إخفاقات السرد بين تجريب القص وغياب النقد3 - 3
د. حسن بن فهد الهويمل
لقد تبدت الخلافات العميقة بين النقاد الغربيين حول علم اللغة وعلم الدلالة ومناحي الفن، واقتفى أثرهم كبار النقاد العرب بحيث تلقوا خلافاتهم وأمروها بوعي، أو بدون وعي على إبداعات المبدعين ودراسات الدارسين، الأمر الذي قاد المشهد النقدي إلى فوضوية مكَّنت المبتدئين من استغلال الموقف، والخلط بين القصة والأقصوصة، والرواية والخاطرة والمقالة والسيرة وسائر الفنون السردية.
ومهما عوَّل المنظِّرون على مقولة: إن الرواية عديمة الشكل، فإن المبدع الحق لا ينفك عن سمات الإبداع التي تميِّز الجنس الروائي، ومضمونه وفنياته عن سائر الأجناس السردية والأنواع الشعرية، ذلك أن مجرد القول معطى كل إنسان له لسان وشفتان، أمَّا الإبداع فصعب وطويل سلمه.
إن للقول الإبداعي سردياً كان أو نظمياً نظاماً مضمراً يعيه المبدع، ويتمثَّله دون عناء أو تعمُّل، وله جماليات يختزن مواصفاتها من خلال ما تتداوله المشاهد من نماذج متميزة، لقد تعقَّب النقاد البناء الإيقاعي، ليس فقط ما يتعلَّق منه باللغة، وإنما امتدت الرؤية إلى الإيقاع في بناء الرواية ومعمارها وموضوعاتها وشخصياتها، ونظروا إلى حركة الحدث والزمان والمكان، وإمكانية ضبط حركة ذلك كله.. ولم يكن الإيقاع وقفاً على التكرار كما يراه البعض، ومتى جاء التكرار لأغراض فنية أو نفسية أو فكرية توفرت الدلالة والإيقاع - أي إيقاع الحدث - وإذا اختلف النقاد حول تحديد عناصر الشكل الروائي، فإن هذا لا يخوِّل المبتدئين والمقتدرين العبث الكتابي باسم العمل الروائي، يقول (البحراوي): (وبالرغم من أن معظم النقاد متفقون على وجود شكل روائي ممكن فإنهم غالباً ما يختلفون بشأن أهميته).. ولست مع الذين يحصرون البناء الشكلي بالمكان والزمان والحدث والشخصية، ولا مع الذين يفاوتون بينها بالأهمية.. إن البناء الشكلي منظومة معقَّدة متساوية في الأهمية، وأي خلل بعنصر ينعكس أثره على بقية العناصر، كما يتداعى الجسم بالسهر والحمى لمجرد تعرُّض عضو فيه للمرض، والتجزيئية لا تحقق الشكل المتكامل.
ومسايرة المنظرين والمطبقين تجرنا إلى متاهة المفاهيم واختلاطها، وكل الذي نأخذه على (حداثة الانقطاع) إسقاطها لكل تصور فني سابق، يحيل إلى الأنموذج أو إلى الشرط.. وبذات القدر نأخذ على (جمود التقليد) تكريس النمطية والثبوت.. وبين الانقطاع والنمطية سبيل قاصد متى اهتدينا إليه استطعنا استباق التجديد واستصحاب الضابط.. إن قراءة النص الإبداعي يجب أن تتخذ مسارين: داخلي تفكيكي، وخارجي تصوُّري.
فالنص شكل يستشرفه القارىء من بُعد، فيرى تكوينه اللغوي والشكلي، وجمالياته، والنص بنية زمانية ومكانية وموضوعية وشخصية، ولا يتم اكتشافه إلا من خلال آليات نقدية مزودة بمعارف متعددة، تجلو الأشياء، ثم تقوِّمها.. والنص لا يتوفر على الفائدة والمتعة إلا إذا التزم بقدر كافٍ من الضوابط الفنية واللغوية.. إن هناك بناءً روائياً شمولياً وبناءً داخلياً لكل عنصر، كبناء الأحداث والشخصيات، ثم هناك بنية عميقة وبنية سطحية، تكون العميقة شمولية والسطحية جزئية، وتلك رؤية (توليدية) (تشومسكية).. لقد كانت محاولات التجديد الشكلي الواعي على يد (نجيب محفوظ) الذي جاء معماره الفني المتميز مواكباً لموضوعاته ومستجيباً لها، ولقد جسَّد هذا التميُّز (نبيل راغب) في كتابه (قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ).. ولقد أشرت من قبل إلى أن الحق الإبداعي لا ينتزعه الاختلاف حول البُعد الموضوعي، فالإبداع حق لصاحبه وإن أوغل في العهر والكفر.
والمسألة الأهم يتنازعها الحضور المجامل والغياب السلبي.. وغياب النقد أو حضوره المضلل يكون في المبالغات التي لا تحتمل، والإطلاقات التي لا تحد، فإذا تحدث ناقد عن عمل رضي عن صاحبه أضفى عليه من الثناء ما لا يمكن تصوُّره، وإذا انطلق القارىء من التقريظ إلى النص أصيب بخيبة أمل، وإخفاقات السرد في الخروج المتعمَّد على كل الضوابط الفنية واللغوية والاخلاقية تحت مكاء المضللين وتصديتهم.
ذلك بعض القول عن (الشكل) بكل ما يعج به من تناقضات لا يمكن توقع الجمع بينها.. وعند الحديث عن (المضمون) فحدِّث ولا حرج، لقد ملَّ الروائيون والنقاد المثاليات، وتملق العواطف في قصص المآسي والمغامرات، وأرادوا مواجهة المجتمع بكل ما يعج به من آلام، وما يعانيه من نكسات، فكانت (الواقعية الاجتماعية)، وهي واقعية تقترب من الفضائحية، وقد واكبها في بعض المجتمعات قلق فكري وتمرد سياسي وثورة اجتماعية أعنف من الثورة السياسية، فإذا مرَّت بنا مذابح بشرية اقترفها الثوريون تحت أي مسمى، فليست المذابح الأخلاقية بأقل منها، لقد تسرَّبت من الواقعيات (التسجيلية) بشكل اعتراف ومن (التحليلية) بمقاربة تبريرية.. والاعتراف والتبرير مناقضان للمقتضى الاخلاقي، وليس ذلك من تسجيل ما حدث لأنه حدث، وهو التبرير الذي يعوِّل عليه الخطاؤون غير التوابين، وليس هو كما في القرآن من قصص الأنبياء ك(يوسف) مع امرأة العزيز، و(موسى) مع اللتين سقى لهما، إنه المجاهرة بالإثم.. وفي الحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) وحديث (إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا)، ولن نشير إلى بعض الأعمال الواقعية التسجيلية التي تصوِّر الممارسات الجنسية دون حياء أو خجل، ولك أن تقرأ (الخبز الحافي) أو (وليمة لأعشاب البحر) أو ما شئت من أعمال أخرى أوغلت في الخطيئة.. ولك أن تقرأ (آيات شيطانية) أو (العار لا جا) ل(تسليمة نصرين)، والدراسات التحليلية لمثل هذه الأعمال، للدكتور (إبراهيم عوض) والدكتور (محمد عباس).
ومع تأكد المقترحات فقد ساند النقد هذا العهر بحيث أضافه إلى (صراع الحضارات) ليمنحه شرف المقاومة، تجد طرفاً من ذلك في كتاب (الصراع الحضاري في الرواية العربية رؤية تحليلية نقدية) لدكتور (عبد الفتاح عثمان). والمتابع للمشاهد يقف على إسفاف أخلاقي يصل حد العهر والتهتك، وبه يفقد النص شرف المعنى.. والظاهرة الروائية العربية مدانة بالهبوط المزدوج: هبوط في الأداء، وهبوط في الدلالة، فليس هناك شرف في اللفظ ولا شرف في المعنى، وقد يتوفر المبدع على جماليات فنية ولغوية، ولكنه يخفق في البُعد الدلالي، وذلك ديدن الكبار.. وحين ننحي باللائمة على الظاهرة الروائية، فإننا لا نغمط المستوفين لحقوقهم، الملتزمين بحقوق الآخرين، فحق المبدع في حرية التفكير والرأي والتعبير لا تلغي حق المتلقي في كف الأذى، ولا تخوِّل المبدع الإمعان في العهر والكفر وضرب اللغة والفن، فكل ذلك من الإيذاء الذي لا يحتمل.. ومع التأكيد على احترام القيم والثوابت فإن طائفة من النقاد لا تعرف تلك الحدود، ومن ثم تلزم المبدع ما لا يلزم، وتلك أذية تقع على المبدع، وهي أذية غير مبررة وغير مشروعة.. والمصداقية تتطلَّب الشهادة على النفس والأقربين.
والممتعضون من انهيارات الشكل والمضمون لو ينظرون إلى (لغة النص)، لهالتهم الركاكة والعامية والترهل والتسطح، و(البنيويون) يرون أن النص (لغة)، ومع ذلك لا يأطرون العابثين على لغة الفن، وإنما يسايرونهم باسم (الواقعية اللغوية)، والنظرة المعيارية للغة السرد تقوم على الإنجاز والمجاز والانزياح والخيال والفصاحة والحركة والتشخيص، غير أن المناهج اللغوية الجديدة حين اقتحمت عوالم النقد حوَّلت المفاهيم، وأصبح القول في اللغة وعن اللغة مخالفاً لما سلف، كنا نسمع بالتعبيرية والتصويرية، وكانت مفاهيم ذلك متفاوتة، واليوم بدأ الحديث عن الكلمة الشعرية، وعن دورها الجمالي، أو التوصيلي الحيادي، والمعذرون لوسطية اللغة الروائية يركنون إلى التنوع النمطي والصوتي نظراً لتعدد الشخصيات والمستويات.
وفي هذا الإطار نظر النقاد إلى اللغة بوصفها ظاهرة مستقلة تملك خصوصيتها، أو بوصفها وسيلة يحكمها النوع وتشكِّلها الغاية، فهناك وحدة أسلوبية ووحدة لغوية.. وإذا سلَّمنا بأن هناك وحدة نظام، يجب على كل مبدع أن يحترمها في القول والإبداع، فإن هناك لغة شاعرة وخصوصية ذاتية على حد (الرجل هو الأسلوب)، وإذا كانت للسرديات الإبداعية لغة معينة فإنها لا تتعارض مع وحدة النظام ولا مع لغة المبدع، والمبدع الواعي للغته وفنه يوائم بين التصوير والتعبير والتوتير، ويتقن اللحظة الحرجة الفاصلة بين الحكي الشفوي العامي والإبداع السردي.
لقد فرَّق (ميخائيل باختين) بين (غير الفني) و(شبه الفني) و(الفني) وجعل الفني متمثِّلاً للكلمة الشعرية، ومثلما اختلف النقاد حول (الشكل) اختلفوا حول اللغة، فبعض النقاد يرى أن الرواية شكل مختلط تلفيقي، أو هو تشكُّل هجين، وآخرون يؤكدون على الفروق وخصوصية اللغة.. والروائيون المخفقون لغوياً ليسوا على وعي بالجدل الدائر حول اللغة والأسلوب، ولغة إبداعهم مرتبطة بإمكانياتهم، بمعنى أنهم يجسِّدون قدراتهم، ولا يحققون مذهبهم اللغوي، وإمكانياتهم المتواضعة توحي بالضعف والجهل: ضعف المحصول اللغوي، والجهل بنظام اللغة النحوي والصرفي، مع العجز عن التوفر على جماليات اللغة، والأعمال الروائية لا تكاد تجد فيها ما يشدك بأسلوبه على حد: (الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة).
لقد عوَّل العابثون باللغة، والعاجزون عن تطويعها على دعوى (النص المغلق)، والذي يعني في هذا المجال ارتباط اللغة والأسلوب بالعمل الأدبي الذي يمتلك الاكتفاء بذاته، والانكفاء على ذاته، وحقه في تشكيل نظامه اللغوي، بحيث لا تفرض عليه شروط مسبقة أو خارج ذاته.. وأحسب أن (البنيويين) انطلقوا من واقعية اللغة، وعوَّلوا عليها، وهم قد ربطوا اللغة بالمتكلم من حيث هو إنسان مغاير، فالمتكلم صاحب رؤية وموقف وقدرة ومستوى اجتماعي، وهو قد يكون في إطار (الثقافة الشعبية) بإزاء (الثقافة العالمة) كما تقول (يمنى العيد)، وكلمة الإنسان بهذا التفاوت معبِّرة عنه أولاً، وعن دلالتها ثانياً، إنها تصوِّر الإنسان، وبقدر ما يكون الإنسان تكون الكلمة، هذه الكينونة أبعدت الكلمة عن خصوصيتها، وربطتها بخصوصية الإنسان.. وانجراف الكاتب مع القول بأن اللغة مادة التفكير والكلام في آن، واضطرابه في فهم ذلك، وبخاصة حين يكون الحديث في المجال الأخلاقي أو الديني، أدى إلى مزيد من التبرير والتغرير، وهو في الحالين مكتنف بالاعتراف السلوكي أو التصور العقدي، وحين لا يحكم أمره يُلقيه الاضطراب في مكان سحيق.
وإشكالية اللغة من حيث نظامها وقوة أدائها تزداد تعقيداً، كلما أمعن الأسلوبيون المحدثون في التعامل معها، ذلك أنهم يستبعدون الحق الإلهي، ويتداولون الضوابط والأنظمة، وإشكالية الدال والمدلول والشكل متنامية في ظل تغييب الضوابط والمرجعية وشرعنة الحرية والتجريب وفق مفاهيم لا تقبل بالحد ولا بالضابط، كل هذه تعمِّق الخلاف، وتعرِّض الإبداع السردي إلى انهيارات مخيفة، ومهمة النقد ووظيفته في هذه الظروف تفهُّم القضايا والظواهر واستكناه المشاكل، والوقوف على الأسباب والدواعي، والبدء في رحلة العودة إلى جادة الصواب، فما عاد بالإمكان احتمال مزيد من الإخفاقات.. وإذا كنا نرى أعمالاً متفوِّقة، ومبدعين متألقين من شباب وكهول، فإن ذلك الحضور المشرف لا يشفع للإخفاقات الواضحة، ومن قدَّم هذه النماذج النادرة لإسقاط الدعوى فقد ضلَّ سواء السبيل.
إننا لكي نوقف الزحف نحو الهاوية فإن علينا أن نبحث عن المبدع الموهوب الذي تعهَّد موهبته بالدربة والدراية، ومكَّن الموقف من النضوج، وأن نبحث عن الناقد الملم بكل قواعد الفن، والمستوعب لكل نماذجه، والمسيطر على مناهج النقد الحديث وآلياته، وتحوُّلات الفن ومقوماته، وضوابط اللغة وانزياحاتها، وعلينا قبل ذلك وبعده أن نحترم المصداقية وألا نقول إلا الحق، ومن أمن المتابعة جاء بالعجائب.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|