مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:05 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة الإرهاب (2 - 2 )
د.. حسن بن فهد الهويمل


والتعرّض لتعدّد الرؤى والمفاهيم والتصوّرات لا يحول دون مغالبة المواقف والنفاذ إلى مشارف السلامة؛ فالأمة لا تنجو بالاعتزال، ولا تنفذ بالاحْتيال. وهذا الوضع يتطلب سلطان العلم والقوة لتتمكن الأمة من الاتقاء والنفاذ، ولن يتأتى النفاذ من مختنقات المشكلة إلا بتحرير المسائل وتحديد المفاهيم ومعرفة أنجع الطرق للخلوص من تلك المآزق. ولابد والحالة تلك من التغلب على المعضلات المتنامية بالصبر والمصابرة والمرابطة، واستخدام المجسّات والمسابير والحفريات لمعرفة أدق التفاصيل عما يحيط بالأمة من أفكار وظواهر وتكتلات. وكل ذلك جزء من الثقافة بشقيها: الوقائي والعلاجي. والمثقف بوصفه أهم المرابطين على ثغور الأمة بحاجة ماسة إلى تشكيل معرفي سليم، يمكنه من تحصين نفسه أولاً، ثم الإسهام في إنذار عشيرته الأقربين، والعمل على توعية الناشئة المستهدفة من قرناء السوء ومحترفي التضليل من الغلاة والمجندين. وليس هناك أخطر من غسل الأدمغة، واستغلال الشباب المتحمّس للمثالية. وأكبر شاهد على خطورة الاختراقات الفكرية ما نعايشه في راهننا المحلي؛ فالذين يمارسون الأعمال الإرهابية شباب غُرّر بهم، وأخذوا على غرّة، حين غفل المقتدرون عن تجمّعات الشباب، فالمغرّر بهم لم يكونوا من كبار السن ولا من المتخصّصين في السياسة الشرعية، وهذا يؤكد أهمية الثقافتين: (الثقافة الشرعية) و(الثقافة الشريرة)، ويؤكد أهمية الشباب، فهم المستهدفون. وفي ظل هذه البوادر السيئة نكون أحوج إلى توفير (ثقافة الإرهاب) بوصفها جزءاً من التعبئة العامة التي تجعل شبابنا على بينة من أمرهم؛ فالثقافة المعرفية بإزاء الثقافة المضادة، تكشف عن المتربّصين والمتماكرين وقرناء السوء والمتعالمين، والغلاة والمتطرفين، وتضع أمام أعين المستهدفين كلّ الخيارات، ليكونوا على بينة من أمرهم، ولا يؤخذوا على غرّة.
إن المسجد والمنبر والمدرسة والبيت وسائر وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية هي المجال الأهم لإشاعة التوعية والإنذار والتحذير من هذه الظاهرة، ولا يمكن أن نشيع ثقافة الضدّ فيمن يعنيهم الأمر إلا من خلال هذه القنوات. ومَن لم يعرف الشرّ يوشك أن يقع فيه، وكان (حذيفة بن اليمان) - رضي الله عنه - يسأل عن الشرّ مخافةَ أن يقع فيه، وكان الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - يخاف على مَن لم يعرفوا الجاهلية أن يقعوا فيها.
وكلّ نظام جائر أو عادل، وكلّ منظمة مدنية أو بدائية، وكلّ تطرف دينيّ أو سياسيّ، وكلّ عنف أو غلو، لا يمكن أن ينطلق من فراغ. إنه مخاض ثقافة لا يمكن صدّها على أعقابها إلا بفهمها وتفكيكها وإبطال مفعولها قبل أن تفعل فعلها.
والمواجهة الثقافية لا تختلف عن المواجهة العسكرية، وإذا كانت الرؤوس المدمّرة المنقولة على صواريخ تواجه بما يفجّرها في الجوّ قبل وصولها، فإن ثقافة الضدّ لابدّ لها من آلية تنطلق إليها في مهدها لتبطل فعلها. وكل ذلك مندرج ضمن (ثقافة الإرهاب) ولا يتمّ ذلك على وجهه إلا بتقصّي تلك الثقافة؛ فالحكم على الشيء فرع من تصوّره، ولا يفل الحديد إلا الحديد. إن المواجهة شيء، والتوعية شيء آخر، ولابدّ أن يسيرا جنباً إلى جنب؛ فالسلاح والكلمة الطيبة صنوان. وإذا لاذ المفسدون في جحورهم، وتحولوا إلى خلايا نائمة، يأتي دور الكلمة السديدة، كما التحصين من الأوبئة المنتشرة.
إن (ثقافة الإرهاب) مؤذنة بمعرفته على حقيقته، وحسم المشاكل المترتبة عليه لا يكون إلا بعد التقصّي لها، ومعرفة أسبابها ومصادرها. وكل حضارة فاعلة لابد أن تستوعب ثقافتها، وأن تلمّ بقسط وافر من الثقافة المضادة على الأقل.
ومؤسسات (الاستخبارات) و(المباحث) و(مراكز المعلومات) الدولية منوط بها التوفر على الخطاب المناوئ والثقافة المضادة. ولأن الإرهاب ينسل من زوايا المجتمع المعتمة، ويندس أفراده في أوساط الشباب المتوقد حماساً والقابل للتشكل كما عجينة الصلصال؛ فإن على المؤسسات الثقافية والدينية والإعلامية كافة مواصلة التوعية، والعمل على تسييج المنافذ؛ لكيلا يتخطف الأبناء من كل جانب.
لقد أجمع العالم على رفض الإرهاب، ولم يبقَ إلا أن نكون على بينة من مفاهيمه: المحلية والعالمية، وأنواعه: الفكرية والدينية والطائفية والعملية، وأسبابه: الظاهرة والباطنة والذاتية والغيرية. فإذا اكتفينا بمواجهة الإرهابيين بقوة السلاح وأشكال المطاردة، وتركنا الحواضن، ظلت تفرخ لنا المئات بدل العشرات، وظلت المسألة في إطار الصراع الدموي والحرب الأهلية التي تقضي على الأمن والتنمية، وتؤدي إلى تفكك الوحدتين الفكرية والإقليمية. والمواطن جزء من العملية؛ فهو هدف للقتل، وهدف للتضليل، فإذا ظل جاهلاً بالإرهاب من حيث هو، وجاهلاً بأساليب الوقاية منه وطرق المواجهة له، فإنه سيكون مستهدفاً في البداية، ومشروعاً للإرهاب في النهاية.
ومن الخطورة بمكان أن نشتغل في ظل مفاهيم مغلوطة، بحيث نتصور الإرهاب على غير حقيقته، فلا نعرف الأسباب ولا الانتماء ولا أساليب المواجهة: الحسية والمعنوية. والفهم الخاطئ كالمقدمات الخاطئة يؤدي إلى نتائج عكسية، وخلوصاً من هذه المآزق لابد من التأسيس المعرفي ورسم خطة فاعلة، تضع الظاهرة بكل ملابساتها على المحك؛ لتكون العامة على بينة من أمرها في أخذ الحذر والخلوص من مكائد الإرهابيين وصناعهم. إن هناك وقاية، وهناك مواجهة؛ فالوقاية رهن الثقافة المزدوجة: ثقافة الذات وثقافة الغير، والمواجهة تكون استباقية، وتكون استئصالية، ولكل وضع ثقافته.
ولما كانت بلادنا في مقدمة الدول الحمَّالة: حمالة لهمّ الدعم والإصلاح وفك الاشتباكات، كانت وجبة شهية لكل من أراد لهذه المنطقة أن تعيش في أتون الفتن.
فلقد أصبحت مسرحاً لعدد من العمليات الإرهابية التي أزهقت الأرواح، وهدمت المباني، وأخافت الآمنين، وكانت هدفاً للاتهامات الجائرة، وكان أبناؤها هدفاً للمغرّرين والمخادعين. والأمر بهذا التنوع يحتاج إلى تحرف سليم يقوم على تجميع كافة المعلومات العميقة الشاملة الدقيقة عن كل متعلقات الإرهاب، ثم إشاعتها لتكون في متناول كل مواطن، والتواصي بالتكاتف والاعتصام بحبل الله، ومواجهة الأعداء صفاً واحداً كأنه بنيان مرصوص، وإعداد خطاب حضاري ينازل أدعياء السوء: ممن جندوا أنفسهم، ووظفوا إمكانياتهم لتشويه سمعة المملكة وتحريض العالم عليها، وممن نذروا أنفسهم لإفساد العقائد والسعي في الأرض فساداً.
لقد أحسن قادة البلاد صنعاً حين دعوا إلى عقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب، ليعرف العالم الموقف الرسمي والديني والشعبي الذي يمثل لحمة واحدة، وهو موقف حضاري لا غبار على مشروعيته. هذه التظاهرة العالمية أثبتت اتساع مشاهدنا لكل الخطابات وقدرتها على التفاعل الإيجابي مع أي خطاب متوازن، الأمر الذي أذهل الجميع، وحملهم على مراجعة مفاهيمهم عن البلاد وعلمائها ومناهجها. فالبلاد مستهدفة: عملياً وإعلامياً، ولا ينجيها من هذه المكائد إلا استجلاء الحقائق والبرهنة للعالم بأن ما يقال عنا ظلم وعدوان. وليس أدل على ذلك من تفاعل المواطنين مع الحدث عبر الحملة الوطنية التي أثبت المواطن من خلالها رفضه الإرهاب بكل أشكاله، هذا المؤتمر جسر الفجوات، ومكننا من إسماع صوتنا الذي ظل حبيس أجوائنا.
لقد لفت نظري الجهل بمؤسسات المجتمع المدني وضعف التفاعل معها والأداء السليم من خلالها، وامتد هذا الشعور إلى النقص المعرفي بالظواهر السيئة، الأمر الذي مكنها من الاستفحال، وكان ذلك مؤذناً بالحديث عن (ثقافة المؤسسات) وعرض الحيثيات الداعية لذلك، ولما راعني الجهل بالإرهاب ومتعلقاته والتعويل على المؤسسة الأمنية لمكافحته، كان حديثي عن جوانب كثيرة تتعلق به، تناولت:
- الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب.
- الإرهاب وتدافع الانتماء.
- الإرهاب وطرائق مواجهته.
وهذه المحاور فيما أرى هي جماع (ثقافة الإرهاب)، فلو نفر المقتدرون للتضلع من هذه الثقافة والتفقه بها ومعرفة مداخلها ثم النهوض بالإنذار عبر المنابر والقاعات والصحف والقنوات، لكان أن قطعنا الطريق على المتسللين بالعتاد والرجال والأفكار.
والأمة حين تستقر على مفهوم محدّد لأيّ ظاهرة سيئة، وحين تعرف أسبابها تكون أقرب إلى التعامل معها وفق متطلبات المرحلة. ومتى أتيح للمواطن الوقوف على جدل الحضارات حول ملابسات الإرهاب بوصفه من الظواهر السيئة، استطاع أن يعرف كيف يواجه الأعداء، وإذا أتقن الجميع طرائق المواجهة، تمكنوا من اتقاء الشر، ودفع الضرر بأقل الخسائر.
والمؤتمر الذي دعت إليه الدولة خرج بتوصيات متوازنة، لم تنل من رؤية البلاد، ولم تؤثر في مواقفها المعتدلة. ودعوة المملكة لإقامة مركز دولي للإرهاب قوبلت بترحيب دولي، ومهمات المركز كفيلة بتيسير المعرفة الوقائية، وهي الجزء الأهمّ من (ثقافة الإرهاب)، وفوق هذا وذاك جاءت الحملة الوطنية التضامنية تجسيداً للموقف الشعبي. وتعالقُ الموقف الرسمي مع الشعبي مؤشر إيجابي. ولم يبق إلا أن نعي هذه الظاهرة بكل ملابساتها، وأن نستصحب هذا الوعي إلى أمد طويل؛ فالظاهرة لا تحسم بيوم وليلة. والإرهاب المحلي وإن كان في لحظات الاحتضار إلا أن إمكانية التحرف أو التحيز متوقعة، وإذا حوصر الإرهابيون، وضيق الخناق عليهم فإن لفلولهم رفسة تشبه رفسة الذبيح، وهي من أخطر المراحل في أي ظاهرة تحتضر؛ ولهذا لابد من أخذ الحذر، وعدم الركون إلى نشوة الانتصار. وخوفاً من الخلايا النائمة فإن علينا أن نظل نشيع (ثقافة الإرهاب) للحيلولة دون كرّة موجعة، تؤدي إلى احتناك أبنائنا الأبرياء، وانتزاع الأمن والرخاء والاستقرار من بين أيدينا.
ويجب ألا تقتصر ثقافتنا عن الإرهاب على جانب منه؛ فالقتل والتفجير وتهريب السلاح وغسل الأموال والمخدرات كل ذلك يعد ظاهر الإرهاب، أما باطنه فيتمثل بالكلمة الخبيثة النافذة عبر عدد من التنظيمات السرية. ولما كانت مجالات الإرهاب متعددة؛ فقد أصبحت ثقافته متلونة كما الحرباء، ومراوغة كما الثعلب، ومخادعة كما السراب. ولقد نبه المؤتمرون إلى المثلث الخطير: تهريب السلاح، وغسل الأموال، وترويج المخدرات. والبلاد الغنية مرتع خصب لكل مفردات الإرهاب، ومسؤولية المؤسسات الأمنية والثقافية تتضاعف كلما تعرضت البلاد للعمليات الإرهابية، وكلما تعرضت الأدمغة للغسل، فلنأخذ حذرنا قبل أن نؤخذ على غرّة. وخلاصة القول:
1 - أن نضع (استراتيجية):
- أمنية.. تستبق الأحداث.
- توعوية.. تواجه الدعاية المغرضة.
- تربوية.. تنشئ الأجيال على الوسطية.
2 - أن نؤصل مفهوم المواطنة بحيث يعرف المواطن الواجبات بقدر معرفته الحقوق، وأن الأقربين أولى بالمعروف.
3 - أن نؤصل مفهوم السياسة الشرعية القائمة على احترام السلطات الثلاث:
- السياسة
- الدين
- المجتمع
4 - أن نعرف الأعداء وألا نتمنى لقاءهم.
وإذ يكون الإرهاب قضية الساعة، ووسيلة قذرة للاقتناص والاقتصاص فإن على الكافة التعرف عليه، وعلى أساليبه، وعلى منظماته، للتوفر على الوقاية الناجعة، وإتقان المواجهة الدقيقة، ولكل منهما متطلباته المعرفية والآلية، وذلك ما قصدناه ب(ثقافة الإرهاب).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل