مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:13 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! (1-2)
د.حسن بن فهد الهويمل


أخشى ما نخشاه في ظل انفتاحنا على الآخر، وتدافعنا عند عتباته، واتساع هوامش حرية التفكير والتعبير أن نكون ك(آل فرعون) يوم التقطوا (موسى)، فكان لهم عدواً وحزنا، وكم هو مفيد لو كان ما نَثْقَف من الغرب بحجم ذلك الطفل التائه في اليم، ولكنه الزبد الذي يذهب جفاء وقدر أمتنا العصيب أن مشاهدها الفكرية والسياسية والاجتماعية والأدبية تموج بالظواهر والمذاهب والتيارات والسلوكيات، وكأنها نثار أعراس يتهافت عليها الدهماء والرعاع. واستقبال المغاير فكراً وحضارة ودنية حين لا يكون المتلقي واعياً بالفوارق، يكون كحاطب ليل، يهوي بيده على كل سواد، فيعود بخشاش الأرض وهوامها، ويخطئ جزل الحطب.
والراصد الحذر للحراك الثقافي والسياسي يفزعه الإعجاب المطلق والقبول المطلق، والتزكية المطلقة لكل ما هو متداول في المشاهد الغربية مما هو صالح لهم ومستجيب لحاجاتهم وإذا تهافتنا على أشيائهم غير المتسجيبة لحاجاتنا القائمة أخذناها بقوة وكأنها الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكأن قادة الفكر وأساطين السياسة في الغرب أبناء الله وأحباؤه، اصطفاهم لنفسه، وخصهم بفضائل الأعمال وروائع المنجزات، وأنهى بهم التاريخ، وعهد إليهم إنقاذ الإنسانية من براثن التخلف وقعر الانحطاط. وما الغرب في راهنه إلا متغطرس بقوته، مدل بمنجزه، نابذ لدينه المزور، مكب على شهواته، عالم بظاهر الحياة الدنيا. الأمر الذي مكنه من السيطرة على المادة التي محضها تفكيره وجهده، فيما أهمل الجانب الروحي، وغفل عما يُحييه {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}. والجانب الروحي معادل للجانب المادي، والحياة الأخرى معادلة للحياة الدنيا.
وقولنا هذا لا نزكي فيه واقعنا، ولا ندخل به مع الغرب لزز التفاضل، ولكننا نصف الواقع كما هو، وواقع العالم العربي والإسلامي واقع مؤلم لا يطاق، ولكن إنقاذه لا يكون بالتخلي عن الإسلام والارتماء في أحضان الغرب، إنه شيء آخر لم يهتد إليه الظلاميون ولا المتعلمنون. لقد ألَّه الغرب عقله وأحب شهواته، ونفى ما سوى المادة، وقال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثلما أوتي الغرب. وما الغرب في علمه البحت وجده وانضباطه واحترامه لإنسانه إلا استجابة لإعداد المستطاع من القوة التي أمر بها الإسلام، وندب إليها، وفقد محاسنه التي يدل بها ويتغنى بها الظلاميون ليست لفقد مذهبه في الحياة، بمعنى استحالة تحقيق ما حققه إلا باتباع ملته. والتحذير من التهافت على قيمه ومبادئه لا يعني الاستغناء عما سبق إليه من جلائل الأعمال. ونفيه على الإطلاق كاستقباله على الإطلاق، سواء بسواء. وإشكالية المشاهد العربية أنها موزعة بين هاتين الفئتين: فئة نافية لا تقبل من الغرب لا صرفاً ولا عدلاً، وفئة مستقبلة له لا تقبل به بديلاً، ولكل فئة حجج واهية، كرسها الفهم الخاطئ للإسلام أو التمسك الأعمى بالعادات على حد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ}.
وإذ تفوق حضارة الغرب سائر المعهود من الحضارات في العلوم والصناعات والمكتشفات المثيرة للانتباه والمبهرة للعقول، وإذ تَحْكم العالم بقوة السلاح والمال والإعلام، وإذ تسومه سوء العذاب، وتقيمه على الضيم راضياً أو كارهاً فإن ذلك كله لا يعني إسقاط ما سلف أو ما هو قائم من حضارات خذلها أبناؤها، كما لا يعني تجاهل سنتي: (التداول) و(التدافع)، وإذا فاقت حضارة الغرب في فترة من الفترات، فليس معنى هذا أن يتخلى المسلمون عن حضارتهم، وبخاصة عندما تتسع حضارة الإسلام لما سبق إليه الغرب أو سبق به، ومعارف الغرب وعلومه البحتة ومنجزاته العلمية هَمُّ الحضارة الإسلامية ومبتغاها، وليس في الإسلام ما يمنع من تحقيق ما حققه الغرب من علوم وصناعات ومكتشفات، ودعاة العلمانية بالتولي والتهافت سيفقدون دينهم ودنياهم، فالحق ضالة المؤمن. وأي حق حسي أو معنوي أنجزه الغرب فنحن أحق به، وأقدر على تحقيقه، ومن ثم يجب أن نبادره مستصحبين كتابنا وسنة نبينا، لنأتي بمثله أو بأحسن منه، وليس هناك ما يمنع من الاستفادة عبر أي طريقة مشروعة، بل ليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الغرب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أناط تعليم أبناء المهاجرين والأنصار بالأسرى من المشركين. إن علينا أن نصالح، وأن نعايش، وأن نبعث الثقة فيمن حولنا من الحضارات والمدنيات، لنبلغ ولو آية، ولنستفيد من منجز الآخر. وإذا قبلنا من الغرب ما أنجز من علم بحت، أو وسيلة إجرائية، أو منهج معرفي، ثم اختلفنا في حكم شيء منه، وجب أن نرده إلى الله والرسول، بحيث لا نقع تحت طائلة المسخ، ولا نعرض أنفسنا لنواقض الإيمان. إن في ديننا فسحة، لو عرفناها لاستوعبنا كل جميل في حضارات الغير. إذ كل علم نافع أو عدل شامل أو حرية منضبطة، تنطلق من الإسلام وتعود إليه، والجهل والظلم والعبودية مقترفات لا يقرها الإسلام، ومن أراد العزة فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومما يثير تخوفنا الاندفاع غير المحسوب، وتلقي ما لا حاجة لنا به من علوم نظرية، أو تبني مذاهب فكرية، لا يستقيم أمرها مع مبادئ الدين الإسلامي، وذلك ما نراه حاضر المشاهد كلها. فما استقبلنا من الغرب مصانعه ولا معامله ولا مختبراته وما حصلنا على شفرات علومه، وما أفاض علينا إلا ما يفسد أفكارنا وأخلاقنا، و(العولمة) التي ينفذ بها عبر كل وسائل الإعلام ووسائط الاتصال لا (تعولم) إلا الأفكار والفنون والآداب والألعاب والأخلاق، وتلك لا تصنع آلة ولا تقر نظرية، أما العلم فحق خاص لا تجوز الإفاضة به على أحد، وكأن الله حرم ذلك على المسلمين فأمسكوا به وأسروه بضاعة، وما نقمنا من دعاة التنوير إلا قبولهم بنفاية الحضارة وسقطها. والمتابع للطرح الإعلامي يروعه ما يرى وما يسمع من تحولات موجعة وانسلاخ معيب. وإذا قوبلت هذه الانهيارات بالموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، لويت أعناق النصوص، وحُمِّل المستدرك ما لا يحتمل، وقُوِّل ما لم يقل، واشيع عنه أنه خائف متخلف، وأنه رجعي مثبط، وما هو كذلك. فالمسألة ليست في تقبل ما عند الغرب من حقائق علمية، وليست في العمل على إقالة عثرة الأمة الاسلامية والأخذ بيدها من قعر تخلفها، المسألة في التبعية المخلة بالأهلية، وفي الانسلاخ من القيم الفكرية والأخلاقية، وفي الوقوع تحت براثن الغرب، وممارسة الثقافة المتذيلة ثقافة الانبطاح وإذلال النفس.
وتلقي سائر الظواهر المتداولة في المشاهد الغربية على إطلاقها مظنة الفساد والضياع، والمتداول يؤكد ما دعى إليه أساطين الاستغراب ورؤوس الفتنة، فالتنوير الغربي يتبناه من لا علم عنده ولا نباهة، والصحوة الشرقية يضطلع بها من لا فقه عنده، والدهماء أشتات بين سراب القيعان فالقائلون عن (حقوق المراة) وعن (الديمقراطية) وعن (الليبرالية) وعن سائر القضايا والظواهر المتداولة دون تحديد قول زائف موغل في الضياع. وكيف يسوغ لمفكر مسلم محكوم بعقيدة، ومقيد بنص، ومخلوق للعبادة، ومستعمر في الأرض أن يسترفد المستجدات في مختلف المعارف النظرية، ثم لا يعرف أنه ينتمي إلى حضارة ذات شرعة ومنهاج. إننا مع (حقوق المرأة) التي كفلها الإسلام. والمعضلة ليست في المعية، بل هي في نوع الحقوق، ومدى تعارضها مع القوامة والطلاق والتعدد والإشهاد والإرث وسائر الأحوال الشخصية. فالمرأة في النهاية محكومة بما شرع الله لها، وتحفظنا على المختصمين حول المراة في غياب ما شرع الله، واستنكارنا لوضع المرأة في الغرب لا يعني حسم القضية لصالح الرجل، والمدافعون عن (حقوق المرأة) ممن يصفون أنفسهم بالتنويريين لا تقبل دعوتهم على إطلاقها، وإذاً فلا بد من تحديد المطلوب واستشعاركم هو الفرق بين المباح والمتاح، وفقه الأحكام، وفقه الواقع، فما هو مباح شرعاً قد لا يكون متاحاً واقعاً، وعند تنازع المباح والمتاح لا بد من الرجوع إلى المؤسسة الدينية لتمارس حقها في ذلك.
والقول في الشأن النسائي قول في الوقوعات، وليس قولاً في النظريات والمبادئ، وليس أدل على ذلك من استياء أحد المتحدثين عبر منابرنا من اتخاذ صالتين إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وتصوره أن مثل ذلك إهانة للمرأة وشك في صلاحها وحماية نفسها. والدين الإسلامي يمنع الاختلاط وقاية، ويمنع الخلوة حماية، وقصة (يوسف) وحديث (الإفك) دروس حية، وما دام أن الفائدة بالفصل والتفريق حاصلة، وأن الطرفين يتبادلان الآراء حول مجمل القضايا دون اختلاط مثير للشبهات فإن المصير إلى تلك الدعوة مدعاة للهم أو للشك، وليس شرطاً أن يكون الإضرار في ذات الاجتماع. فالاختلاط المنضبط يجر إلى اختلاط غير منضبط. والعزل بين الرجال والنساء مطلب إسلامي، حتى لقد أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بين الأبناء والبنات في المضاجع، فهل هذا التفريق يعد اتهاماً للأبناء والبنات الأشقاء، أم هو درء للمفاسد؟ وكذلك حين قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن (الحمو) إنه النار، فهل كل شقيق يحتمل تعديه على زوجة شقيقه؟ إن الخلوة والاختلاط والتبرج بدايات الفتنة والمفسدة، والذين يلوحون بالمطالبة، لا يحددون المطلوب، ولا يعرضون للمفاسد القائمة، والإطلاقات المجردة في قضايا حساسة تثير الوحشة والتخوف، والعاقل من وعظ بغيره.
إن اتخاذ الاحتياطات لا يعني الاتهام، والأنظمة والضوابط والرقابة والمساءلة ليست مدعوة ولا داعية للاتهام، فمن أمن العقاب أساء الأدب، والمال السائب يعلم السرقة، والله يقول: (ولا تزكوا أنفسكم) والإنسان معرض للفتنة، وعليه ألا يعول على ثقته بنفسه، ويوسف قال لربه: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}. فالمفاسد الأخلاقية لم تنشأ إلا من التزكية التي ليست في محلها، ومن الثقة التي لا مكان لها. ولقد سئلت مذنبة عما حملها على التمكين من نفسها، فقالت: قرب الوساد وطول الرقاد.
وبصرف النظر عن (قضايا المرأة) فإن كثيراً من المتعاملين مع المصطلحات والقضايا يتقبلونها بقبول حسن، ولا يأخذون بأحسنها، وإنما يأخذونها بحذافيرها، دون أن يضربوا أدنى حساب لحضارتهم المغايرة، ولو أنهم حين تلقوا ركبان المصطلحات في مختلف حقول المعرفة الإنسانية استشعروا أنهم أهل حضارة عريقة مغايرة، تؤكد على الرد إلى نصوصها المقدسة كل ما اختلفت فيه، فيما لا ترد الحضارة الغربية المتعلمنة إلى نص مقدس. وكم هو الفرق بين حضارة لا تحيل وأخرى تحيل، وكان على الذين يدَّعون اعتزازهم بحضارتهم أن يعرفوا مقتضياتها، إنها حضارة العقل والنص، فمن غيب أحدهما فقد أخل بالمطلوب، ومن غلب العقل على النص وقع فيما وقع فيه أهل الاعتزال، ومن عطل العقل واكتفى بظاهر النص وقع فيما وقع فيه الظاهريون.
إن الحرية التي يتخذها المستغربون مناطاً لخطاباتهم ولآرائهم حريةٌ غير منضبطة، فيما تأتي الحرية الإسلامية محكومة بضوابط، وإذا عوَّل أحد على الحرية فإن واجبه أن يفرق بين الحرية كما يراها الإسلام والحرية كما تراها الحضارة الغربية، وإذا طالب أحد بحقوق المرأة فعليه أن يسبق بتحفظاته على ما هو قائم من تبرج واختلاط وخلوة لا يقرها الإسلام. وليس في ذلك القيد الإسلامي معوق عن الأخذ بما ينفع الناس من أمور دينهم ودنياهم. إذا لم نر الإسلام يمنع من علم ولا يحول دون عمل، لا في حق المرأة ولا في حق الرجل، وإذا تحفظ على شيء من ذلك فإنما هو من باب سد الذرائع ودرء المفاسد، وكيف يكون ذلك وهو الداعي إلى إعداد القوة والسعي في مناكب الأرض؟ ولمزيد من الحرية قال الرسول - صلى الله عليه وسلم-:
(أنتم أدرى بأمور دنياكم) وقال: (استفت قلبك). والدراية والاستفتاء رهينا المقتضيات والمقاصد الإسلامية، وليسا مطلقين، وعلى المسلم أن يستشعر القول الثقيل والمكاره التي حفت بها الجنة، فالإسلام ليس ادعاء يطلقه الإنسان، إنه اعتقاد وقول وعمل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل