مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:11 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات..!« 1 - 2»
د.حسن بن فهد الهويمل


ما من مخاضات فكرية أو سياسية أو اقتصادية، إلا وتسبقها موجات من الآراء وزخات من التخرصات. وما الرعد والبرق إلا مبشرات أو محذرات. فقد يتحول الرعد إلى صواعق، وقد يخطف البرق أبصار المشرئبين. والمصيخون للشائعات، والمستطلعون للرأي العام، تتفرق بهم بنيات الطريق. وكم من قرارات مصيرية استعان متخذوها على قضائها بالكتمان، ولكن الذين يدركون ليلهم يسبقون إلى التنبؤ بها، قبل أن ترى النور. وكل معني بالشأن المحلي، يتيح لنفسه فرصة للفرضيات، ومجالاً للخطرات، وقد يبني من الأماني قصوراً، ثم يهدمها النهار. وقد تعلو موجات الآراء، وتنهمر زخات التعليقات بعد أن تضحى القرارات. وليس بمستبعد أن تكون الشائعات كما الحشرات النافعة التي تخصب لمواجهة الحشرات الضارة، وتوظيف الشائعة لاستطلاع الرأي العام بعض الأساليب الرصدية الحكيمة للتعديل أو للتبديل أو للإلغاء (ويأتيك بالأخبار من لم تزود). وما أضر بالأمة إلا الصمت السلبي، أو الرغاء الرخيص. وإذ يكون المواطن هو المستهدف بهذه المخاضات فإن من حقه أن يقول، ومن واجب المسؤول أن يسمع، ومن مصلحة البلاد والعباد الالتقاء على كلمة سواء.
والراصد للمخاضات الحاضر منها والباد، يرى أن البلاد قد مرت بتجارب متعددة، أفرزتها خطط التنمية التي سبقت ظلها، وخلفت انفجارات: تعليمية وسكانية وزراعية وعمرانية، لم تستوعبها شرائح المجتمع. وتفرقت بالناس الطرق، حتى لم يجد أحدٌ فضلة من جهد أو وقت، ليقول في الشأن العام كلمة عابرة، فالناس كلهم في شغل شاغلون. وكل من فتح فمه أو أطلق يده أو ركض برجله عاد بالخير العميم. ففي ذلك الزمن العجيب شرَّعت الدولة أبواب خزائنها عبر البنوك: العقارية والصناعية والاستثمارية، وأطلقت الأيدي في الإنفاق، واعتمدت كل ما بلغها من مشاريع، وواكب ذلك ازدياد في أسعار النفط وانفلات في إنتاجه. وفي تلك الأجواء المحمومة اندلقت أقتاب المشاريع في الوهاد والنجاد، حتى كادت تلد الأمة ربتها، ويتطاول الناس في البنيان. ولما كان التمام مؤذناً بالنقص على حد: (توقع زوالاً إذا قيل تم) أخذت بعض المشاريع بالتراجع، وذلك بعدما تبين للمسؤولين ضعف العائد، وتضخم الإنفاق، وهشاشة التأسيس. ومن تحت أنقاض التراجع المرتبك نسلت ظواهر الإفلاس والبطالة والعمالة السائبة، وانكمش كل شيء، وعاد النهمون إلى الاجترار. وفي ظل تلك الظروف أدرك الناس أنهم مضوا في التوسع بغير حساب. وما عاد أحد يحتمل تبعات هذا الاندفاع، ولا مصميات هذا التراجع، وفي هذا الوضع غير الطبيعي احتنك الناس الإحباطُ والخوف والترقب، فكانت النجاة بالأبدان دون ما تفرق من آليات وأصول عينية كالآبار والمعدات وأطلال المشاريع، ومهما تفرقت بنا طرق القول فإننا كسبنا التجربة، وخسرنا التمسك بما أنجز.
والخطأ المقدور على محاصرته، وحسر آثاره، ناتج طبعي للعمل، وإن كان كل مسؤول بما كسب رهين، إلا أن الخطيئة ألا نكترث مما بدر، أو حين تتكرر الاندفاعات والتراجعات دون مساءلة أو حساب، أو حين يستفحل الخطأ ويتجذر ويبقى كل نازح على بئره، أو حين تكون ردة الفعل مضرة بثروة الأمة وإنسانها. والأعمق استياء حين يمتعض المتصرفون بالشؤون من المساءلة، ويضيقون ذرعاً من تحسس الناس عن مصالحهم ومصائرهم وماذا يراد بهم ولهم. والمؤكد أنه قد مس الجميع طائف من مثل هذه الإخفاقات غير المقصودة، وبدت أطلال المعدات الزراعية خاوية، تتآكل مع الزمن، مؤكدة خطأ التجربة، قبل أن تعفيها الروامس والسماء، وأخشى أن نكون رهينة لتتابع الأخطاء المتشابهة. وهل تنتفع أمة من تجاربها إذا لم تكن أخطاؤها العارضة مواعظ تقيها الوقوع بمثلها.
ولما كانت التجارة حرة، والسيولة النقدية متدفقة، فقد تدافع الناس وراء المساهمات والأسهم، ولم يأتل أولو الفضل والسعة في محاصرة التصحر، وجاء الدعم بالقروض مغرياً لكل من نكب عن ذكر العواقب جانباً. لقد أغرت الدولة بعطائها السخي من لا يقدر على تصريف شأنه العادي، فيتحول بقدرة قادر إلى رجل أعمال تتخطفه الشركات والوكالات، ولم يلبث أن ثوى مع معداته، يعوزه قوت يومه وليلته، تخيفه الديون، وتمضه الهموم. والسنبلة والنخلة والأسهم والمساهمات وسائر المؤسسات والمضاربات حين لا تحكمها الأنظمة وتسددها المراقبة ويتداولها المسؤولون العليمون الأمناء الأقوياء، تكون عرضة للفشل. ومكمن الخطورة حين ترتبط المشاريع بالثروات القومية ك(الماء) و(الطاقة)، وبخاصة بعد ما أصبح (الماء) مشكلة عالمية، لا ينفك الإعلام العالمي من تداولها، وتكريس الخوف من الشح أو النضوب ومن (حروب المياه). وما اختلفت الدول النامية إلا من بعد ما أحكم المتسلطون الكبار لعبة الهلع والفزع من النضوب، الأمر الذي حفز الوجلين على تصعيد المراجعات من الجدل إلى الصراع والصدام حول حقوقهم من المياه المشتركة والأنهار العابرة، لقد ثارت قضايا السدود والتحويل التعسفي لمجاري الأنهار، واستنزاف المياه الجوفية، وتبع ذلك سيل من الدراسات والمؤتمرات والكتب. وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والتآمر لم يعد الماء قضية محلية، كما لم يعد قضية علمية، وإنما أصبح لعبة سياسية، تقف جنباً إلى جنب مع (السامية) و(سلاح الدمار الشامل) و(تخصيب الأورانيوم) وتصدير (المبادئ) و(الديمقراطيات). لقد أقبل الناس على هذه اللعب وقبلوها، ودخلوا فيها أفواجاً، والتقى المسلمان بسيفيهما أو كادا.
وفي الشأن المحلي، فإن هواجس الخيفة تلوح من خلال التكاثر في الغرس والتفاخر فيه، واللغط المعاد حول (الماء) و(النخلة) وتقصي ما تستهلكه التمرة من الماء لتصل إلى فم المستهلك، وما يتطلبه كوب اللبن من كميات المياه ليستقر على المائدة. وإذ نكون مع الترشيد والتوعية، ومع تطوير أساليب الري فإننا ضد التصحر والاستيراد. إننا بحاجة إلى خطاب متوازن يحفظ (الماء) ويحقق الاكتفاء. والتكاثر واللغط يمهد بهما المكاثرون والخراصون لبوادر التولي من الزحف. وما ينجي الأمة من تكرار العشرات، واستنزاف المياه، وإضاعة الأموال إلا مواجهة الذات بكل ما لها وما عليها، وتجافي التبرير والتعذير وتزكية النفس، وتبادل أنخاب الثناء. فالتكاثر غير المحسوب، كالتخوف غير المبرر.
ومما تطمئن إليه نفوس الذين شقوا في الشأن الوطني أن المسؤولين عن (الماء) و(الزراعة) ومتعلقاتهما مخلصون وصادقون. نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً. والصدق والإخلاص لا يعصمان من الوقوع في الخطأ، والوقوع فيه لا يقدح بالأمانة ولا بالمصداقية، ولكنه يشكك في القدرة على الحسم الإيجابي، ويستدعي الإيقاف والمساءلة، ومن أنيطت به مسؤولية وطنية مصيرية، فإن عليه أن يهيئ نفسه ويوطنها على تقبل ما يقال من نقد أو مساءلة، متى كان القصد منهما التوعية والتصحيح، والمعالجة والتسديد. فالخطأ أو التقصير عرض مرضي، والدواء ليس شراباً سائغاً، وإذاً لا بد في تجرعه من تحمل المذاق العلقمي. والاندفاع غير المحسوب في الأداء والدعم يستتبع تراجعاً سلبياً، وعلى مدرجة الذهاب والإياب تتساقط ثروة البلاد، وتخور عزمات أهل الدثور، وتضعف القوى، وتنعدم الثقة، وتعود الأمة إلى تصحرها، تأكل مما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج، وأضعف الإيمان تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما هو مقدور عليه. ولما لم يكن أصحاب الدثور ممن كانت لهم يد في الزراعة إبان الاندفاع غير المحسوب من القاعدين عن المكارم، فقد تدارك بعضهم الأمر بعد التراجع في زراعة القمح، وتوجه إلى غرس (النخيل) و(الزيتون) و(الأعناب) والتوسع في الفسائل إلى حد يقترب من الاندفاع الأول. وحين توضع العقبات في طريق المتحرفين للعمل أو المتحيزين لقطاع الزراعة، ينفض سامرهم، لتتحول الفسائل إلى أعجاز نخل خاوية، ثم تكون النكسة الثانية أدهى من الأولى وأمر. وغياب المسؤول أو حضوره السلبي سيان، فلا خير في غفلة تستفحل في ظلها الفوضى، ولا خير في حضور تغل فيه الأيدي، وتكثر فيه العقبات، كغلاء الأسمدة والمبيدات والطاقة وسائر المعدات.
والإشكالية ليست في فشل المشاريع الزراعية، وإنما هي في عقابيل الفشل، وبخاصة ما ستواجهه الطبقة الزراعية، التي اعتمدت في دخولها على الزراعة، وفي العمالة التي نهضت بها. ففي كل إقدام تتشكل الشرائح المهنية، وفي كل إدبار ينفرط عقدها، ثم تترك في العراء، لتأخذ طريقها مع من تعول إلى مدن مكتظة بالعمالة الرخيصة. ومع التحفظ على المواجهة نتحفظ على الاندفاع، و(مشاريع النخيل) كادت تقتفي أثر السنابل، وقد تواجه ذات المصير الذي واجهته زراعة القمح والشعير، والخطأ سيكرر نفسه في ظل غفلة مألوفة. وأحسب أن الطامة الكبرى حين تبدأ هذه المشاريع العملاقة بالإنتاج، وتكون من الغزارة والرداءة النوعية وبدائية التخزين، بحيث لا تستوعبها الأسواق المحلية، ولا تقبلها الأسواق العالمية، وحينئذ يصاب المزارعون بإحباط الكساد، مضافا إلى إحباط التخلي والتخذيل وارتفاع نسبة التكاليف. وقد لا يجد المزارعون وأصحاب المشاريع إذ ذاك بدا من التخلي الاضطراري عن مزارعهم ومشاريعهم التي أنفقوا عليها الأموال الطائلة، واعتمدوا عليها في معائشهم. والتولي سيسهم في ارتفاع البطالة والفقر والديون والمنازعات، ويفرض إشكاليات غير مقدور على احتوائها. وهذا الوضع مؤذن بخلل اقتصادي، يستتبع خللا سكانيا وأمنيا، ويفرض على الدولة التزامات مالية، لو أنفقتها في دعم تلك المشاريع، لسارت الأمور على ما يرام. وأحسب أن مرد ذلك كله ممارسة الفوضى باسم الحرية التجارية، وتحامي الدولة إرسال عينها ووضع يدها. وكم نسمع بين الحين والآخر على المستوى العالمي من يطالب بتدخل الدول في الأسواق لحفظ العمالة والأثرياء والمستهلكين وإقرار التوازن بين أطراف العمليات التجارية. فالحرية التجارية غير المنضبطة مدعاة إلى فساد كبير، ولو استعرضنا مشاكل الإفلاس، وصكوك الإعسار، والتحايل، ومضاربات الأسهم، ومساهمات العقار، والشيكات بدون أرصدة، والتزييف والتزوير، وما تلاقيه المحاكم والغرف التجارية، وما تفيض به السجون، لكان أن عرفنا أن الحرية الفوضوية أسوأ من الضوابط التعسفية، وطفرة الأسهم والمساهمات والتبذير المحموم في الدعاية مؤشر انكشاف وانحسار وبوار، فعلى حساب من تنفق الملايين للدعاية، وعلى من تقع مسؤولية الكشف عن مصداقيتها. وإذا كان القانون لا يحمي المغفلين فإن السلطة المتوازنة مسؤولة عن حماية المخدوعين بالدعاية.
وكل عمل لا تحكمه ضوابط وأنظمة ورقابة صارمة وتخطيط مستقبلي، ولا يراعى فيه حجم الإنتاج ولا طرائق التخزين والتصنيع والتسويق، يكون مآله الفشل، وما من مضاربات تجارية مرتجلة إلا ويكون أصحابها على كف عفريت، وما تحققه تلك الاضطرابات من مكتسبات غير مشروعة لا يعول عليها، ودروس الطفرة أعطتنا شواهد، لو وعيناها، لكنَّا أقرب إلى السلامة. ولما لم يكن الناس مطمئنين على سلامة المضاربات، فقد أصبح العقار هو الملاذ الآمن، ولكن قفزاته غير الطبيعية، جعلته معرَّضاً لنكسات موجعة. وليست مضاربات الأسهم عن ذلك ببعيدة. وكلُّ الخبراء والمحللين لا يثقون بهذا التضخم، ولا بتلك الزيادات غير المبررة وغير المشروعة. ودخول المضاربين غير المؤتمنين وغير المجربين، ستكون له عواقب سيئة، ولقد مس الزراعة طائف من الجهل والمغامرة.
ومن الخير للدولة، ولرجال الأعمال، ولصغار المضاربين والمساهمين والمندفعين وراء المشاريع أياً كان نوعها أن يفكروا، وأن يقدروا، وأن يقيسوا أمورهم قبل أن يجدوا ما وفروه من قوت يومهم هباءً منثوراً، ويجدوا المضاربين بأموالهم قد تنازعهم الفقر المدقع والديون المذلة، وتلقتهم مكاتب الشرطة والمحاكم والسجون. والمآلات التي قد لا يلتفت إليها المسؤول أن شطراً من هذه الانكسارات تتحمله خزينة الدولة، ويغالبه موظفوها، وينعكس أثره السيئ على أخلاقيات الأمة. لقد تحدث الناس عن معوقات الاستثمار التي نيفت على المائة، وسرهم ما تعهد به المسؤولون من وعد جازم لإزالتها، وتلك المعوقات (البيروقراطية) لم تحد من الفوضى، ولم تقمع المغامرات، وهذا مؤشر على حضور غير فاعل وغير سديد.
وحين نخوف ونحذر وننحي باللائمة على ضعف المتابعة وجماح المغامرين، فإننا لا نغمط ومضات مضيئة في سياق ذلك كله، ولا ننسى كفاءات متميزة، وظفت جهدها ومالها وخبراتها في سبيل الصناعة والزراعة، فكان حضورها مشرفاً ومفيداً، ولكن العتب كله والمؤاخذة جلها على نقص القادرين على التمام.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل