حالة من التندُّر. وما أضرَّ بالأمة إلا التكثُّر والتقوِّي بالأتباع، وخَلْق جماعات الضغط الغوغائيَّة.
والمواطنة في ظل تعدُّد الثقافات تعني المشاركة لا الأثرة، والتعاذر لا التنابذ، والتعايش لا التصادم. وليس في ذلك ما يمنع ما دامت الأمة متَّفقةً على الثوابت، محترمةً لما عُلم من الدين بالضرورة.
وإشكالية الأمة في عجزها عن استيعاب الخطابات المحتملة، وإذ يكون من المتعذَّر واحدية الخطاب فإنه يجب التماس مسوِّغات التعدُّد في إطار المفاهيم العامة، وليس بمستبْعَد أن يندَّ البعضُ فيضِّيق واسعاً، وقد فعلها بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال قائلهم: دَعْني أضرب عنقه يا رسول الله، لمجرد أن المخالف ارتكب خطأً لم يحتملْه العاديُّون. وحين جاء عمر مُمسكاً بتلابيب أحد القرَّاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرسلْه يا عمر، وطلب منهما القراءة، ثم قال لكلِّ واحد منهما: هكذا نزل القرآن. وحين أقسم البعض بنفاق مَن فارق المصلِّين بسبب الإطالة، ولم يُثْنِهِ إلا قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ؟!). وإشكالية الأطياف عجزُها عن استيعاب شمولية الإسلام وتسامحه، وكون نصوصه حمَّالة أوْجُه، وأن هناك قضايا أمة وقضايا أفراد. لقد تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؛ لأن قضاياهم مندرجة ضمن قضايا الأمة، ولم يكن تسامحه موافقةً لهم، ولا إذعاناً لأذيَّتهم، ولكن لكيلا يقول الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. وإذا لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدًّا من حسم الموقف حسمه ولا كرامة، ولهذا قال: (مَن لي بابن الأشرف؟) فبادر أحد الصحابة لقتله غيلةً. ولكلِّ حدث حديث، فلقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه ظاهرة المؤلَّفة قلوبُهم، ولما قَوِيَتْ شوكة الإسلام منع ذلك عمر؛ إذ لا حاجة في عهده لتأليف القلوب المرتابة. وفي ظل العجز عن فهم شمولية الإسلام وقفتْ فئات بين الإفراط والتفريط، فكان هناك تمييع للأحكام، أو تحفُّظ على الرُّخص بحُجَّة سدِّ الذرائع. إن الأمة كالسفينة المليئة بالأناسي، كلُّهم ركبوها ليصلوا بها إلى ما يريدون، ولكلِّ واحد هدف وغاية ومقصد، ولكلِّ راكب حقُّ التصرُّف بالشكل والطريقة التي تناسبه، شريطةَ ألا يصل الأمر إلى خرْق السفينة.
والرسول صلى الله عليه وسلم حين ضرب المثل بالسفينة والمُسْتَهِمِين والخرْق أراد أن يؤكِّد أن السفينة هي الإسلام الذي يجمع كل الأطياف، وهم حين لا يُخِلُّون بمسارها، ولا يتعرَّضون لوسائل السلامة فيها، فإن ما سوى ذلك مستوعَب ومقبول. ولما كانت السفينة كياناً وحركة كان ذلك موحياً بأن الإسلام (كيان وحركة)، فلا يجوز التصرُّف بالكيان، ولا التدخُّل في اتجاه الحركة، وما سوى ذلك فآراء تختلف، ولكنها لا تتصادم. إن (المواطنة) مفهوم قد يتفاوت، ولكنه لا يفقد ذاته في زحمة المفاهيم؛ إذ لا بدَّ من توفُّر حق يتحقق معه الوجود الكريم، فلا يكون انقطاعٌ له، ولا انقطاعٌ عنه، والمقبول والمعقول أن تتَّخذ بين ذلك سبيلاً. و(المواطنة) تتحقق حين يشعر المواطن بحق الغير وبالحق العام. وكل إنسان يمتلك رؤية مشروعة لا تجوز مُصادرتها، ولا يجوز إلغاؤها، ولا يجوز إصرار صاحبها عليها بالقوة، متى كانت الرؤية الأخرى منسجمةً مع المقاصد الإسلامية، ومتى لم تكن من نواقض الإيمان المتَّفق عليها بين علماء الأمة.
وإذا كان ثمة إزعاج للرأي العام في طرْح الرؤية المشروعة في حين لا يترتَّب على حجبها ضرر بيِّن، فإن على ذويها تفادي إثارة الرأي العام. ولقد احترم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرأي العام في أكثر من موقف، لعلَّ من أبرزها عام الفتح حين قال لعائشة رضي الله عنها: (لولا أنَّ قومكِ حدثاءُ عهدٍ بكُفرٍ لأعدتُ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم)، أو كما قال.
والدول الرفيقة بشعوبها تُبقي على المفضول، ولا تُباشر الفاضل؛ مراعاةً لمشاعر الرأي العام الذي تشكَّل وعيُه على قناعات غير مُضِرَّة بمسيرة الأمة، فالأعراف القبلية مُعتبَرة، وإن كان من الأفضل التخلُّص من بعضها، وبعض الضوابط الحضرية قائمة، وإن كان الأفضل استبعاد بعضها، والتوسُّع في البعض الآخر، إلا أن مثل تلك الإجراءات قد تؤدِّي إلى إثارة الرأي العام، أو إلى عدم احتمال التفاعل مع المستجد. وكل قناعات تشكَّلت مع التقادم الزمني لا يمكن حسمها بين عشيَّة وضحاها، إن التعبئة الذهنية تحتاج إلى أزمنة مماثلة لإفراغها من محتوياتها وتعبئتها من جديد، ومن مُقترَفات الإعلام أنه يُمسي على رأيٍ ويُصبح على آخر، غيرَ مُبالٍ بما استقرَّ في الأذهان، وكأنَّ كلام الليل يمحوه النهار.
على أن لكلِّ مجتمع أعرافه، وأنماط سلوكه، ومواجهة هذه الأعراف بعنف، ونفيها دون تمهيد وإقناع، يعني تحشيد المشاعر والحمل على فُرقة الأمة. ولقد أشرْتُ من قبلُ إلى ضرورة إشاعة ثقافة المؤسسات؛ فالأنظمة والتعليمات والضوابط والإجراءات إذا لم يكن لها ثقافة مُشاعة فإنها لا تُمارس حقَّها، ولا تتفاعل مع أطرافها المستهدَفين بخدماتها. وكم من مؤسسةٍ ضمرت واضمحلَّت بسبب نقص الوعي في أوساط المستفيدين من خدماتها، وكم من مصلحٍ لم ينظر إلى الواقع أفسد من حيث يريد الإصلاح. وأخطر ما تواجهه الأمة ما يلتبس على الغُلاة والمُوغلِين في الدين بغير رفق، وانتزاعهم الآيات والأحاديث من سياقاتها، والخلط بين آيات الوعد والوعيد. والأصوليون يُفرِّقون بين أساليب التعامل مع النصوص، وخاصة خطاب الوعيد. والمُبتسرون يُنزلون النصوص على الوقائع إنزالاً مخالفاً لمقاصد الشريعة، ويتمسكون بآيات الوعيد وبعض الإطلاقات المقيَّدة دون فقه عميق. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، والأخذ بهذا الحديث على إطلاقه يعني الحُكْم بالكفر المخرج من الملَّة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؛ فقد وصفهم بالإيمان مع قيام الاقتتال. ومثل هذه العموميات تحتاج إلى تبصُّر وفهم ورويَّة وبُعْد نظر، ذلك مثلٌ نضربه ليُفهم أن المسائل تحتاج إلى مزيد من التروِّي. إن المواطنة وثيقة الصلة بالدين والحياة { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}، { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}، فربَطَ القتال في الدين بالإخراج من الديار؛ لخطورة الفعلين، { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا}، فجعل القتال للمُخرَجين في سبيل الله. وهكذا تكون المواطنة جزءاً من الدين وقرينةً للعقيدة. والذين تفرَّقت بهم السبل، وضلُّوا طريق الرشاد، يعيشون تحت طائلة التعبئة الخاطئة التي فرضتها لعبٌ سياسية كونية. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية تفكيك هذه الذهنيات، وتنقيتها مما علق بها، وإعادتها إلى سياقها السابق للأحداث، وهي سياقات منطوية على حفظ الحقوق بكل تنوُّعاتها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|