مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:03 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! 3-3
د. حسن بن فهد الهويمل


ولم يكن المتأخرون أول من نال من (سيبويه) ومن طريقته في التأليف أو في التقعيد، ف(أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ت 285ه) أول من تصدى لسيبويه، وأمعن في نقده، إن صحت نسبة الكتاب إليه. وكتابه (مسائل الغلط) أو (كتاب الرد على سيبويه) المفقود، ذكره المؤرخون للنحو العربي ورجاله ومدارسه والمدافعون عن (سيبويه)، واقتبسوا منه.
يقول (أحمد مختار عمر): (وقد كان لصدور كتاب المبرد هذا فعل قوي لدى النحاة إذ استكثروا جميعاً هذا الهجوم) وقد بسط الحديث عنه العلامة (عبدالخالق عظيمة) في مقدمة (المقتضب).
و(المبرد) جدير بمثل هذه المغامرة، فهو صاحب (كتاب المقتضب) ومثله حقيق أن يراجع أستاذه، فهو قد درس (الكتاب) ل(سيبويه) وتبنى مذهبه، ودرس كتابه، وأثرى من تدريسه.
وارتباط (المبرد) ب(الكتاب) جعل البعض يشكك في نسبته إليه، وخلوصاً من هذا الموقف الغريب من (المبرد) قيل إنه كتبه في شبابه، وعدل عنه في مشيبه.
وممن تصدى ل(المبرد) (ابن ولاد) الذي ألف كتاب (الانتصار لسيبويه من المبرد)، ومع احتمال صحة النسبة فإن مآخذ العلماء على بعضهم لا تمس جوهر القضايا، وكل اختلافاتهم تصب في صالح اللغة.. فالمدارس النحوية مخاض علم غزير، وفهم عميق، واقتدار متميز.
وصراع العلماء واكبه صراع المدارس والعصور والأنحاء، ف(الأندلسيون) يعيبون المشارقة ببعض ما يذهبون إليه، فهذا (ابن مضاء) يؤلف كتاباً في الرد على المشارقة في دعوى (العامل) في النحو. أما جعجعة المتأخرين واهتياجهم الأعزل فهو ناتج انبهار بالمستجد، وإقواء من التراث، وجهل مخجل بالمناهج الجديدة، ومواكبة غبية لأعداء الحضارة الإسلامية وقضاياها.
وكيف يستسيغ مبتدئ القول: بأن بقاء النظام اللغوي منذ العصر الجاهلي يعد تحجراً وجموداً وتخلفاً للفكر العربي، بوصف اللغة وعاء الفكر، هذا الاتهام بعض تهويشات (الشوباشي)، وما عرف أن اللغة العربية تنمو كما الأحياء، وهي بالنحت والاشتقاق والسياق والمجاز والانزياح والحذف والتقدير والخيال وسائر سماتها لغة نامية متحركة، مستجيبة لمتطلبات العصر.
لقد سيئت وجوه كثيرة من هذه الجنايات، وتجلت صور الاستياء بتدافع الغيورين للذبِّ عن اللغة عبر الندوات الإذاعية والتلفازية والمقالات والمؤلفات، ولعل أحدث ما أفرزته هذه الحملة كتاب الدكتور (إبراهيم عوض) (لتحيا اللغة العربية: يعيش سيبويه) وهو كتاب يقع في مائة صفحة من القطع المتوسط، وفيه الرد على (الشوباشي) بعض مآخذه على اللغة ونحوها.
والمتابع لمشاهد النقد ومناهج دراسة اللغة يصاب بالغثيان من متعالمين يمعنون في النفي والإقصاء والقطع بالموت، وما هم على شيء من علم بالتراث، ولا على بصر بالمعاصرة. والقارئ لكثير من تناولات هذا الصنف من الناس، لا يرى فيها إلا قولاً إنشائياً لا يدعمه شاهد، ولا يسنده دليل، ولا يعضده مشروع متكامل، يسد المكان الذي سدته مناهج السلف أو الخلف. واحتفاء القراء بهذه الفقاعات مضيعة للوقت، وتفويت لفرص ثمينة. إذ لو أن هؤلاء المتسطحين تضلعوا من التراث، وعرفوا مناهجه وآلياته وقواعده وأصوله وجهود علمائه، ثم نفروا إلى المستجدات في الشرق أو في الغرب، واستوعبوا ما عندهم، ومارسوا المثاقفة وساءلوا الغواص عن محاسن التراث والمعاصرة، ثم انتقوا من المستجد ما يخدم التراث، ويقربه إلى الناس، لكان ذلك عين الصواب، ولكنهم لا يحسنون إلا جلد الذات وتشويهها في كافة المشاهد والتعالق الغبي مع المستجد. وإذا قيل لهم تعالوا إلى موائد الحوار وإلى ما خلف الأوائل والأواخر، رأيت الأوباش منهم يلوون ألسنتهم، ويلوُّون رؤوسهم، ولا يلوون على شيء من الحق.
وتلافي الضعف، ووقف طوفان العامية، يتطلبان تحرفاً للإصلاح، ينطلق من التعليم، ويشيعه الإعلام، ويقدم عليه الكافة، وبوادر ذلك بدت فيما عرف ب(النحو الوظيفي) وهو الاقتصار على المستعمل من اللثة، واستبعاد التقعر والمماحكة والخلافات، والاستغناء عما لا تقوم الحاجة إليه، والتفريق بين علم يقوّم اللسان، ويحمي القلم، وعلم تخصصي، يتعقب المذاهب، وينقب في رؤى المدارس النحوية. ولم يقتصر رجال التربية والتعليم على تلمس أيسر الطرق وأسلم المناهج، بل مارسوا التطبيق، ولعلنا نذكر سلسلة (النحو الواضح) ل(علي الجارم) و(مصطفى أمين) وممارسات أخرى لم تكتب لها الشهرة، مثل (جامع الدروس العربية) ل(الغلاييني) و(المحيط) ل(الأنطاكي) و(النحو الوافي) ل(حسن عباس) وهو الأوسع والأشمل، إضافة إلى المعاجم النحوية التي لا تحصى.
وخسارة المشاهد جاءت من فئات أمعنت في النيل من عمالقة العلم والفكر والأدب، ولم تقدم بين يدي نيلها الجارح ما يدل على أنها خير خلف لخير سلف. وتلك سجية عرف بها عدد كبير من دعاة الاستغراب. ولو قُرئت امتعاضات العلماء والمفكرين من هذه المغامرات الطائشة، لكان أن عُرِّي هؤلاء، وانفض سامرهم. وممن تصدى للعابثين (محمود محمد شاكر) - رحمه الله - في مقالات ومؤلفات، ومن قبله (الرافعي)، ومن بعدهم (النفاخ)، وفي كتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي) إفاضات جيدة، يحسن الإلمام بها، ومن بعد أولئك ومن قبلهم تعاقب المتذمرون والمتصدون لهذا التهافت المشين. وفي كل قطر عربي عزمات لا تلين. لقد كان (محمد سرور الصبان) رحمه الله من أوائل من نافح عن اللغة في كتاب استطلع فيه آراء الأدباء في الحجاز عما كتبه (ميخائيل نعيمة) عن اللغة، وطبع تلك الآراء في كتابه (المعرض) وكانت للأستاذ (أحمد عبدالغفور عطار) رحمه الله إسهامات في التحقيق والمنافحة، وفي كل بلد ينبري من ينافح عن لغة القرآن، ولقد بسطت القول في سلسلة مقالات نشرتها في جريدة (البلاد) قبل عشرة أعوام تقريباً تحت عنوان: (تنمية اللغة)، وفي كتاب مخطوط تحت عنوان: (الإبداع الأمي: المحظور والمباح).
وفي غمرة القول والقول المضاد اضطربت الآراء حول (المنهج) وبخاصة بعد ما شهد (علم اللغة) الحديث تطوراً في الغرب، وامتد أثره إلى المشرق العربي، وكان الناس من قبل لا يعرفون إلا (المنهج المعياري)، على سنن المتقدمين، ثم كان الإجماع أو كاد على (المنهج الوصفي) ولم يتلبثوا فيه إلا قليلاً، فكان هناك تحول وتفرق والتقاء حذر حول (المنهج التحويلي). ورواد هذه المناهج غربيون، أبلوا في البحث والتجريب بلاء حسناً. والمصداقية تحتم الإشادة بما توصلوا إليه، نذكر من أولئك على سبيل المثال (سوسير) و(تشومسكي) و(دريدا) ولكل واحد من أولئك منهجه واهتمامه ومجاله، ومن ثم عرفت (البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية). ومع ما تركه هؤلاء من أثر واضح فيه منافع للغة وإضرار أكبر لبعض جوانبها كالتلقي والتأويل والنص المفتوح والمعلق فإن لعلماء النحو والصرف سبقاً وتميزاً، ولكن الناس لا يفقهون. وتميز الغربيين في آلياتهم ومناهجهم ومبتكراتهم ومعاملهم والقول ب(الكسبية) أو (الملكة) واستخدام الآلة والبحث وتقدم علم الصوتيات لا يعني التسليم المطلق لهم ونبذ ما بأيدينا، وفي الوقت نفسه لا يليق بنا الاستغناء عما توصلوا إليه. والتفاعل مع المستجد يحتاج إلى كفاءات علمية، تحفظ التوازن، وتعرف كيف تصرِّف الأمور، وتوائم بين القديم والحديث. وعلم اللغة الحديث بحر لجي متعدد النظريات والمناهج والآليات، والفرضيات والنظريات التي ينقض بعضها بعضاً، والتحولات التي لا يقر لها قرار، وكل ذلك كم معرفي، لا يستغني عنه مهتم بالشأن اللغوي، ولا يستغنى به.
والاستياء والتذمر وتلمس أنجع الطرق حق مشروع، ولست أشك أن هناك عسراً في دراسة النحو والصرف منشؤه تعويل الأقدمين على المنطق وطريقتهم في الاستقراء والاستنتاج والقياس والعلة والعامل والحذف والتقدير والشرط والأحوال والجائز والممنوع، كل ذلك جعل مناهج الدرس النحوي والصرفي مجالات لكثير من التساؤلات. والعلماء المعاصرون الأفذاذ لم يدخروا وسعاً في البحث عن طرائق جديدة تؤدي إلى تقريب الدرس النحوي من نفوس الدارسين. وإحساس العلماء بالحاجة الملحة إلى تجديد النحو العربي لم يقف منذ أن بدأت بوادره على يد (الدؤلي) إلى يومنا هذا، ولكن المشتغلين بهذه القضايا يختلفون ويتفاوتون، وبعضهم أميون لا يفقهون، ولا يعرفون أنهم لا يفقهون، وضررهم أكبر من نفعهم. ولما كان العصر عصر مؤسسات فإن على المهتمين والمتخصصين عرض وجهات نظرهم وخلاصة تجاربهم على (المجامع العربية) وعلى (الجامعات) لتداول الآراء وتمحيص الأفكار والخروج بتوصيات تسهم في حل المشاكل وحماية اللغة، أما الاهتياجات الفارغة والاستبدادات الفردية فإن إثمها أكبر من نفعها.
ولو عدنا إلى الكتابين مجال البحث، ونحن عائدون ولا شك، لوجدناهما خاليين تماماً من التناول الموضوعي.. فالكاتبان استنفدا الجهد والوقت في اللوم والتقريع، ولم يقدما حلاً ولا نظرية ولا منهجاً ولا آلية، والنقد التطبيقي الذي مارسه (أوزون) عشوائي مكرور، ومشروعه المقترح هلامي لا يسد المكان الذي حاول تخليته من النحو العربي، وهو قد اقترف جناية أخرى رواها من أثق به، فألف كتاباً عن (جناية البخاري) وسماه الأستاذ (محمد دياب) (ثقب الأوزون) (الاقتصادية 19-12-1425هـ). والاثنان لم يقرآ (الكتاب) لسيبويه، ولو غامرا بقراءته لما فهماه، ولو فهماه لما استطاعا تطبيقه. ومع خلوهما المعرفي فقد احتملا بهتاناً بحق (سيبويه) وإثماً مبيناً بحق التراث العربي. والنيل من علماء الأمة ومن تراث الحضارة الإسلامية دأب المستغربين والمستشرقين. فالنقد الموضوعي غير التجريح الشخصي، وعرض البدائل غير النفي والإقصاء، وإشكالية مشاهدنا اختلاط الزيف بالأصالة، إذ ليس كل متصد للتراث مستغرب، فكم من عالم فذ نقب في كتب التراث، وأبان عما فيها من خطأ أو تقصير. وسنة الله في خلقه ألا يكمل في الوجود كتاب إلا كتابه، فكل عالم أو مفكر رادٌ أو مردودٌ عليه، وكل عالم أو مفكر يؤخذ من كلامه ويرد إلا الذي لا ينطق عن الهوى. واستياؤنا وتذمرنا ليس تعصباً للتراث، ولا تخوفاً عليه، ولا تزكية لعلمائه، ولا ادعاء عصمة لمنهج، ولكننا لا نريد الهرج والمرج، نريد بحوثاً ذات منهج وآلة وموضوع، تضع العين على مكمن الداء، وتصف الدواء، وتنصف في الحكم، وتعتدل في الآراء، وجلسات مجامع اللغة العربية تعدل وتبدل وتجيز وتمنع، وما أحد نقم على قراراتها.
وما كان صنيع الكاتبين أخذاً ورداً واستبدالاً، بحيث يندرج عملهما في ظل المشاريع الإصلاحية التي تسهم في التخفيف من ضجر الطلبة وملل المعلمين، وتقدم حلولاً لها وعليها ولكنها أقرب إلى الصواب وأجدر بالترحاب. وخطيئتهما المنكرة في النيل من علماء الأمة ظناً منهما أن صعوبة اللغة وغيابها عن لغة التخاطب مرده إلى صعوبة القواعد التي أنشؤوها، وفاتهم أنه لا حياة لأي ظاهرة إلا بالنظام.. فالحياة كلها ما ظهر منها وما بطن، وما دق منها وما جل قائمة على النظام، ولا حياة لمن لا نظام له. فالنظام سنة كونية لا تتبدل ولا تتحول، بدءًا من نظام الكون وأجرامه ومجراته المشاهدة والغائبة إلى نظام الأجهزة المادية في جسم الإنسان، بل في جسم النملة والحشرة والخلية، وما لا يُرى من مخلوقات الله، التي تدب على الأرض، أو تطير في الهواء، أو تسبح في الماء، (ما فرطنا في الكتاب من شيء). النظام إكسير الحياة، وقواعد النحو والصرف نظام، ومن أراد التفريق بين الشيء ونظامه فهو من يريد أن يفرق بين الجسم والروح، فلا جسم بدون روح، ولا تصور للروح بدون جسم. اللغة ونظامها كالجسم والروح، والقول بإلغاء الضوابط دخول في التسيب، وإذا أحسنا الظن بالكاتبين فإننا نشك في إمكانياتهما المعرفية، بل أكاد أجزم بأن (الشوباشي) يعيش أمية في النحو والصرف وفقه اللغة، وكتابه مجموعة من المقالات المتنافرة، وأن (أوزون) ناقل عشوائي عرف شيئاً وغابت عنه أشياء. وإذا كان أحدهما أو كلاهما على شيء من المعارف فإنهما يجهلان معارف النحو والصرف، ولو عرفا ذلك لما كان منهما القول في الشأن النحوي أو الصرفي بهذه الطريقة المتخلفة، والفاقدة لأبسط متطلبات البحث العلمي.
وإذا جهل الباحث مادة بحثه، ولم يعد هناك مجال للأخذ والرد معه، إذ هو بحاجة إلى أن يتعلم أولاً، وأن يمارس التطبيق ثانياً، ثم يبيح لنفسه التعاطي مع الموضوع عبر منهج وخطة ومادة وهدف. والكاتبان يفقدان ذلك كله، وحتى الهدف المقصود لا يتحرر، ولا يتحدد إلا من خلال منهجية وآلية وموضوعية ودراية ورواية، وفاقد الشيء لا يعطيه. والكتابان مجرد إثارة إعلامية ومحتوياتهما لا تصمد للبحث العلمي. والكاتبان لم يتيحا لنفسيهما فرصة الاطلاع على كتب النحو القديم بما فيها (الكتاب) ل(سيبويه)، ولم تكن لهما مرجعيات معتبرة، وكل ممارساتهما إنشائية إعلامية لمجرد الاستهلاك والإثارة. والقول في الشأن اللغوي يتطلب الإلمام بمدارس النحو وأمهات الكتب، وما سبق من دراسات تطبيقية أو تنظيرية، والأصوليون يقولون: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل