ويسألونك عن (الليبرالية) 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل
- أما قبل :-
فإن التناوش مع المصطلحات السابحة في سماء المشاهد العربية كما الجراد المنتشر، يستدعي التأكيد على حرية التفكير والتعبير، والأخذ بما جد من أمور الحياة الدنيا، وتفضيل حوار الحضارات على الصدام، وقبول السلطة، ورفض الاستبداد، والإذعان لحاكمية الدين، والتحفظ على تسلط المتدين، واستباق المنجز الإنساني الذي تقوى الأمة به وتستغني، والجنوح للسلام دون الاستسلام، والفصل بين العنف والدفاع المشروع، والإيمان بسنة التدافع والتداول، والنظر إلى الغرب بوصفه موضوع درس لا منجم استرفاد، وتفادي الخلط بين المبادئ والوسائل، والأفكار والعقائد.
وعلى ضوء ما سبق فإن رؤيتي ليست حدية حادة، ولا ثنائية صارمة، بحيث لا تقبل الوسطية ولا المنطقة الرمادية، وبهذا الانفتاح أرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطغام، والانفلات والركون والمداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وأجتهد ما وسعني الاجتهاد لمعرفة حدود ما أنزل الله.
- وأما بعد:-
فكم يثار بين الحين والآخر جدل صاخب حول مقتضيات المصطلحات المنقولة أو المترجمة أو المعربة. وهو جدل يمس التفكير، ويؤثر على المواقف والمبادئ، وليس هو من باب الاختلاف المعتبر. وكل الذين يخوضون في مصائر الأمة، ثم لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، يثيرون اشمئزاز الرأي العام، ويشدون أعصابه، وقد يدفعون به إلى الاحتقان المخيف، ومن لم يتلطف في خطابه ويلن، ينفض الناس من حوله، حتى ولو كان رسولاً من أولي العزم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. ومن لم يحسب للرأي العام حسابه، فإنه يعرض نفسه للإيذاء، (ومن هاب الرجال تهيبوه).
والمشاهد الفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية تموج بالنقائض والنقائص، وإشكالياتها أنها مشرعة الأبواب منتهكة الحمى، فكل من عن له أن يثير الزوابع، أطلق لسانه وأجرى قلمه. وقد لا يكون الرأي العام واعياً للأهداف والنوايا والمقاصد، فيصبح كموات الأرض يحييها السابق، وما من متعقب لفلتات الألسنة، مصيخ للحن القول إلا ويصاب بالإحباط. فالرأي العام كما الشعوب والقبائل: إما أن تتعارف وتتقارب. وإما أن ترتاب وتتنافر. وذهنيته مرتبكة وسط ضجة السمسرة. وهو: إما موغل في الدين بعنف، مارق منه كما السهم يمرق من الرمية، يرتاب من كل صوت، كمن يحسب كل صيحة عليه. أو مبرمج تمر به المواعظ كما قطر الماء على الصفا. أو متسرع تجمعه الطبلة، وتفرقه العصا، يوفض إلى كل بارق. والطامة الكبرى ان يتحكم الهوى في النخب، حتى لا يكون لصحيح المنقول ولا لصريح المعقول دور في تشكيل الوعي. وما أضل الناس إلا اتباع الهوى، حتى لقد اتخذه البعض إلهاً.
والذين يلتقطون المصطلحات من أفواه الإعلاميين، يظنون كل الظن أنها القول الفصل الذي يقطع قول كل خطيب، وبهذه المصدرية المدلِّسة تشكل مثقفو السماع، وبهم شُغلت المشاهد. ولو عاد المختصمون إلى المعاجم والموسوعات والدراسات: التاريخية والتحليلية والنقدية، لعرفوا أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يعقلون. وإذ تكون مشاهدنا حلالاً للطير من كل جنس باسم حرية التعبير، فإنها مشروع لفتنة عمياء، تؤدي إلى اختلال الوحدة الفكرية. ولو استأثر بالمشاهد أهل الذكر ممن نفروا للتفقه في الدين والسياسة والفكر والأدب لما اتسع الخرق على الرقع. ولو ان المبتدئين أعطوا القوس باريها، وأذعنوا للمؤسسات الكفيلة بتداول الآراء وحسم المواقف، لكان خيراً لهم. وليس من بأس أن تكون المشاهد مهيأة للاختلاف والتساؤل المشروع، ولكن البأس كله أن يجهل الناس ما هم عليه من فوضوية، ثم لا يبادرون إلى ايقاف التدهور. ومن جهل حاله استفحل به المجهول، حسياً كان أو معنوياً. فمريض الجسم ليس بأخطر من مريض القلب، ومن فاته التشخيص، أو جاء خاطئاً، فاتته فرص المبادرة لتلافي النقص.
إن هناك اختلافاً ظاهر العوج بين أساطين الفكر المنتج لهذه المصطلحات، حتى لقد نسبت (الليبرالية) إلى ثلاثة من أساطين الفكر، لكل واحد منهم رؤيته: (جون لوك) و(جان جاك رسو) و(جون مل) حتى قيل:- (الليبرالية اللوكية) أو (الروسوية) أو (الملية).
وهذا التنازع في حقل الفكر وبين أهلها، فكيف به في الحقول الأخرى، والحضارات المسترفدة، والقراء المختلفين، والمتعقب المقتدر يقف على آراء مجتثة، ما لها من مرجعية. ونظريات التلقي العربية غير بريئة، ذلك أن لها انتماءات متعددة، حتى داخل الفكر الواحد، وهذا الاضطراب يؤدي إلى اختلافات بعضها فوق بعض، كما الظلمات. وقضاء الأمة العربية أن مشاهدها مسرح للحرب الباردة بين الشرق والغرب. وهي اليوم مسرح اللعب التي تنفذ بالذخيرة الحية. والراصد للحراك الفكري والسياسي والثقافي يروعه ذلك الجدل المحتدم حول سائر المفاهيم. وجدلية المصطلح وإشكاليته كما القتيل الذي ضاع دمه بين القبائل. وطوفان المصطلحات النافذة إلينا بفوضوية، تحتاج إلى مؤسسات متخصصة تنقب في أحشاء المستجد، ثم تعمد إلى توحيد الترجمة أو النقل أو التعريب، تفادياً لوقوع الأمة في فوضوية المصطلحات، وهي بانغماسها إلى الأذقان في تلك الفوضى المستحكمة قد أصبح أمرها عليها غمة.
وإذ يكون المصطلح المجلوب ناتج حضارة مغايرة، فإن له دلالته ومقتضاه ومراحل تحولاته، والمؤصل العربي يجب أن يضع كل الاعتبار للجذور والمنابع، وإن كان عشاق (الليبرالية) قد تلمسوها لدى فلاسفة اليونان قبل الميلاد، وهو إغراق لا مبرر له. ومتى هيئت المؤسسات المتخصصة والمطاعة لتلقي المصطلحات ودمجها في الحضارة المستقبلة، كان من أوجب الواجبات أن يعرف أساطين الحضارة المتلقية المقتضى الأصلي والدلالة المحدثة. وليس في الاقتراض والتعالق الواعيين ما يعيب، فكل الحضارات تتفاعل مع بعضها، ويرث بعضها بعضاً، وتماس الحضارات عند تفاوت الإمكانيات قد يؤدي إلى التأثير السلبي، وذلك ما تعانيه الحضارة الإسلامية في راهنها بمواطأة من أساطين الفكر المستغرب. وواجب المتلقي أن يعرف القواسم المشتركة، بحيث لا يتجاوز المباح، ولا يقصر دونه.
ولقد أتيح لي الظفر بكتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي)، الذي استهله بحديث (التبعية) وقال معلقاً بما يجب أن يكتب بماء الذهب:- (قد يعطي هذا الحديث الذي يقوم بديلاً عن الإهداء إيحاء بأنني رافض للغرب، متقوقع على الذات.. ولكني فقط أدعو إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر، وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلاً من أن يكون مصدراً للعلم). ونحن في زمن الانكسارات، لا نتطلع إلى موضعة الغرب، ولا نستنكف من أن يكون مصدراً للعلم، وإنما نتواضع إلى أبعد الحدود، ونعطي تنازلات لا مزيد عليها، ونرضى بأن نتلقى علومه، بدل أن نتلقى آدابه وفنونه ومعارفه الإنسانية وعاداته، فالحضارة الغربية ذات شقين: (علوم بحتة) و(معارف إنسانية)، وحاجتنا إلى الشق الأول دون الثاني. وإذا وجدنا في وسائل الشق الثاني ما يوفر الجهد والوقت والمال ويحقق أفضل الخدمات، فليس في ذلك ما يمنع من الاستفادة على أضيق نطاق، ودون تهافت أو انبهار.
وعيب المستغربين أنهم تركوا ما هم بحاجة ماسة إليه، وركضوا وراء سنن من عاصرهم يتبعونها حذو القذة بالقذة. وما أحوجنا إلى إعادة النظر في علاقتنا مع الغرب، فنحن في أمس الحاجة إلى أشياء كثيرة سبق إليها. وغباؤنا المعتق حملنا على ترك ما نحن بحاجة إليه، والإقبال على ما ليس لنا إليه حاجة، ولا أحسب الغرب غافلاً عن هذا التصرف الأرعن.
إن تغريره وتصديره لضريعه الاستهلاكي الذي يسمن الأجسام ولا يقني الأجيال جزء من اللعب والغزو والتآمر، وأعجب العجب تداول مصطلح (عقدة التآمر) بين المستغربين، لشرعنة الركون إلى الغرب وموالاته، حتى لقد أصبح البعض يرى الغزو والتآمر دعوى زائفة. والمستفيض إلى حد التواتر أن الغرب لا يريد لنا أن نتعلم صيد السمك، ولكنه يريد أن نتناولها عن يد ونحن صاغرون، إذ لا يريد الندية ولا التكافؤ ولا الاستغناء.
لقد أطلت التوطئة، لعلمي أن المصطرعين في المشهد السياسي، سيفترون الكذب، ويشيعون حرصنا على القطيعة والصدام وحجب الرؤية والانكفاء على الذات. وما كنا متحدثين عن المصطلح الضجة، حتى يتبين الموقف المعتدل من الآخر. ومصطلح (الليبرالية) كمصطلح (العولمة) بدأ اقتصادياً، ثم تحول إلى السياسة والاجتماع، وكل مصطلح يبدأ متواضعاً ومحدوداً، حتى إذا تداولته المشاهد، أصبح كما كرة الثلج، تكبر في كل دورة، حتى تبلغ العنان، ف(الليبرالية) الاقتصادية: مذهب يدعو إلى الحرية الكاملة سعياً وراء امتلاكه قوة المنافسة والمزاحمة. فدعاته يريدون من السلطات المعنية ترك المبادرات الشخصية تمارس حقها التجاري بحرية تامة، بحيث تحقق مصالح الفرد والجماعة في آن، بوصف الاقتصاد ملكاً للأمة، ودور الفرد تحريكه ليس غير. و(الليبراليون) الاقتصاديون ضد أي تدخل، يعكر صفو الحركة الاقتصادية، كان ذلك الهاجس مبدؤه ومبلغ دلالته، ومع الأيام تغير، وتعددت حقوله.
أما عن ظروف تشكله: فقد قام صراع أو تبادل مواقع بين ثلاثة مفاهيم متعلقة بالاقتصاد هي: (البرجوازية) و(البروليتارية) و(الليبرالية)، وذلك بعد الصراع المستميت بين (الماركسية) و(الرأسمالية) وفي ظل التنبؤ بإخفاقهما الذي تقصاه (حيدر غيبة) في كتابه (ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية) وهو طرح يحاول فيه استبدالهما بنظرية متوازنة، تتجاوز حتى (الليبرالية). وتعد (الليبرالية) زعزعة لما سبق، فهي تحمل أفكاراً جديدة متطورة، ذات طابع (راديكالي) وإذا قيل: (المذهب الاقتصادي الحر) فإنما يعنون (الليبرالية) الاقتصادية. وهذا المذهب لا يريد من المنظم تجاوز حد المراقبة من بُعد. ولقد حدث خلاف حاد حول مفهوم المراقبة لاستحالتها، فالمذهب (الليبرالي) ذو نزوع فردي، والمراقبة ذات انتماء جمعي، وظروف التشكل المتوترة مكنت المصطلح من الاتساع الدلالي والتحول المجالي، ومن ثم أصبحت (الليبرالية) ذات تحولات أفقدتها الموضوعية والمحدودية والثبات، حتى لقد كادت (الليبرالية) الاقتصادية تتحول إلى فلسفة في الاقتصاد، ولكل باحث فيها نظريته المغايرة، ولكنها مغايرة تبقي على المرتكزات (الديمقراطية) المتمثلة بتحكيم العقل، وتحرير الاقتصاد، وتفويض الأمر إلى الشعب. وأبرز العلماء الذين تبنوا هذا المذهب اقتصادياً وتشعبت آراؤهم:-
- (أ. سميث 723 - 1790)
- (بنتام 1748 - 1832)
- (مالتوس 1766 - 1834)
- ريكاردو 1772 - 1832)
- (جون ستيورات 1808 - 1873)
وكل واحد من أولئك يؤكد على الانسجام والتوافق. و(الليبرالية) في النهاية مواجهة للقوى التقليدية.
- الملكية.
- الكنسية.
- الإقطاع.
والسواد الأعظم من الحالمين بها أدركوها في خريف عمرها، ولم تمتد نظرتهم إلى جذورها ولا إلى حقولها، وما كان لديهم من الجهد والوقت ما يمكنهم من ذلك، وما كانوا يعرفون منها إلا ما تسمح به وسائل الإعلام وثقافة السماع، ولو ردوا خلافهم إلى الموسوعات والمعاجم والدراسات الراصدة والمحللة لعرفوا أن في حضارتهم ما يستجيب لمتطلبات العصر. وداء المشاهد الضحالة والتسطح والاندفاع الأهوج، وفوات التأصيل المعرفي والتأسيس الديني.
والمتحفظون العلمانيون من الغربيين على (الليبرالية) يشغلهم شيئان: المجتمع المدني، والسلطة المشروعة للدولة. فيما يشغل المتدينين منهم، إضافة إلى ما سبق (الحق الإلهي). وعندما تندلق أقتابها في المشهد العربي المسلم، وتؤخذ من أقطارها، تتضاعف الإشكاليات. والمتابع لنشوء الأحزاب والمنظمات في العالم الثالث، وتذبذبها بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الدكتاتورية) و(التعددية) و(الطائفية) و(الأيديولوجية) يصاب بالذهول، ولا سيما إذا علم أن خطابات المحافل أمنياتٌ سرابية، وأن في العالم أكثر من خمسمائة حزب أكثرها في العالم الثالث، وبين الأنواع والأعداد تكمن الكارثة، وإذا كانت مشاريعها أضغاث أحلام، فإن الواقع لا يعدو تكريس التخلف وتعطيل التنمية. وعجز الثوريين عن بناء تنظيم حزبي قادر على إقالة العثرة أدى إلى إحباط وخيبات أمل متأصلة. وبالرجوع إلى كتاب (الأحزاب السياسية في العالم الثالث) للدكتور (أسامة حرب) يتبين سوء التوقيت والتقدير والادعاء العريض، ولست بحاجة إلى قراءة النتائج الحزبية فهي ما يراه العربي لا ما يسمعه، وكل حزب يصفي سلفه: وجوداً وسمعة، يقدم بين يدي خطابه حتمية (الديمقراطية) و(الليبرالية).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|