مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:08 PM   #71
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
إخفاقات السرد بين تجريب القص وغياب النقد 1-3
د. حسن الهويمل


(السرد) مصطلح بإزاء (الشعر) وبإزاء (الحوار) . و (السردية) نمط إبداعي يميزه شرطه وشكله ولغته وتقنية معماره. ولا تكون السرديات مجرد الكتابة الحاكية لحدث ما. إن هناك أركاناً تداولها النقاد ك (الحكاية) و (الحبكة) و (الشخصية) و (اللغة) و (التكنيك الفني) أو ما يسمى ب (الشكل) أو (البناء) و (الزمان) و (المكان) . وأي قول لا يحتكم ذووه عند الاختلاف إلى مرجعية، لا يكون فناً، وليس شرط المرجعية أن تكون مكتوبة، فكم من معهود ذهني يفعل فعل الشرط المكتوب، والتماس المرجعيات أو الإحالة إليها، لا يعني الحدَّ من التحرف الراشد للتجديد. ومن المثبطات أن محاولة الأخذ بحجز المتهافتين على التجريب، الرافضين لكل سلطان مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومواجهة الروائيين والقصاص المخفقين بما هم عليه مؤذن بمناكفات مُسِفَّة على حد: (ما تركِ قولُ الحقِّ لي صديقاً) .
لقد كانت لي تجاربي غير السارة، فعندما تحدثت عن تاريخ السرديات المحلية فضَّلت ألا أكون حيادياً، يصف الواقع كما هو، بل غامرت في التقويم، وتحفظت على الاندفاع غير المحسوب وغير المتزن في التجريب، وأبنت نصحي لكل المغامرين الذين نكّبوا عن ذكر العواقب جانباً. هذه الرغبة المنطقية في الانْحياز الفني واللغوي والدلالي أثارت طائفة من السرديين والنقاد، بحيث حكموا بضعف إمكانياتي وبدائية تجربتي في النقد السردي، حتى قال قائلهم: (إن اشتغالي بالسرديات فضيحة نقدية) . ولما أحسست أن طائفة من ذوي الشأن لم يستبينوا النصح، ولم يقارعوا الحجة بمثلها، لم أعاقب بمثل ما عوقبت به، ولم أصبر، ولم أكن في ضيق مما يقولون، وإنما مارست الدراسة التطبيقية للنقد البنيوي للرواية، وتعمدت نشرها تباعاً، حتى نيفت على ثلاثين حلقة. ولست أدري عما إذا كان المعترضون يصرون على حنثهم، أم أنهم لاذوا بالصمت، فما عاد يعنيني قولٌ لا يهدي إليّ عيوبي.
والقارئ المتابع لكل مستجد، يكشف كل يوم عن جهل جديد بما يكتسبه من معارف لم يكن يعلمها من قبل. وكل معلومة يضيفها إلى رصيده المعرفي تعدل أو تلغي أو تضيف إلى ما قد قاله من قبل. ومن تصور أن قوله السالف قول فصل، وأنه لا معقب لرؤيته، فقد جمع بين الجهل والحمق، بل ربما زاد جهله، فصار كمن يجهل أنه يجهل. وهذا ما عرف بالجهل المركب، وما أكثر الذين يقترفون ذلك، ولا يدركون أنهم كذلك. لقد جئنا متأخرين إلى المشهد السردي، وكان مجيئاً متواضعاً يقعد به ضعف الرواد وهيمنة الشعر. فمحاولات (عبد القدوس الأنصاري) و (أحمد السباعي) و (محمد المغربي) لم تتوفر على أصول الفن، ولم يكن المشهد حفياً بالسرديات، كما لم يكن التأسيس من بعد على يد (حامد دمنهوري) مسنوداً بالقبول ولا بالنقد المعرفي المتمكن. ولما جاءت مرحلة الانطلاق، وكثر الموهوبون والمقتدرون والأدعياء واستخفهم نقد مساير أو مجامل، كانت المشاهد كلها تتخبط في لجج التجريب والحداثة وطوفان المستجدات والمترجمات. ومما زاد الأمر تعقيداً الإلحاح على حرية التعبير والتفكير، والتوسل بالواقعيات اللغوية والسلوكية، وطغيان أدب الاعتراف. ولما تزل حركة النقد السردي متواضعة وغير مطمئنة. فهي إما: انطباعية أو متشايلة أو مدارية. ولما يكن لدينا نقد روائي مضارع للنقد الشعري، ولا نقد روائي معرفي معياري، كما هو في بعض أنحاء الوطن العربي. والعائدون من البعثات، لم يكن رهانهم على السرديات، وإنما استزلهم سلطان الشعر، وألهاهم التنظير، واستهلكهم العمل الأكاديمي، فكان أن خلا الجو (لقبّرات) باضت وصفرت.
ولأني خبير - كبني لهب - بمشهدنا الأدبي وإيقاعاته المتسارعة، فقد تجرعت مرارة المزايدات، وإصرار البعض على جودة ما يفيض به على مشهده، واستكباره على الناصحين، ورفضه لكلمة الحق. وعلاقتي بالسرديات لم تكن حديثة عهد، كما يحلو للبعض إشاعته، للتقليل من رؤيتي، وإن كان تخصصي في الشعر المعاصر، وسلطانه قد بطأ بالحضور السردي: إبداعاً ونقداً، وفوت على المبدعين السرديين مثولهم أمام مرايا النقد بكل تشكلاتها: المسطحة والمقعرة والمحدبة والمتجاورة. لقد كانت متابعتي للإبداع السردي وتحولاته الفنية واللغوية والدلالية: محلياً وعربياً سبباً رئيساً للإلحاح في التساؤل المشروع. والمبدعون المبتدئون لا يروق لهم أن يُسألوا عما يفعلون، فهم يريدون الحرية المطلقة والشاملة:
الحرية المطلقة من سلطة الدين والسياسة والمجتمع.
والحرية الشاملة للأبعاد الفنية واللغوية والدلالية.
أو على الأقل الأخذ بنهم، والمطالبة بإلحاح. وليس من مصلحة المشاهد أن تكون بهذه الفوضوية لا سراة لها، ولا سراة إذا جهالها سادوا. وكم هو الفرق بين السلطة والتسلط، والحرية والفوضوية، والتجريب والتخريب. ومن قلّب لمشهده الأمور فقد أراهم ما يرى من زائف القول.
وهذا التفلت ضرب الفن السردي في الصميم، وأثار جدلاً (أيديولوجياً) وفنياً وأخلاقياً ولغوياً. وحق (الحرية) ومشروعية (التجريب) عول عليهما من لا يعرفون حدود الحرية وأمداء التجريب، ولحق بهم من لم تكتمل عندهم آليات الفن، ولم تنضج عندهم التجارب، ولم يتوفروا على الأجواء الملائمة، فكانت الإخفاقات الموجعة في ظل نقد غائب أو مداهن. والنقد حين لا يؤدي وظيفته، ولا يتوفر الناقد على ثقافة بمقتضياته المعرفية وبحسه الذوقي تكون الفوضى والتخريب، وهو ما لا يوده الحريصون على التوازن. والفوضى باسم الحرية، والتخريب باسم التجريب أبرز سمات الإخفاقات السردية: محلياً وعربياً، وهي التي شغلت المشهد، ولم يصل المتصارعون على حلبته إلى حل وسط، يفك الاشتباك، ويكفل الحرية المنضبطة والتجريب المشروع.
وفي خضم الصراع الذي لا تحكمه شرعة ولا منهاج، تحولت الظاهرة السردية إلى إشكالية مأزومة، أحس معها المؤصلون والمحررون لمسائلهم بالحرج. فالناقد المعرفي المعياري الأخلاقي لا يمكن أن يقيم وزناً للانفلات الفني واللغوي، ولا أن يسلم لفلتات العهر والكفر تحت أي اسم. وقدره الموجع أنه متى وجد نفسه ملزمةً بالتصدي لظواهر العبث والمجون والانحراف الفكري والسقوط الأخلاقي فإنه سيواجه بألسنة حداد، تتنادى بأنديتها، ثم لا تكون لديه زبانية تحميه من سلقها. وإشكالية الصراع الفكري والفني والأخلاقي تنتاب المشاهد العربية كافة، وتكاد تصدع الوحدة الفكرية. ولو عاد الأطراف المتشاكسون إلى كلمة سواء، لاقتربت الأزمة من الحل، فما استعصى على قوم منال إذا حكمتهم المرجعية، ونشدوا الحق. لقد تمرد روائيون على الثوابت، وكان أن لجت المشاهد وكان العتو وكان النفور، ورمّت الجروح على فساد، فما يدري ذوو الشأن متى تعود إلى الانفجار.
والإبداع بكل أنواعه القولية والفعلية تحكمه ضوابط وذوائق، وتسهم في تشكله بيئات وحضارات، وهو أشد وثوقاً بالأجناس البشرية، وقد تؤدي خلطة الحضارات إلى التجانس، ولكنها لا تغلي فناً على حساب الفن الآخر، ولا تهمش حضارة أو تزوي أخرى، فالتكافؤ والتكامل والتفاعل حق مشروع لكل الحضارات، وأي هاجس للهيمنة أو الإقصاء مُؤذِن بفساد الفن. وإذا كانت كل وجوه الحياة مضبوطة بسننها وأنظمتها ومعاييرها فإن (الفن القولي) وجه من وجوه الحياة، وهو الأحق بالانضباط. والقول بالنظام واحترام خصوصية كل نوع فني لا يعني الجمود والرتابة والنمطية، وفي الوقت نفسه فإن التكسير والمغايرة المطلقة والذوبان في الآخر والتحلل من كل الضوابط والأعراف والمسلمات لا يعني التجديد. إن هناك تقليداً معيباً، ومحافظة محترمة، وتجديداً مطلوباً، وحداثة محظورة، وتخريباً مرفوضاً. وكل متعالق مع وضع من هذه الأوضاع يرى أنه الأحق والأصح. والمتابع للأعمال السردية والدراسات النقدية تنتابه الحيرة في التعرف على أنواع (الفن القولي) ، حتى لا يدري ما القصة وما الرواية. والشعر الأكثر تميزاً مسه طائف من الفوضوية، فلم يعد متميزاً عن السرد بعد مجيء (قصيدة النثر) وتحولاتها الشكلية واللغوية والدلالية. وهذا الخلط العجيب حمل المتواطئين مع العابثين على إطلاق مصطلح (الكتابة) والاستغناء به عما سواه من أنواع الفن القولي، وكأن إطلاق هذا المصطلح منقذ من تمييع الفوارق بين فنون القول، وحاضر النقد وماضيه يفرق بين الأجناس وأنواعها.
والعمل الروائي حين يكون جنساً سردياً له أنواعه، يكون بجملته من نصيب مصطلح (أدبية النص) ، ويكون على المبدع أن يتوفر على مقتضيات (الأدبية) ، مثلما يتوفر الشاعر على متطلبات (الشعرية) ، و (أدبية النص) مصطلح تشعبت فيه الآراء، ولما يستقر النقاد معه على وصف جامع مانع. يقول (توفيق الزيدي) : (إن الأدبيّة مفهوم غامض إلى حد الحيرة مجرد إلى حد الاستعصاء) . ومع الغموض والتجريد فقد تقصاه في كتب التراث ووقف على رؤى متعددة تشكل بمجموعها مفهوماً واضح المعالم.
والتراث النقدي يلمح إلى مستويات النص السردي بالانطباعية، وقد يشير إلى ما هو داخل النص أو خارجه من تخييل أو إيقاع. فحين يكون هناك استحسان، يكون هناك مفاضلة، ثم يكون تعليل يتحول إلى شرط أسلوبي. وتحقق (الأدبية) يكون بالضوابط والانضباط، ضوابط اللغة والفن والانضباط الأخلاقي، وإن كانت الفنيات في معزل عن الأخلاق، تمشياً مع التوجيه الرباني {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} فقد سماهم شعراء مع ثبوت الغواية والكذب. وتعويلاً على النماذج تدرج الأدباء في التأصيل لسائر فنون القول التراثية من الانفعالية إلى المفاضلة، ومنها إلى التأصيل. أما في السرديات المعاصرة فالأمر مختلف جداً، لأن القص وصل إلينا من الغرب ناضجاً، ولم تتح لنا فرصة الانفعال والمفاصلة والتأصيل الذاتي، كما لم نأخذ بما لدينا من أحسن القصص، هذه الصيرورة فوتت علينا لذة المبادرة.
وعلى الرغم من أننا كما الطاعم الكاسي، فقد قام الجدل حول هذا اللون الإبداعي المجلوب، ومتى أحس المبدع أن السمة والضابط عائقان للإبداع دخل النقد في تنازلات مخلة بالأهلية. والمشهد النقدي الحديث تنازعته البنيتان: (اللغوية) و (الدلالية) ، ولم تثره (الفنية) بالقدر الكافي. ولقد علت نبرة الجدل حول حرية المبدع ومفهوم الحرية، وألفت كتب كثيرة حول هذا المفهوم المستعصي.
وإشكالية الفن كامنة في التنازع حول مهمته بين الانفعالية والتوصيلية. فهل المبدع مصلح أو ممتع، موصل أو مثير؟ وهل من واجبه أن يفهم ضوابط الفن؟ بمعنى أن يكون على دراية تامة بأصول الفن أو لا يكون. الحق أن على المبدع أن يكون موهوباً بالدرجة الأولى، وأن يتوفر على الدراية والدربة، وأن يمر بتجربة ناضجة، وأن تظله أجواء كافية من الحرية. ولأنه جزء من المجتمع فإن عليه أن يحسن التعامل مع سلطاته الثلاث: الدين، والسياسة، والمجتمع. وفردية الفنان التي يلح عليها البعض، لا تعني تخويله الخروج المؤذي على المسلمات، إنه مطالب بالحفاظ على الفن من أن ينزلق في الفوضوية، ومسؤوليته فنية وأخلاقية، ومتى تعرض الفن للانحطاط أو للنمطية فإن الناقد مسؤول عن إقالة عثرته وذلك بصد المتهافتين، وتعليم الجاهلين، وحماية جناب القيم كافة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل