مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:02 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! (2-3)
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كنا نريد استعراض ما يحاك للغة القرآن من مكائد، وما تفيض به الكتب ووسائل الإعلام من هجوم سافر ودفاع متشنِّج فإننا لا نقف حيث يكون ذلك اللغط. فالمؤامرة على ثوابت الأمة ومثمناتها ممتدة عبر الزمان والمكان، تمس كل شيء أتت عليه، ومهمتنا تنقية الأجواء، وترتيب الصفوف، واختيار أحسن الطرق للجدل، وأمضى الوسائل لجهاد الدفع. ولن تكون تلك الحملة هي الأخيرة، بحيث نرمي بثقلنا فيها، ونلقي آخر سهامنا في أدبار الخصوم. إن راية الباطل يتلقاها المبطلون جيلاً بعد جيل، وإذا طلَّ منهم متربص قام متربص آخر أمضى عزيمة وأقوى جلداً. ولهذا لا بد من إطالة النفس، وترويض الأخلاق على الصمود والتصدي والصبر والمصابرة، فالمعركة طويلة، ووسائلها متنوِّعة، ومجالاتها متعدِّدة. وإذا كان كل عالم ومفكِّر وأديب على ثغر من ثغور الإسلام فإنَّ الأعداء ينسلون من كل حدب. وواجب المقتدرين اليقظة والاستعداد {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وواجبنا ترويض النفس حين يختلط المصلح بالمفسد، ويقع البعض تحت طائلة الاتهام مع أن مقصده قد يكون سليماً، ومنشأ ذلك سوء التعبير، ونقص البضاعة، والخلط بين المتباينات. ومثل هذه العوارض تجعل بأس الأمة بينها شديداً.
وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر تداولت المشاهد الثقافية كتابين حول اللغة وقواعدها، وأسيء الظن بنوايا صاحبيهما، وقسا المتصدون لهما بالمواجهة. وما كنت أود ذلك، ما دامت هناك إمكانية للحوار، وقدرة على مواجهة الآراء المنحرفة بالإرشاد وحسن التصرُّف، تمكِّن من وضع المخطئ أمام خطئه، وتبيِّن له سوء عمله، فإن كان باحثاً عن الحق انصاع إليه، وسلَّم لذويه، وإن كان غير ذلك أسهم في تعرية نفسه وإبانة عواره.
أما أحدهما فكتاب (شريف الشوباشي) (لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه) والكتاب من مطبوعات (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وهي هيئة رسمية تتوخَّى أحسن الكتب وأنفعها للناس. وهو كتاب أشبه ما يكون بظاهرة الثلاثيات الروائية، كثلاثية (نجيب محفوظ) إذ سُبق بكتابين (نهاية التفكير) صدر عام 1998م و(الداء العربي) صدر عام 2002م، فيما صدر الكتاب الضجة عام 2004م. أما الكتاب الآخر فهو للكاتب (زكريا أوزون) (جناية سيبويه: الرفض التام لما في النحو من أوهام) وهو من مطبوعات (دار رياض الريس للكتاب والنشر). يقع الأول في خمس وتسعين ومئة صفحة من القطع الصغير. فيما يقع الآخر في ست وسبعين ومئة صفحة من القطع الصغير أيضاً، ولما جاء الجدل حولهما مرتفع النبرة حادَّ العبارة حرصت على قراءتهما، وبعد لأيٍ ومشقة حصلت عليهما، ليحتلا مكانهما بين عشرات الكتب المثيرة في زاوية من مكتبتي.
والكتابان ينحيان باللائمة على قواعد اللغة ومناهج تدريسها، ويعدان ذلك مصدر الضعف والتخلّف، ويتخذان من (سيبويه) منطلقاً لهما، بحجة أنه سنَّ في النحو سنَّة سيئة. و(سيبويه) صاحب (الكتاب)، رائد النحو العربي بلا منازع، وإسقاطه إسقاط للنحو العربي. ولهذا لم يكن استدعاؤه اعتباطاً، وكل من أراد القضاء على أي ظاهرة أتاها من قواعدها وذلك ما كان يريده البعض، والباحثان يختلفان في طرائق الأداء والتناول، وليسا فيما تبدَّي لي قاصدين النيل من اللغة، ولكنهما يسيئان من حيث يريدان النفع، ويستمرئان ركوب موجات التغريب، والأخذ بعصم المذاهب والمناهج، ويظنان كل الظن ألا تلاقيا بين التراث والمعاصرة. فالأول في كتابه كل شيء إلا النحو، والآخر ليس فيه شيء إلا النحو، ولكنه اجترار ممل لمقولات أكل الدهر عليها وشرب، وكأني به يعيد إلى موائد البحث ما غبَّ من الطبيخ، فمناهج اللغة العربية اعتورتها سهام المصلحين والمفسدين، والمتابع لسائر الأطروحات حول قواعد اللغة العربية يقف على آراء متناقضة. و(سيبويه) ك(المتنبي) شغل الناس، وأسهر الباحثين، وهو مجال مناسب للحضور ولفت الأنظار، فكل من أراد أن يتعجَّل الحضور قبل أوانه أنشب أظفاره في ذلك الجسد المحشو بالسهام على حد:-




(وكنت إذا أصابتني سهام
تكسَّرت النصال على النصال)


ولمَّا لم يكن الكاتبان على شيء من معارف المجدِّدين في الشأن اللغوي، ولا على شيء من معارف التراثيين، فإن بضاعتهما مزجاة. ولا يشفع لصاحب الجناية ذلك الحشد من الشواهد، وذلك الترتيب للفصول، وتناول الكلمات والجمل والأسماء، والأدوات، وإعراب الجمل، والشواهد، والتخريجات، والموازنة بين الماضي والحاضر، فليس له ذلك إلى القص واللصق. ولا أظنهما في هذه العنونة المستفزة إلا قاصدين للإثارة والكسب والشهرة. وقد نالا منها بعض المبتغى.
فالصحف العربية وسعت ردود فعل عنيفة، حملت المتابعين على البحث عن الكتابين، والتساؤل عن هوية الكاتبين. ففي الأولى كسب مادي، وفي الثانية شهرة زائفة. ومثل هذه التصرفات الدعائية يعمد إليها الشدات والمبتدئون تعجلاً للأشياء قبل أوانها.
ولإسقاط المحاولتين البائستين، لا بد أن يقرأ المتابعون حركة تيسير النحو، وتبسيط قواعده، عبر عشرات المؤتمرات، ومئات الكتب: تطبيقاً وتنظيراً، وبخاصة البحوث التي قدِّمت لمجامع اللغة العربية في (مصر) و(الشام) و(العراق) و(الأردن)، وما ألِّف من كتب تفاوتت في أساليب العرض، واختلفت في مادة التناول. ف(النحو العربي): تاريخ ومادة ونظريات وقواعد ومفاهيم وطرق وقضايا ومدارس. ورصد الحركة مؤذن بكشف الزيف وضبط الاسترفاد و(الشوباشي) و(أوزون) أصداء باهتة للتذمر، وما قالاه بعض ما قيل وما سيقال. وما استبدا إلا بالعناوين الصارخة، ليس غير. على أن (الشوباشي) اتخذ العنوان المثير، ولم يتلبث حوله، بل أمعن في جلد الذات العربية عبر مقالات تدين الضعف والتخلّف، ولا ترسم طريق الخلاص، فيما أمعن (أوزون) في الشواهد قصداً للإدانة وإثبات الجناية.
وقواعد النحو العربي وصرفه والنظريات المنهجية لتطويره وتيسيره تناولتها طائفة من العلماء، من أبرزهم الدكتور (مهدي المخزومي) في كتابه (في النحو العربي نقد وتوجيه) والدكتور (حسن عون) في كتابه (تطوير الدرس النحوي) والدكتور (عبد الكريم خليفة) في كتابه (تيسير العربية بين القديم والحديث) والدكتور (شوقي ضيف) في كتابيه: (تيسير النحو التعليمي قديماً وحديثاً) و(تجديد النحو) و(عبد الوارث مبروك) في كتابه (في إصلاح النحو العربي) والدكتور (حسن عباس) في كتابه (اللغة والنحو في القديم والحديث).
ومن قبل أولئك هبَّ الأستاذ (إبراهيم مصطفى) لإحياء النحو قبل سبعين عاماً، وبارك هبوبه (طه حسين) في مقدِّمة ممتعة، بلغت بالكتاب وبصاحبه السماء مجداً واقتداراً) وكادت تلتمس له فوق ذلك موضعاً. وجاءت حيثيات المؤلّف لإيقاف البرم والضجر والضيق بالنحو وقواعده وطرائق أدائه. ولقد وجد العلماء الأوائل من قبله ذلك البرم والضجر والضيق - على حدِّ تعبيره - الأمر الذي حملهم على تسمية كتبهم ب(التسهيل) و(التوضيح) و(التقريب). والنحو عنده لا يسعف بالقول الفصل، فهو مظنّة الاختلاف والاضطراب والجدل، وتلك أدواء النحو التي أفسدته - كما يقول - وتحت طائلة تلك المعوقات فشل النحو في أن يكون السبيل إلى تعلّم العربية، لقد سخر من الأوائل، وكاد يطرح نظرية في النحو أو في المنهج وأدائه، وآلياته.
ومع أنه مسَّ النحو والنحاة مساً خفيفاً لاشتغاله بما يتوهمه فتحاً علمياً حول (نظرية الإعراب) فقد تصدَّى له من أوغل في نقده، وجاء كتاب (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) للأستاذ (محمد أحمد عرفة) رداً قاسياً عليه. والمؤلِّفان ينتمي كل واحد منهما إلى جامعة تختلف عن الأخرى أشدَّ الاختلاف، وكل منتمٍ ينحي باللائمة على الآخر. وإيغال الرجلين في التعصب فوَّت على المتابع أشياء كثيرة، وما كان التلاحي بين العلماء غريباً ولا مخيفاً، وثراء التراث في الخصومات العلمية، وإشكالية الراصدين للحراك المعرفي حول اللغة وقضاياها عجزهم عن تمييز الخبيث من الطيِّب، ومعرفة المصلح من المفسد، فما يكتبه (لويس عوض) في هذا السبيل، يختلف عما يكتبه مصلح لم يحالفه التوفيق، وإذ يتهم (سيبويه) بالجناية، ويهتف البرمون بسقوطه، فإن آخرين دعوا لإماتة النحو العربي، ليخلوا الجو لنظريات حديثة ك(التحويلية)، ولن تخلو المشاهد من مرجفين وتبعيين وجهلة ومبتدئين ومتسرِّعين، يباهون باتباع سنن الغربيين.
وإشكالية اللغة العربية ليست في صعوبتها، ولا في تعقيد النحو وجنوحه إلى الفلسفة، ولا في تعويله على الحذف والتقدير والعامل، وإنما الإشكالية في أن مادة اللغة كامنة في المعاجم والقواميس، وأنظمتها حبيسة في كتب النحو والصرف، والناس يستعملون لهجات متعدِّدة بتعدّد المدن والقرى. وحياة اللغة وتكرسها وشيوعها في الاستعمال، وليس في الدراسة والحفظ، وكل الذين يتحدثون عن الصعوبة والغياب لا يستحضرون هذه الإشكالية. اللغة العربية نراها ولا نسمعها، نراها في الكتاب ولا نسمعها في الاستعمال، والسمع مقدَّم على البصر (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) و(الأذن كالعين توفي القلب ما كان). وما جاء السمع والبصر في القرآن إلا وقدِّم السمع عليه لأهميته. وإذا كان النحو والصرف والبلاغة والأدب تدرس باللهجة العامية في الجامعات، وإذا كان طلبة اللغة العربية لا يحسنون الحديث، ولا يجوِّدون الكتابة، وهم في قاعات الدرس فإن اللغة معذورة وعلماءها مبرؤون من خطيئة التعقيد ومسؤولية الغياب.
و(سيبويه) الملوم المتهم، لم يكن مبتكراً للمعيارية، وإنما كان مكتشفاً وراصداً، شأنه شأن (الخليل) في (العروض)، فاللغة العربية كائنة بشعرها ونثرها وقرآنها وسائر موروثات القول ومدوّناته قبل أن يكون (سيبويه)، ودوره المحمود مقتصرٌ على الاستقراء والوصف. و(الكتاب) الذي ألَّفه وتداوله العلماء وخدموه بالشرح والتفصيل والإضافة والاستدراك يُعد أساس علم النحو والصرف، ويكفي أن يكون المصدر والمورد، وألا يتصدر أحد للتدريس في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية حتى يقرأ (الكتاب) ويفهمه. لقد اعتوره العلماء في القديم والحديث: درساً وتحقيقاً وطباعة، وبخاصة الدراسات الأكاديمية التي تعد بالمئات، وخارج أروقة الجامعات، ألِّفت عن كتابه مئات الكتب والدراسات، كما نفل المترجمون والدارسون (سيبويه) بعشرات الكتب، فهو بحق عبقري اللغة، والقول بسقوطه، أو جنايته شعارات جوفاء، لا تستفز إلا الفارغين والفضوليين. وما كنا نود الحديث عن الكتابين لولا ما فيهما من المغالطات.
لقد عيب على قواعد النحو والصرف جنوحها إلى التعليل والتأويل والتقدير، وهي مقولات تنطلق من الفلسفة وتعقيداتها، وتلك سمات تعد من عبقرية اللغة وعلانيتها. ولم يكن (سيبويه) وحده الناشط في تحرير النحو العربي، ولم تقتصر المعارف النحوية على أشخاص محدودين، بل كانت هناك طبقات من العلماء المستقلين بآرائهم، وكان هناك آخرون منتمين إلى مدارس ذات أصول ومناهج ك(المدرسة البصرية) و(الكوفية) و(البغدادية) و(المصرية) و(الأندلسية). هذه المدارس أحياها عمالقة لا يزدريهم إلا مدخول في عقله أو في علمه أو فكره. أمثال (الخليل) و(الأخفش) و(المبرد) و(الكسائي) و(الفرَّاء) و(ثعلب) ولكل واحد أصحاب يشيعون مذهبه وينافحون عن آرائه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل