موقعنا في سياق المشاريع الثقافية..!! (1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل
كان بودي لو توافر لهذا الموضوع جهد ووقت ومرجعية كافية، تمكن من تفكيك الظاهرة، والتعرف على أدق تفاصيلها، والقول عنها بموضوعية وتقويمها بواقعية، وتدارك الأمر للتأسيس المعرفي لما نستقبل من مشاريع مؤسساتية أو فردية أو جماعية تتعلق بالثقافة بوصفها جماع المعارف النظرية.
ويقيني أن مجرد الإثارة لمثل هذه الموضوع مؤذنٌ بتحرف سليم، يضعنا بكل ما لدينا من إمكانيات في المكان المناسب بكل ممارساتنا الثقافية على الأقل، وساعتها تكون هذه الإثارة ذات مردود مفيد، وما كنت بامتعاضي متخذ الشامتين عضداً، فما أنا إلا من (غزية) في قوتها وضعفها. وحين أنحي باللائمة فإنما أنحي بها على نفسي أولاً إن كان ثمة قدرة معطلة، أو فكر مهمش.
لقد بدأ هاجس المشاريع منذ أن وجه القرآن الكريم إلى النفور للتفقه والإنذار بعد التضلع المعرفي. ومنذ أن أجلب العلماء بكل إمكانياتهم وخلفوا لنا ملايين المخطوطات. والتاريخ الحضاري للإسلام المتمثل بكتب الطبقات وسير أعلام النبلاء، وتاريخ المدن زاخر بالتاريخ المشرف للعلماء الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم للمشاريع العلمية التي خلدت ذكرهم. ولن أمضي في الاستطراد واستعراض علماء التفسير والحديث واللغة والفقه والتاريخ ومنجزاتهم، فهو حاضر الذهنية المثقفة ثقافة تراثية. ولن تعدو عيني إلى الدول المتمكنة من ظاهر الحياة الدنيا؛ فمثل هذا السبق حاضر المثقف المسكون بهمّ أمته.
وحديثي عن موقعنا في سياق المشاريع الثقافية لن يقف عند حد الرصد والوصف، كما أنه لن يتردى في مآزق المفاضلة والادعاء. وإذ لا أسمح لنفسي بالوقوع في هذه المآزق فإنني في الوقت نفسه لن أستدر عواطف البَرِمِين بجلد الذات؛ فالأمة محكومة بواقعها وبسياقها، وهي قادرة على كسر الطوق والخلوص من الارتهان لواقعها المأزوم. والفكاك من مخذلات الواقع يتطلب رسم أكثر من خطة للنفاذ من عنق الممارسة النمطية.
وتشكيل (المجتمع المدني) لا يعني المروق من مقتضيات الحضارة ومقاصدها، وإنما يكون بالخلوص من الأمية والبدائية والفردية وارتجال الفعل وفورية الممارسة، وتشتت الجهود، وعشوائية الأداء. وأي مشروع ثقافي لا يسبق بالدراسات المعمقة والخطط الدقيقة والدعم المتواصل والخبرات المتمكنة والعمل المؤسساتي الدؤوب، يكون مآله إلى التوقف، ثم التآكل. ومع نجاح كثير من المشاريع الفردية التي سنعرض لبعضها، إلا أن ضمان النجاح والاستمرار لا يكون بالقدر الكافي، والزمن زمن التكتلات، والخبراء الممارسون يركنون إلى المشاريع المؤسساتية مهما كانت بطيئة. وشأننا في التخوف والرغبة شأن (الشركات العائلية) التي تضيع بمجرد موت المؤسس، والمتابع للمشاهد العربية والعالمية تمر به إسهامات فردية ومؤسساتية ترقى بتكاملها وشمولها إلى مستوى المشاريع، وإن كان الفعل الفردي أو المؤسساتي لا يُضمِرُ همَّ المشروع.
وبين يدي الحديث عن المبادرات الفردية والجماعية والمؤسساتية يحسن بنا أن نحاول تحرير (مفهوم المشروع) بوصفه سمة أو مصطلحاً. ولست أعرف ما إذا كانت كلمة (مشروع ثقافي) قد أصبحت كلمة مصطلحية، لها مفهومها ومقتضاها. لقد نقبت في المعاجم والموسوعات، فلم أر فيها ما يؤكد مصطلحية الكلمة، أما في مجال (الاقتصاد) فهناك أكثر من ظاهرة أو ممارسة اقتصادية تستهل بكلمة (المشروع). وفي كتيب صغير يحمل عنوان: (مشروعك الخاص يترجم وجودك.. أنت بلا مشروع أنت بلا وجود) لمؤلفه (أحمد قائد الأسودي) وقفت على كلمة إنشائية محتدمة، تختلط فيها مشاعر الانتشاء بحالات البؤس والانكسار، عنوانها (ماهية المشروع)؛ إذ يؤكد استحالة غياب المشروع في الواقع الإنساني، بوصف الإنسان مشروعاً بحد ذاته؛ فهو - على حد قوله - مشروع الله في أرضه، خلقه واستخلفه واستعمره، وهو مساحة مستهدفة بالمشروعات، ما يوحي بأن الإنسان مشروع ومستهدف بالمشروع. ولست مع الهلاميات والإطلاقات العاطفية. وما أرمي إليه قيام الفرد أو الجماعة أو المؤسسة بتبييت النية وبلورة الفكرة وتجسيد الرؤية والتصور السليم الذي يحدد الحاجة، ويرسم الطريق، ويتوفر على المادة والجهد والوقت ويباشر العمل من خلال الخطة والمنهج والآلة، بعد فهم المهمة في لحظة التخلق إلى نقطة التحقق. وهذا التطلع لم أر أحداً نفله بدراسة علمية موضوعية على حد علمي، ولما كان الجهل بالوجود لا يعني العلم بالعدم، فقد نفيت علمي، ولم أنف الوجود.
ومع عدم تحرير المصطلح فقد وجد البعض في ذلك فرصة للادعاء العريض، إذ يطلق البعض على ممارسته الثقافية سمة المشروع، ويتلقف الإعلام هذا الإطلاق ويتداوله، وما هو في حقيقة الأمر مشروع. ومرد ذلك: إما إلى المفهوم الخاطئ للظاهرة، أو الرغبة في التشبع والادعاء. وقد يكون تبني أي ظاهرة أو تيار أو مذهب غربي مغرياً بمثل هذا الادعاء المتزيد. وتلقي المذاهب الغربية أو تبنيها لا يكون مبادرة ولا مشروعاً. لقد جُلبت مفاهيم وآليات ومناهج في التربية والأدب وعلم النفس والاجتماع وسائر (الأيديولوجيات) ولم يتردد المحتفون بها في وصف محاكاتهم بأنها مشاريع، وما هي كذلك، وإن كانت المشاهد قد استفادت منها، وإذا كان من حقهم التزود من معارف الغير فإن ذلك محكوم بضوابط لم يتمثلوها.
لقد كثرت المقولات حول المشاريع، مثلما كثرت دعوى (الثلاثيات الروائية). والمشروع لا يكون إلا بعد قيام الحاجة، وتوفر الإمكانيات، ورسم الخطط، وتحديد الأهداف، وتصور النتائج، وممارسة الفعل المنظم، وإنتاج العمل المستقل المتكامل، ونهوض طائفة مقتدرة واعية تتحرك في الوقت المناسب، وتملك الحق والشرعية والإمكانية، وأن يسبق الفعل تقدير وتوقيت وتحديد المسار والهدف. ومثل هذا لا يصدق على كثير من الممارسات الفجة المرتجلة التي يصفها أصحابها بالمشاريع، ويتلقاها أشياعها بالتصديق، ثم لا تكون كذلك، ومع الحرص على فرز الأعمال وتحديد العمل المشروعي والعمل العادي إلا أننا لا نجد الضوابط الدقيقة التي تتلافى مثل هذا الخلط المسيء للفهم. والمتابع للإنجازات الفردية والمؤسساتية يجد أن أعمالاًُ فردية، لم يبيت أصحابُها نية المشروعية، ولكنها تفوقت بغزارتها وموضوعيتها وسدّها الحاجة على أكثر المشاريع المستحقة لهذه السمة، وقد لا يلحق بها من بيتوا النية وخططوا وأنفقوا.
فلو نظرنا إلى المشاهد الثقافية العربية إبان النهضة أو في أعقابها لتبدت لنا إنجازات فردية وجماعية ومؤسساتية تستحق الوقوف والإشادة، وإعادة النظر، لإعادة الكرّة ومواصلة المسيرة التي انقطعت بموت صاحبها، أو بتفرّق الجماعة. وليس هناك ما يمنع من الاستفادة والتأسي؛ فالثقافة والحضارة والهمّ العربي وحدة واحدة لا تتجزأ، وما ينجز في موقع جغرافي يسدّ خلالاً كثيرة، وبتعقب المنجزات التي كاد يطويها النسيان نقف على محاولات رائدة في مختلف الحقول المعرفية.
لقد تبدت الإسهامات المشروعية في عدة حقول معرفية، ففي حقل الفكر الإسلامي ومعارفه بُذلت جهود من قبلِ أفراد ومؤسسات، وكان لهذه المبادرات المنظمة أثرها في سد فراغات معرفية طال انتظارها. لقد كانت هناك محاولة للتاريخ الحضاري للإسلام لمواكبة التاريخ السياسي، ويأتي في مقدمة ذلك مشاريع كثيرة، منها - على سبيل المثال - مشروع (أحمد أمين) عن فجر الإسلام وضحاه وظهره، وفي مجال الدراسات الشخصية يأتي (العقاد) في عبقرياته، وفي مجال النص التشريعي نجد أنه في مجال (الحديث النبوي الشريف) يتبادر إلى الذهن العلامة (محمد ناصر الدين الألباني) - رحمه الله - لقد كان اهتمامه في التحقيق والتخريج والتصحيح فتحاً مبيناً، أدى إلى العدول عن كثير من المسلمات الفقهية، والتقليل من التعصب المذهبي الذي أحل النص الفقهي محل النص الشرعي، وخدمة السنة النبوية من لدنه مبادرة فردية يعجز عن النهوض بمثلها فريق عمل متفرغ؛ الأمر الذي حدا بعلماء المملكة إلى تثمين عمله المتميز، ومنحه (جائزة الملك فيصل العالمية) ومشروعه في خدمة السنة فتح الطريق أمام عدد كبير من العلماء الذين أسهموا في تحقيق كتب الحديث وتخريج أحاديث السنن والصحاح والمسانيد.
وأحسب أن النصف الثاني من القرن الماضي يعد من أميز الفترات وأخصبها؛ حيث شكل تحولاً في الفقه الإسلامي، حمل علماء المذاهب على مراجعة مسلماتهم، والقبول بإعادة النظر في كثير من الأحكام، وعمله من أهم المشاريع الفردية. ويواكب هذا المشروع ظاهرة (الفهرسة) لكتب الصحاح والمسانيد والسنن ووضع فهارس للصحيح والضعيف والموضوع. وتبع ذلك بدايات متعددة في مختلف المعارف توقفت قبل الاكتمال: إما لموت المؤلف، وإما لعجزه، وإما لفشل مشروعه. والمشهد الثقافي والمعرفي زاخر بالمشاريع التي بدأت ثم تفرقت بها السبل.
وفي مجال (الذكر الحكيم) يتبادر إلى الذهن (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، أما عن الجهود الفردية فيتبادر إلى الذهن العلامة (عبد الخالق عضيمة) - رحمه الله - الذي أنجز عملاً فريداً، لم يحظ بالاهتمام والاستثمار، تمثل بدراسات نحوية صرفية لأساليب القرآن الكريم، حيث أفرغ النص القرآني وفق أبواب النحو والصرف، ويقع مشروعه في أحد عشر مجلداً، لا ينجز مثله إلا أولو العزم من العلماء الأفذاذ. ومن قبله مشروع الأستاذ (محمد فؤاد عبد الباقي) - رحمه الله - (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). وفي مجال الحضارة الإسلامية لا يجهل أحد مشروع (فؤاد سزكين) الذي جاء تصحيحاً لعمل لمستشرق (بروكلمان)، ولو ذهبنا نستقصي ألوان المشاريع ومجالاتها لطالت علينا الشقة.
وعلى المستوى المحلي وفي مجال التراث والآثار وعلم الأنساب واللغة والمخطوطات يعد من أبرز الشخصيات الذين تركوا أثراً يفوق المشاريع المؤسساتية علامة الجزيرة العربية الشيخ (حمد الجاسر) - رحمه الله - فلقد اهتم بجغرافية الجزيرة العربية، والتف حوله عدد من الباحثين الذين أنجزوا جغرافية مناطق المملكة، وهو قد اهتم بتاريخ الأسر المتحضرة في نجد، وله اهتمامات تراثية ولغوية، وهي بمجملها تشكل وحدة معرفية تضارع المشاريع العملاقة. وبالإضافة إلى التحقيقات، فقد تعقب معاجم اللغة العربية واستدرك عليها ما يتعلق بأسماء المدن والجبال والأودية، وهو بإمكانياته واهتماماته الاستثنائية أصبح مرجعاً معرفياً موثّقاً لدى (المجمع اللغوي بالقاهرة)، ويعد من عمده فيما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها. وإلى جانب أعماله التأليفية والإشرافية يُصدر مجلة (العرب) وهي مجلة متخصصة، تهتم بذات الموضوع. ولقد نهض محبوه للمحافظة على استمرارية جهوده، وذلك بإنشاء مركز يحمل اسمه، ويؤدي ذات المهمات التي كان ينهض بها بمفرده. ولقد شُغل بعض الأدباء والمفكرين والمتخصصين بقضايا تاريخية أو تراثية أو فكرية أو أدبية وتمخض اهتمامهم عن منجزات كادت تصل إلى مستوى المشاريع، نذكر في هذا الصدد الدكاترة (عبد الرحمن الأنصاري) و(سعد الراشد) وجهودهم في علم الآثار، ومعالي الدكتور (علي النملة) وجهوده في علم الاستشراق، والدكاترة (سعد البازعي) و(ميجان الرويلي) وجهودهم في علم المصطلح، والدكتور (سالم محمد رشاد) - رحمه الله - وجهوده في تحقيق مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مشروع رعته (جامعة الإمام)، ومعالي الدكتور (عبد الله بن عبد المحسن التركي) واهتمامه بالموسوعات التاريخية والعلمية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|