مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:06 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
موقعنا في سياق المشاريع الثقافية..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولو ذهبنا نستبق المسكونين بالهم الثقافي والتراثي لتداخلت أمامنا القضايا، ولتشابهت علينا المسميات، فطائفة من الذين شغفتهم الأضواء حباً، وأنهكهم الإعلام ترويجاً يودون أن يستقروا في أذهان الغير على أنهم أرباب المشاريع وروادها، وما هم منهم لا في العير ولا في النفير، وإمعانهم في تكرار الادعاء جعل البعض يظنهم كذلك. ولو نظر المصدِّقون لهم إلى مواصفات المشروع وشروطه لما غلبت على ظنهم تلك الأقاويل، ولقد علمت أن قادة الفكر العربي يعايشون أكثر من مائتي مشروع ثقافي جماعي، تندرج تحته المنتديات والمنظمات والهيئات والروابط، وهذا عدد قليل إذا قيس بالمساحة والكثرة والحضارة والتاريخ. وحين أومأت إلى طائفة من العلماء والمفكرين محلياً تساءل البعض عن آخرين، لا يقلون عنهم هماً وإنجازاً، وما كان في نيتي التقصي، ولو كان ذلك من همي لكنت أشرت إلى مشروع (البابطين) وهو مركز حافل بالتراث، وقريب منه الصالونات والمنتديات والأندية والروابط كصالون (الرفاعي) رحمه الله، و(خوجة) و(المبارك) وآخرين، كانت لهم اهتمامات ثقافية لا تقل بمجموع منجزها عن منجزات أصحاب المشاريع.
وعلى المستوى العربي نجد رجالات علمية وثقافية تضارع في أدائها وفي منجزاتها ما أنجزه غيرهم، ولسنا بصدد الحصر الإحصائي، ولا العزوف عما لا تهوى أنفسنا، ولكننا نشير فقط إلى ما في الوطن العربي من بدايات موفقة، تحتاج إلى مزيد من الدعم والمواصلة، أو التقويم والتسديد.
ومما يدخل في نطاق المشاريع الفردية - على سبيل المثال - مشروع (محمد عابد الجابري) في نقد العقل العربي الذي يقع في أربعة أجزاء كبار، وهو مشروع استرجاعي نقدي تقويمي للبنية والمكون، وللبعدين: السياسي والأخلاقي، ولما يزل مجال أخذ ورد. ودونه مشروع (كتب غيرت الفكر الإنساني) للباحث (أحمد بن محمد الشنواني) وقد نيف على عشرة أجزاء، ودعوى تغييرها متفرقة أو مجتمعة للفكر الإنساني دعوى فيها أكثر من قول، وفائدتها أنها أجملت الوصف والتحليل لعشرات الكتب المهمة، وذلك المشروع الفردي مخاض مشروع مؤسساتي تبنته (الهيئة المصرية العامة للكتاب) وهو مشروع (الألف كتاب) الأولى والثانية.
ويضارع هذا المشروع المؤسساتي مشروعات مماثلة كمشروع سلسلة (اقرأ) وسلسلة (زدني علماً) و(كتاب الهلال) و(عالم المعرفة) السلسلة الشهرية التي تصدر من الكويت و(كتاب الرياض)، وتلك مشاريع عملية تقصد إشاعة الثقافة، ولا تخص علماً ولا ظاهرة بعينها، كمن فرغ لخدمة (الحديث النبوي الشريف) أو (العقل العربي)، ومن ثم يصدق على مثل هذه المنجزات مسمى (المشاريع الثقافية) وإن لم تبت لها النية، ومما هو في هذا المجال (مشروع الفهرسة) للشخصيات والمجلات، ويأتي على رأس ذلك مشروع الأستاذ (حمدي السكوت) وزملاؤه، فلقد نال بذلك جائزة الملك فيصل العالمية. وكذلك (شوقي ضيف) في تاريخه للأدب العربي عبر العصور الإسلامية. وعلى المستوى النسائي نذكر (سلمى الجيوسي) و(سلمى الحفار)، فقد اهتمت الأولى بترجمة عيون الإبداع العربي، واهتمت الثانية بآثار (مي زيادة). وعلى مستوى المؤسسات نجد (مؤسسة الفكر العربي)، و(منتدى الوحدة العربية)، و(مؤسسة الإنماء العربي)، و(منتدى المثقف العربي) للدكتور (عبد الولي الشميري)، وما لا يحصى من المنتديات، وتلك تلحق بالمشاريع، ولكنها تعيش في ظلها.
ولأن القصد من هذه الأمثلة الإشارة لما يمكن أن يصدق عليه مفهوم المشروع فإننا نكتفي بالإشارة العابرة لبعض المشاريع وإن أشرنا له لا نود أن نأتي بمثله، لكونه تزيداً لا قيمة له، أو لكونه مناهضاً للثوابت الحضارية، ولكن يظل المخالف في نطاق المشروع الثقافي. وسيان عندنا في هذا السياق أن يكون المشروع على ما نريد ووفق رغباتنا أو لا يكون، فاكتساب صفة (المشروع) لا يخضع لموافقة الهوى، إذ إنه نوع من الفعل الفردي أو المؤسساتي يكتسب الصفة ولا يظفر بالتأييد. ولو ربط هذا المفهوم بالمنازع السياسية أو الفكرية أو غيرها لما اكتسب أي عمل مفهوم المشروع، وهذا يذكرنا بالخلاف حول مفهوم الحضارة بين (مالك بن نبي) و(سيد قطب) رحمهما الله، وهو اختلاف شكلي أريد له أن يكون فكرياً.
وإلى جانب المشاريع التأليفية أو التحقيقية تقوم مشاريع بحثية تجميعية مؤسساتية. هذه الاهتمامات تأتي على شكل مراكز بحوث، تخص (مدينة) أو (شخصية)، ففي (المدينة المنورة) جاء الاهتمام بتاريخ المدينة الحديث، وبخاصة ما يخصها إبان الحكم العثماني، وما يتعلق بالجانب الإداري والمالي، وما يمكن تسميته بما أهمله التاريخ السياسي أو العلمي. ولتدارك ذلك أنشئ (مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة) ومهمته تجميع شتات البحوث والأوراق والسجلات والآثار وكل متعلقات المدينة المنورة. وللجمع بين الدراسة والتنقيب تولى المركز إصدار مجلة محكمة اسمها (مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة). ولقد حفظ هذا المركز من المعلومات ما كان عرضة للضياع، ولما يزل ينقب، ويرتب، ويصنف ويدرس ويبدو أثره المعرفي بعد استكمال متطلباته.
وعلى سبيل الاهتمام الشخصي نجد (دارة الملك عبدالعزيز) تهتم بتاريخ الجزيرة العربية الحديث، وتتابع ما كتبه الرحالة والمستشرقون عن مناطق المملكة وبخاصة أولئك الذين أتيح لهم الاتصال بزعماء البلاد، ممن كانت طبيعة عملهم متعلقة بالظروف السياسية للجزيرة العربية إبان الأدوار الثلاثة للحكم السعودي، إضافة إلى التاريخ الشفهي الذي اضطلعت به الدارة، وكذلك المراسلات الرسمية والشخصية مما له علاقة بالجوانب السياسية والمالية.
ولقد كانت (مجلة الدارة) بحد ذاتها مشروعاً تاريخياً. ولا تقل عنها في هذا المجال (مجلة الدرعية) التي يرأس تحريرها الأستاذ (محمد بن عمر بن عقيل) وهي مجلة فصلية محكمة تعنى بتاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية وتراث العرب، ولا تقل (مكتبة الملك عبد العزيز) عما سلف من مراكز ودارات، وبخاصة أن المكتبة ترعى الموسوعات والندوات والمؤتمرات. وما أنجزته تلك المراكز ومجلاتها في مجالها من إضافة معرفية لا يقل عما ينجزه ذوو المشاريع المعلنة، وإذا كان التعويل على المنجز فإن أعمال تلك المراكز والدارات والمجلات المتخصصة لها من الأهمية ما تستحق معه أن تسمى مشاريع تاريخية أو فكرية أو علمية، ولعل الاختلاف حول المشروع وحدوده استدعى مثل هذه الجوانب.
ولقد بدت أعمال ثقافية استثنائية، لم يكن على بال أصحابها أن تكون على سنن المشاريع، ولكنها بعمقها وشمولها وثباتها واستمراريتها تجاوزت حدود المشاريع. فالعلامة (علي جواد الطاهر) ت 1417هـ بدعم ومساندة من العلامة (حمد الجاسر) نهض بمهمة تفوق أصحاب المشاريع، وبمفرده أنجز (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية) في أربعة مجلدات، وهو عمل فهرسي شامل، لا ينهض به إلا فريق عمل، ولا ترعاه إلا مؤسسة قوية، وقد سد بعمله فراغاً ما كان له أن يظل، حتى ينهض له أستاذ عراقي زائر. والتقاطه لهذه الفكرة ونهوضه بها يقربه من ذوي المشاريع الثقافية. ولعل أكبر وأجود مشروع موسوعي (الموضوعية العربية العالمية) التي دعمها الأمير (سلطان بن عبدالعزيز) وجند لها أكثر من ألف متخصص وباحث، وقد تناولت هذا المشروع بالدراسة. ومشروع المؤسسات تذكرنا بمشروع الأمير (مشعل بن عبدالعزيز) (موسوعة مكارم الأخلاق) وموسوعة الدكتور عدنان الوزان (حقوق الإنسان) كحقوق المرأة وحقوق الطفل، وقد صدرت في عدة مجلدات.
وإن كان ثمة إشارة إلى ذوي الهموم الثقافية والتراثية فإننا لا نجد بداً من الإشارة إلى طائفة من أساتذة الجامعات الذين سكنهم هم التراث، وعملوا على خدمته تجميعاً وتحقيقاً. فالأستاذ الدكتور (عبد الرحمن العثيمين) في (جامعة أم القرى) يفوق باهتمامه وإتقانه لعمله ما تقوم به بعض المؤسسات أو ترعاه من مشاريع ثقافية. والأستاذ الدكتور (عبد العزيز المانع) في (جامعة الملك سعود) لا يقل عنه إنجازاً وإتقاناً. ولقد راد لأولئك العلامة (ابن بليهد) في كتابه (صحيح الأخبار) و(أحمد عبد الغفور عطار) في (الصحاح) و(ليس من كلام العرب). ولو ذهبنا نتحسس عن ذوي الاهتمامات والمنقطعين لتخصصاتهم لخرجنا عن مقاصد الحديث، والمتابع للمشاهد يعرف سلفاً أن هناك من تتنازعهم عدة اهتمامات، تكاد تقترب بهم من سدة المشاريع. والحضور الإعلامي، والاشتغال بأكثر من ظاهرة، وسرعة التحول من قضية إلى أخرى، والاهتمام الذي لا ينجز عملاً لا يكون أصحابه من ذوي المشاريع وإن ادعوا ذلك أو ادعاه لهم غيرهم.
وإذا قامت شخصيات أو جماعات أو مراكز بمهمات تاريخية أو جغرافية أو تراثية أو موسوعية فإن بعض الوزارات قد نهضت بتنفيذ بعض المشاريع المعرفية، ف(وزارة التربية والتعليم) نفذت عدة مشاريع ثقافية، منها (سلسلة آثار المملكة العربية السعودية) حيث أصدرت عن كل منطقة مجلداً عن الآثار، بلغت ثلاثة عشر مجلداً، تقصت فيه آثار كل منطقة. وفعلت مثل ذلك حين أصدرت موسوعة عن رجال التربية والتعليم. وفي هذا المجال نهض أفراد أو مؤسسات أو مجموعة متخصصة بعمل موسوعات، وقد جاءت تلك الأعمال متفاوتة في جودة الأداء، وهي بلا شك مشاريع لها وعليها. ف(دائرة الإعلام المحدودة) نهضت بمشروع (معجم الأدباء والكتاب) وكانت تنوي إصداره في أجزاء، إلا أنها عدلت عن ذلك، وأصدرته بطبعة معدلة تحت عنوان: (معجم الكتاب والمؤلفين)، وقد شكلت للمشروع المتواضع لجنة علمية، لإجراء بعض التعديلات والإضافات، وكنت واحداً من بين أعضاء هذه اللجنة.
كما قامت مجموعة من الأدباء بإصدار (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث.. نصوص مختارات ودراسات) صدرت الموسوعة في عشرة مجلدات، تناولت الأدب والنقد والإبداع الشعري والسردي مع تراجم ونماذج، ولقد قوبلت تلك الموسوعة بنقد حاد النبرة، وعلى الرغم من ذلك فإنها تعد إضافة جيدة وجهداً مشكوراً، ولا يخلو أي عمل من نقص يمكن تلافيه، كما فعلت (دائرة الإعلام المحدود) حين أصدرت الطبعة الثانية تحت إشراف لجنة علمية، وعلى هذا السنن قام أفراد بجهود مماثلة نذكر من ذلك على سبيل المثال (موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين خلال ستين عاماً) للأستاذ أحمد بن سعيد بن مسلم)، ورائد أولئك جميعاً الأستاذ (عبد السلام الساسي) والأستاذ (عبد الله بن إدريس) والأستاذ (عبد الرحمن العيد) والأستاذ (محمد بن أحمد العقيلي) وآخرون من بعدهم، وقد لا تصل مثل هذه الأعمال إلى مستوى المشاريع، ولكنها تمثل إرهاصات لا يستهان بها، ولا يجوز تجاوزها.
وحين نتقصى مثل هذه المشاريع أو ما يمكن أن يسمى مشروعاً، وهو غير ذلك فإننا نود الدخول في التقويم والتخطيط واستعراض ما يمكن استعراضه من الحاجة الملحة لتغطية حاجة الأمة الثقافية بالمشاريع المعرفية والثقافية، وما لم نقوِّم العطاء ونتقصى الحاجة فإن الزمن سيمضي دون أن نظفر بعمل ذي جدوى.
وإن كان ثمة رغبة في مراجعة المنتج، وتقويم الأعمال القائمة، والبحث عن مواطن النقص، فإن أهم شيء يجب أن نتخذه: توحيد الجهود، والتنسيق بين المؤسسات والجماعات، والتعويل على العمل المؤسساتي، ثم النظر في حاجة الأمة المتمثلة بأمور كثيرة من أهمها:
- الترجمة: والحديث عن أهميتها وإشكالياتها العويصة يحتاج إلى مؤتمرات وأكفاء يتقنون اللغتين والموضوع.
- الوصول إلى المخطوطات العربية التراثية المنهوبة من خزائن العواصم العربية عبر القرون الخوالي، والعمل على استعادتها، أو استعادة صور منها، وتحقيقها، وجعلها في متناول المتخصص العربي.
ولقد كان لمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية جهود لا يستهان بها، كما كان للمجامع العربية جهود مماثلة ولكنها دون المؤمل.
- المصطلح: وإشكالية المصطلح مرتبطة بإشكالية الترجمة، فكل مجمع وكل مترجم يعرب أو ينقل أو يترجم وفق جهده وإمكانياته، وقد أدى ذلك إلى التعدد والفوضى.
- العمل الموسوعي: وهذا الهم نهض به أفراد وجماعات ومؤسسات، ولكنه جنح إلى الفوضوية، ولم يكن الناهضون بمثل ذلك على شيء من أصول الإعداد الموسوعي، وصناعة الموسوعة تختلف عن صناعة البحث أو الكتاب.
- المعاجم: وتلك الرغبة تتطلب مؤسسات متخصصة قادرة على استقطاب العلماء الذين يتوفرون على معرفة متخصصة وخبرة عميقة تميز بين العمل الموسوعي والعمل المعجمي. ولو ذهبنا نعدد نواقصنا الثقافية لأذهلتنا الكثرة. وأهم شيء في هذه الظروف أن تعمد المؤسسات والجماعات إلى التنسيق بين الأعمال، وتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات، والمواد، والكفاءات. ولعل أقرب شاهد على الفوضى ما نراه من منجزات مبعثرة ومكررة تمارسها (مجامع اللغة العربية) في الوطن العربي، وبخاصة في مجال الترجمة، وعلم المصطلح، والتحقيق.
إن المجتمع المدني مجتمع مؤسسات ودراسات وتخطيط وتخصص واستشارات، فهل نمتلك هذا الهاجس، لنحقق ما نحن بحاجة إليه في مختلف الحقول المعرفية. أرجو ذلك.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل