الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات!
د. حسن بن فهد الهويمل
وحين نتجه بالحديث صوب التوسع المشهود في غرس (الفسائل) وتخويف المسؤول عن عقابيل الاندفاع غير المحسوب، وتلويحه بالحد من الإسراف في الغرس الذي يعد من ركائز الأمن الغذائي، بحجة المحافظة على المياه الجوفية، نجد أن التخويف من الجفاف والتصحر حين يبلغ ذروته، يضع الأمة تحت طائلة الخوف المبالغ فيه، وقد يعرضها لتراجع غير منظم، ربما يستتبع نكسات ما كان لها أن تكون في ظل ظروف مواتية وكنت أود من جهات الاختصاص أن يوجهوا شطراً من جهدهم إلى دراسة أساليب الري، والبدء من حيث انتهى الآخرون، وذلك بتقصي التجارب المحلية والعالمية، والتوفر على كل الدراسات، وخاصة ما أنجزه (البنك الدولي) و(معهد الموارد العالمية)، والعمل على إشاعة أحسنها في الوسط الزراعي، للتمكين من ثقافة زراعية، يفقدها كل المزارعين. ولما لم نكن من دعاة التلقي والقبول الفوري فإننا نود النظر في مدى علمية كل طرح، ومعقوليته، ومناسبته لأوضاع البلاد التي لها شيء من الخصوصية، وتثمين تجارب المشاريع الزراعية المحلية، وبالذات تجارب المتحملين لتبعات الفشل، والمصرين على التنقيب عن كل مفيد، ودعم الآخذين بها، وتمكين المزارعين من استعمالها، لتكون بديلاً لطريقتي الغمر الموحل أو الرش المبخر، كما يجب أن يفرق المسؤول بين المياه السطحية والعميقة في رصد النضوب أو الانخفاض، فالمجربون يؤكدون غزارة المياه الجوفية في بعض المناطق وسرعتها في استعادة وضعها وثباتها وتجددها في بعض المواقع والجهات المسؤولة لن تكون قادرة على بعث الثقة والاطمئنان في نفوس المواطنين الذين يجتاحهم هاجس الخوف من شبح النضوب الذي يشيعه الأباعد ويلوح به الأقارب إلا إذا توفرت على مراكز معلومات وفرق تحليل وتصنيف لما يرد من آفاق المعمورة ومن الداخل. ومن خاف من وقوع شيء لم يقع، تعجل الشيء قبل أوانه.
والمجربون يعرفون القدر المعقول من الاحتياط، فلا يجوز أن يصل حد الحرمان. ذلك أن القيم السلوكية حين لا تتوفر على الوسطية والتوازن تقع في المحذور، ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.
فالوسطية هي القوام المأمور به، والمطلوب في كل شيء، حتى في العبادة، ولهذا نهي عن الغلو، وذم المنبت. ولقد جاء في الأثر ضرورة الاقتصاد في الوضوء، ولو كان أحدنا على نهر جار، ولا أحسب التوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات الغذائية مضر بالثروة المائية، فنحن مطالبون على الأقل بالتوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات، كالغذاء ومتعلقاته كالأعلاف، وبخاصة الشعير وسائر المطالب الضرورية للحياة الكريمة. ومن أهم الأساسيات: الحبوب والتمور، ولا سيما أن القمح مسيس، وله تأثيره على القرارات المصيرية في الدولة التي تعتمد على الاستيراد أو المساعدات. وسبيل الاكتفاء القاصد أن تكون عندنا مدن صناعية لكافة الصناعات الخفيفة، وبالذات الوسائل الزراعية، ومشاريع زراعية تنهض بها الشركات والجمعيات ورجال الأعمال، كي توفر الأمن الغذائي، وتستوعب الأيدي العاملة من المواطنين الذين إن لم تتح لهم مجالات العمل، اقتحموا المدن بحثاً عن عمل غير متوفر، وعندئذ تمنى الدولة بظواهر البطالة والفقر، وهما مصدر كل شر.
والمتابع للوقوعات، يدرك ارتفاع نسبة الجرائم بشكل غير طبيعي وغير متوقع، مع ما تتمتع به البلاد من قوة في الحق، وارتفاع في الدخول. وإشكالية البلاد التي لا يغمض فيها إلا القاعدون إنها دولة الشباب الذين تفيض بهم المدارس والجامعات وأسواق العمل، وتضايقهم العمالة السائبة الرخيصة، ولا يمكن استيعاب هذه النسب العالية إلا في قطاع الزراعة والصناعة، فإن لم يكن القطاعان في مستوى نسبة الشباب والعمالة، ارتدت الطاقات المهدرة إلى أمن البلاد واستقراره. وتشجيع الصناعة والزراعة وحمايتهما ودعمهما، ليست فقط للتوفر على الغذاء والكساء والآلة وحسب، وإنما هو أيضاً لاستيعاب القادرين على العمل من الشباب الذين يجدون أنفسهم في الحقل والمصنع، ومن الحصافة الإبقاء على هذه الشرائح في مواقعها المناسبة لها. وحين لا يكون حقل ولا مصنع تستفحل الهجرة إلى المدن، فيقضى على الريف، وتختنق المدن، وتضطر الدولة إلى معالجة البطالة ببطالة مقنعة، وليس هناك أخطر من اضطراب التركيبة السكانية. وإذا استفحلت البطالة بشقيها: المكشوفة والمقنعة، تحولت مؤسسات الدولة إلى مكاتب للضمان الاجتماعي. ومواجهة البطالة بأسلوب اتكالي، يضيع الطاقات، ويحرم البلاد منها. ودعم الزراعة بالقروض والمساعدات والشراء التشجيعي والتسهيلات، يحول دون الهجرة، ويحمي المجتمع الزراعي من الانقراض، ويخفف الأعباء على المدن المختنقة.
ولأن المملكة مترامية الأطراف، طويلة الحدود مختلفة الأجواء والتكوينات الجغرافية، فإنه من الضروري استغلال الحدود الجغرافية بالمشاريع الزراعية العملاقة وبخاصة (البسيطاء) في منطقة الجوف، وربط الشركات الزراعية بأجهزة حكومية شورية إشرافية داعمة: مادياً وفنياً، ويكون من بعض مهماتها تحديد الأنواع والمقادير المنتجة، بحيث لا يتجاوز الإنتاج طلب السوق، ومراوحة الاستيراد بين أنواع الفواكه والخضراوات، وعند الاستيراد يجب تحديد الأنواع المنتجة محلياً للحيلولة دون المنافسة غير المتكافئة، فيمنع استيراد المسموح بزراعته، وتمنع زراعة المسموح باستيراده.
وفي ظل هذه الظروف المضطربة عالمياً ونزوع العالم إلى التكتلات الاقتصادية والاستعداد الهيكلي والإجرائي (للعولمة) وشروط الدخول في المنظمات العالمية واختراقات الشركات العالمية، وتسييس كل شيء، لا بد من دعم المزارعين من خلال التسهيلات، وتوظيف الخبرات، وضمان استقرار الأسعار لكافة احتياجات المزارع من بذور وأسمدة وآلات وطاقة. وقبل هذا وبعده لا بد من إنقاذ المزارعين من السماسرة الجشعين، ومن فوضى الإنتاج، وعشوائية التسويق ومزاحمة الاستيراد. وسبيل ذلك إنشاء شركات استقبال وحفظ وتعبئة وتسويق، والرصد الدقيق للطاقة الاستيعابية، وتوجيه المزارعين إلى ذلك، فلا يترك التحري للمزارع. ولو ضربنا مثلاً ب(الطماطم) و(البطاطس) و(البصل) وهي السلع الرئيسة لتبدت لنا فوضوية الإنتاج والأسعار، فتارة تصاب تلك الأنواع بالكساد، فتترك لتذوي في منابتها، وتارة تشح حتى يتطلع المواطن إلى المعلبات أو الاستيراد، والمزارع والمواطن متضرران في الحالين. وإذا لزم تنظيم الإنتاج لزم كذلك تنظيم الاستيراد، فلا يفاجأ المزارع بمنافسة غير متكافئة، والواجب حفظ كافة الحقوق للمواطن بوصفه مستهلكاً وللمزارع بوصفه منتجاً، ولثروات الوطن بوصفها مستنزفة.
والتباكي على نضوب المياه الجوفية يقمع السواعد القوية، ويطفئ نصاعة الجباه السمراء المتفصدة عرقاً في وهج الظهيرة، وهي تنسج حلة الصحراء بجنات معروشات وغير معروشات والنخل والرمان مختلفاً ألوانه وأكله، وتدعها تقلب أيديها على ما أنفقت فيها، وتنظر إليها، وهي خاوية على عروشها، وعندئذ نكون كمن يداوي بالتي كانت هي الداء. إن ما يفعله البعض من التخويف إجهاض جنائي لأجنة العطاء، ودحو فضولي فهواجس الخوف من أشباح المستقبل، وإنما ذلكم كله أو بعضه من تخويف أعداء الأمة، كما الشيطان يخوف أولياءه. وزيادة الإشفاق والحرص على ثروات الأمة قد يدخل مرحلة التوجس والخوف غير المشروعين، وهناك ينقلب الأمر إلى ضده. ولسنا نشك أن القول في الغزارة كما القول في الشح وخوف النضوب. إنها رهانات يلز فيها العقلانيون والعاطفيون، وما من إثارة تحسم الخلاف، وتقر في جوف الأرض ما فيها. والمتخوفون يحيلون إلى محدودية المصادر، وانعدام مصبات الأنهار ومنابعها، وشح الأمطار، والإسراف في الاستنزاف. وإذا كان الفرقاء مجربون ودارسون يختصمون حول مسلماتهم، فإن من المصلحة أن يلتقوا وجهاً لوجه، ليطرح كل طرف حيثياته، والمواطن يسمع إلى براهين كل فريق، ويقرر مصيره على علم وبصيرة. واللقاء الذي أجري مع رجل الأعمال الشيخ (سليمان الراجحي) في (جامعة الملك سعود) مساء يوم الثلاثاء 13-1- 1426هـ أسلوب جميل وحضاري، ولا شك أنه وضع أقل النقاط على بعض الحروف، وزيارة معالي وزير المياه والكهرباء لمشروع الجوف ربما أنها مكنته من الوقوف المباشر على بعض الظواهر السارة. فما أحوجنا إلى المكاشفة والشفافية وكسر الحواجز وخلطة الآراء وتظافرها، لمعجمة كل الحروف. ومن الخير للبلاد والعباد أن تنهض وزارات: الزراعة والتجارة والمياه والصناعة والعمل لرسم (استراتيجية) موحدة شاملة تضع في اعتبارها التوعية والترشيد وإيجاد فرص العمل وحماية الأموال التائهة بين الأسهم والمساهمات، وأن تتخلى عن تجاذب الرداء الذي يحمل القضية، ثم لا تتمكن من النهوض بها إلى مكانها. إن الراصد للحراك يروعه اختلاف وجهات النظر، وتفاوت مستوى الحماس، وعدم إيمان المواطن بخطاب المؤسسات، وتصرفه بمعزل عن كل ضابط أو نظام.
ولأن قضاءنا وقدرنا الأزليين التصحر والجفاف والحرارة فإن رهاننا على (النخلة)، وعلينا أن نتميز في تجويد المهنة، وحماية الإنتاج، والتأكيد على الفنادق والمطاعم ومقاصف المدارس تقديم التمر غذاء وحلاوة، كما تفعل الخطوط السعودية. لقد تجسدت أهمية الفسائل في حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غرسها في أحلك الظروف، ولا أحسب ظرفاً عصيباً يبلغ فجيعة قيام الساعة، فعندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، في هذه اللحظات المذهلة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها). والمعروف أن هذه اللحظة فوق التفكير وفوق التقدير، ومع ذلك نبه الرسول الرؤوف الرحيم بأمته إلى أهمية الأمن الغذائي. وإذا كانت (إسرائيل) في سباق مع الزراعة والصناعة، وما أحد خوفها من نضوب الماء، فإننا في المقابل نجد من يوجف بلسانه وقلمه، ويلوح بمسؤوليته، ليضع العصي في عجلات الزحف السليم. والغرب الذي يخوف من نضوب الماء، ويدس أنفه في خصوصيات الشعوب، يغري الدول النفطية على مزيد من الإنتاج، بل يمارس الضغط لرفع الإنتاج، وما سمعناه يوماً يحذر من نضوب البترول، ولأنه لم يقل في الشأن النفطي شيئاً فإن متلقي الأقاويل يلزمون الصمت، لأن القول ما قالت حذام.
وفي سياق أهمية (النخلة) فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم عشرين مرة جلها في التذكير بالقدرة والنعمة والجمال والأمن الغذائي، وما من جنة أو حديقة إلا وهي محفوفة بالنخل، وكيف يسوغ لبعضنا أن يلقي في روعنا الخوف من تكاليف النخلة، والشح عليها في منابتها. إنها شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولو أن (البلديات) اعتمدت النخلة والزيتونة في الحدائق والشوارع، لكان أن جمعت بين الجمال والمنفعة، وتخلصت من شجر يؤذي بخريفه ولقاحه وشوكه. ولكي نجسد الخسارة الفادحة فإن علينا أن نسأل: كم شجرة زينة في مدن المملكة؟ وكم ينفق عليها من مال وماء؟ وما الذي يضير لو أن هذه الأشجار التي تعد بمئات الآلاف بل بالملايين كانت من النخل والزيتون؟ وما الذي يضير لو أن هذه الحدائق والأشجار سقيت من آبار سطحية ومن مياه معالجة؟ وما الذي يضير لو أن البيوت مكنت من استعمال نوعين من المياه: مياه للطهو والشرب وأخرى للغسيل والسقي والطرد، أليس ذلك من الفرائض الغائبة؟ لماذا يشتغل المسؤولون بالتخويف السلبي؟ أليس من الأجدى أن نوعي الجاهلين، وأن نستبق كل جديد في عالم الزراعة والمياه؟ وحملة التوعية التي تقودها وزارة المياه والكهرباء بادرة طيبة، ولكنها تأتي على استحياء.
وعوداً إلى أهمية (النخلة) في بلد واسع المساحة شحيح المياه نقول:
إذا كانت المجاعة تهدد العالم، وتطل بشبحها المخيف على ملايين البشر فإن من بيده سبع تمرات لا يُخشى عليه الهلاك. ولقد مرت الأيام وما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأسودان: التمر والماء، وما شبع أهل بيته تمراً إلا حين فتحت (خيبر). لقد كانت النخلة أولى ركائز الاستقرار الاقتصادي، لطول عمرها، وقلة مؤونتها، وثبات أصلها، وحلاوة ثمرها، واحتوائه على مركبات رئيسة في الغذاء الصحي، وتحمله كل الأجواء، وطول صلاحيته. وإذا كانت الطفرة قد عدت بأيدينا وأعيننا عنها، فإن الزمن كفيل بإعادتنا إليها، وحين نعود، وقد ضيقنا عليها الخناق، ورضينا بالتصحر، لن نجد إلا التراب نسفه، كما المل.
فهل يعيد المشفقون حساباتهم، وينظرون إلى الغد المخيف؟
لقد آن لنا أن نحسم أمرنا، وأن نحاصر الفوضى والارتجال، فالعصر عصر العلم والمؤسسات والتخصصات، والتوقيت والتقدير وقبول النقد والتوجيه والشفافية والمساءلة واستشراف المستقبل. ومن بطأت به غفلته واتكاليته لم يسرع به تبذيره. لنكن في مستوى مرحلتنا معرفة وثقة وحسن أداء. لقد بدأت فكرة الغرس، وفسيلة السكري تباع بثلاثة آلاف ريال، وبعد التوسع أصبحت الفسيلة بمئتي ريال، وفي ظل هذا التوسع يجب أن يضع المسؤول يده لا للمنع ولكن للترشيد والدعم وتهيئة الأساليب المفيدة للري والمعالجة والإصلاح والتسويق والتخزين والتعبئة، وتعويد الناشئة على استعمال التمر كمادة غذائية.
وإذ لا نشك أن ثروة البلاد المائية تقوم على مصادر غير مأمونة وغير متيقنة وغير منضبطة، فهي إما جوفية لا نعلم حجمها إلا من خلال تحريات العلماء أو من خلال التجربة غير المعتمدة عند ذوي الشأن، أو هي مستمدة من الأمطار الموسمية غير المضمونة. يضاف إلى هذين المصدرين التقليديين مصدران مكلفان: (التحلية) و(المعالجة)، وهذه المصادر تقوم إلى جانبها معوقات، تتمثل بالجفاف والحرارة وضعف التعويض الجوفي. ومن عيوب البلاد وأهلها أنهم الأكثر استهلاكاً، والأكثر تحلية، والأرفع تكلفة، والأسرع في ارتفاع نسبة الطلب.
ومواجهة هذه المعوقات بتسليع الماء أو خصخصته، وتحديد استنزافه يجب ألا يمتد إلى الزراعة، وإذا امتد التسليع للاستهلاك السكاني يجب أن تراعى الدخول وألا ينظر إلى التكلفة. وآخر شكوانا التعويل على وزرائنا ذوي الشأن، فهم أهل الصدق والإخلاص، وأهل الطمأنة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|