النص الهادف تربيةُّ وتهذيبُّ..!(1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل
كل عالم أو مفكر أو أديب، يجب أن يسأل نفسه، قبل أن يضع سواداً على بياض: من يكون؟
وتساؤله لا يكون - بالضرورة - عن انتمائه الإنساني، فتلك نزعة مادية نوعية، تدخل ضمن مدلول {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} والمسلم يعي الحق الإنساني في سياق الحق العقدي، وقد لا يترتب على ذلك كبير فائدة، وإن كان قاسماً مشتركاً، يحل كثيراً من الإشكاليات. ومدار الكينونة الأهم إنما يكون عن الانتماء العقدي والمذهب الفكري، ليتم على ضوء ذلك تحديد هم الإنسان ومساره وحراكه الثقافي. فهو إذ يكون إنساناً بإزاء أمم أخرى: طائرة أو سابحة أو زاحفة أو ماشية، فإنه يكون منتمياً إلى (عقيدة) تفرض عليه الاستجابة لأمرها والعمل على إشاعتها، وليست كذلك بقية الأمم غير البشرية التي عُرضت عليها الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان، لظلمه وجهله، فكان أن حُمِّل مسؤولية التكليف. وكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه يكون ملتزماً بالانتماء، حتى (اللا منتمي) يعد منتمياً إلى عدمية الانتماء، لأنه بالتخلي وبالالتزام يصبح صاحب موقف مضاد للانتماء أو موافق له، والمسلم ينتمي إلى عقيدته المبلغة إليه بنص قائم محفوظ، وهو في عقيدته بإزاء أناسي آخرين: يهوداً كانوا أو نصارى، يحملهم ولاؤهم وعملهم على عدم الرضى إلا باتباع ملتهم، وتَمثُّل العقيدة يعني النهوض بمتطلباتها السلوكية: تلبساً ودعوة.
وحين يتحدد انتماء الإنسان بطوعه واختياره، أو بولادته، وأسلمة أبويه له، تتحدد مهماته: الإبداعية والعلمية والعملية، وتتراتب تلك المهمات في سلم الأهمية، وليس هناك أهم من إشاعة القيم السلوكية: قولاً وعملاً، إذ المسلم مطالب بالجمع بين الحسنيين: القول السديد والعمل النافع، ولهذا كبر مقتاً عند الله أن يقول المسلم ما لم يعمل، ويكون في الدرك الأسفل من النار حين يكون منافقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ومهمة المسلم في الحياة: ذاتيَّة وغيرية. ومن الغيرية الاهتمام بأمر الإسلام، وحب الخير للمسلمين، ومجالات الاهتمام والحب كثيرة من أهمها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله ولرسوله ولِئولي الأمر، والحب في الله، وكف الأذى، وفي الحديث (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعلى ضوء ذلك يكون (تهذيب السلوك) جزءاً من مهمة المسلم المقتدر، وهو هم مشترك لكافة المؤسسات: التربوية والتعليمية والتثقيفية والأدبية.
و(الأدب الإسلامي) بكل أبعاده: الإبداعية والنقدية أدب هادف ملتزم، وليس ملزَماً، ولهذا فهو يحمل رسالة التوعية والتهذيب، وهو إذ يحمل هم التهذيب السلوكي، فإنه في الوقت نفسه يحمل هم تربية الأذواق وإمتاعها، وواجبه أن يحفظ التوازن بين أدبية النص السردي وشعرية النص الشعري والمضامين الأخلاقية. فلا تجعله مهمةُ يدعُ الأخرى كالمعلقة، ذلك أن مقاصد الأدب الرفيع تنمية الأذواق، وإمتاع العقول، وإشباع العواطف. والأذن تعشق قبل العين أحياناً، والصوت الجميل مطلب إسلامي وإنساني، وفي الحديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وإذا كان الشعر إنشاداً، فإن القرآن ترتيلاً وتغنياً، والله قد أمر بترتيل القرآن.
والمشركون تواصوا باللغو وبعدم السماع أملاً في الغلبة، وكل ذلك للحيلولة دون التأثير الجمالي للأصوات بوصفها تصدع بالنص الهادف، وجمال اللغة بحسن الصياغة، وسبيل ذلك الجرس والإيقاع والتقفية والسجع غير المتكلف والتوازي، والنص الهادف يحافظ على الجمال والجلال، حين يمّارس التهذيب والتربية.
ولا أحسبه بمبادرته للتهذيب السلوكي والتربية الذوقية يدّعي الاستئثار بهذه المهمة، ولا يعني الانقطاع لها، لأنه إبداع فني إمتاعي بالدرجة الأولى، وكم هو الفرق بين الفن وسائر المعارف الإنسانية. وهو إذ ينهض بالتربيتين: السلوكية والذوقية فإنما يتخذ طرقاً لا تعتمد الأسلوب الوعظي المباشر، ولا لغة العلم التوصيلية. فالأدب العربي منذ عصوره الأولى، حتى يومنا هذا، ينهض بعضُ شعرائه وأدبائه بهذه المهمات، ثم لا يكون ذلك على حساب اللغة الأدبية. ولقد قيل: (أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري) وذوائق النقاد تختلف، فحكيم المعرة وصف شعر (المتنبي) بالإعجاز ووصف شعر (البحتري) بالعبث، والنقد الأخلاقي الممتد منذ العصور اليونانية والمدن الفاضلة حتى العصر الإسلامي الذي فرق بين شعراء الغواية والهداية، وأسس للكلمة الطيبة جزءاً من مهمة (الأدب الإسلامي)، وشاهد على عمقه الزمني. وما تحرف الأدباء لإبداع النص الهادف، وتحيزوا لمفاهيم الأدب الملتزم ومقتضياته إلا من بعد ما اختُرقت أجواءُ الأدب العربي بتعديات على المقدس والمعصوم والأخلاق، ولوثت فضاءاته، ففي ظل هذه الظروف المتردية أخلاقياً وفكرياً، وفي ظل التمرد على القيم الفنية واللغوية لزم نهوض الخيرين لتدارك الأمر، والخلوص من لوثات الفكر وتردَّيات الأخلاق، وإذ تعمدت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة إفساد الأخلاق والأذواق فإن واجب الأدباء الإسلاميين إصلاحها، وما من عاقل رشيد يشك بأن إبداعات بعض الحداثيين وطائفة من الإعلاميين تضمر إفساد السلوك، ف(الحداثة) المنقطعة الفوضوية أدت إلى فساد الأذواق والأخلاق، وترديات النصوص تتطلب صحوة متوازنة، تعيد الأدب إلى مساره الصحيح، وتقيل عثرته.
وما تخلف (الأدب العربي) عبر عصوره عن النهوض بمهمة التهذيب والتربية، وإن واكب ذلك جنوح فردي تعهده النقاد الأخلاقيون بالتقويم، ولو نظر المتابع الواعي إلى موسوعات الشعر العربي القديم والحديث لتبين له أن ما يلتمسه في (النص الهادف) نثار في تلك الموسوعات، وكل الذي يمتاز به (الأدب الإسلامي) بوصفه وعاء ذلك النص أنه يحول دون اختراق أجوائه بما يسيء إلى السلوكيات المهذبة، والذوقيات السليمة، والأفكار المستقيمة. وما تفرق الذين غمرتهم النصوص المدانة إلا من بعد ما جاءهم مصطلح (الأدب الإسلامي) ببيانه وحذرهم من مغبة القبول بالكلمة السيئة، وما كان هدف الأدب والأديب إلا إشاعة الكلمة الطيبة والقول السديد، ومن تصور الأدب الإسلامي غير ذلك، فقد وهم وجار في حكمه. ولهذا يكون تهذيب السلوك جزءاً من رسالته، لا ينقطع لها، ولا ينقطع عنها، إذ هو في الحالين يخل بمهمته الأخلاقية وأدبيته الأصيلة، لكونه إبداعاً قولياً له رسالة إصلاحية، وبرَاعته في حفظ التوازن، إنه يعرف كيف يتناول المهمة الأخلاقية، دون أن يكون ذلك على حساب فنيات الإبداع الشعري والسردي. وكل الذي يفصله عن (الأدب العربي) شعوره بأهمية شرف المعنى، وهو فيما سوى ذلك أدب عربي بكل ما يعنيه ذلك المصطلح من دلالات ومقتضيات، نقول هذا لنثبت أن (الأدب العربي) يحمل هذا الهم الذي أدركه الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) حين ندب إلى حفظ الشعر، بوصفه ديوان العرب.
وإشكالية الأدب الإسلامي، أن الذين يتلقون مصطلحه، يتصورونه شيئاً آخر، وأنه مختلف جداً عن سائر الآداب، وأن إسلاميته على حساب شعريته وأدبية سرده. وما ساور أحداً من دعاة الأدب الإسلامي أيُّ شك بأهمية الشعرية على قواعدها والأدبية على أصولها. وما شهدت المشاهد الأدبية صراعاً خارج أطر القضية، مثلما نشهده حول ذلك المصطلح. ومعضلة المصطلحات الجديدة أنها تستقر في الأذان منذ أول يوم، ثم لا يكون من اليسير تغيير ما استقر، و(الأدب الإسلامي) استقر على غير مراد ذويه، ولما يزل يعاني من هذه المفاهيم الخاطئة، ومنشأ ذلك كله أزمة المصداقية، فلو أن خصومه تلقوا مفهومه من ذويه، ولم يفتروا مفهوماً غير مقبول، لكان ذلك مؤذن بقبوله والتفاعل معه، وعذر المتلقي أنه تلقاه من غير مصادره المشروعة، فكان الخوف من التصنيف والخوف على الأدب مرتبطاً بالمفاهيم الخاطئة، والمشفقون على وظائف الأدب وسماته من الأسلمة، كالذين يروجون تحفظاتهم وتخوفهم من أسلمة العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع، وما دروا أن الأسلمة لا تمس قوانين العلوم ولا جوهر الأشياء، وإنما تطعِّمها بمقاصد الشريعة، وإذ يعتري الأدب سوءُ تعبيرٍ من الخصوم، فإن للمقصرين من الأنصار دوراً في غبش الرؤية، ولا أظن المقتضى المصطلحي مسؤول عن الجنايتين.
فالمصطلح ذو شقين:
- أدب يقتضي الأدبية والشعرية.
- وإسلام يقتضي الاستقامة على الحق.
ومن هنا يتبين لنا اضطراب المفاهيم فيما تتداوله المشاهد الأدبية.
ولو أراد المناوئون فهم (الأدب الإسلامي) على ما هو عليه، لأعدوا أذهانهم، واستعدوا لقبول الحق، ثم ما وسعهم إلا مناصرتُه، والعملُ من خلاله، ذلك أنه أدب بكل ما تعنيه كلمة الأدب، وإسلامي بكل ما تقتضيه كلمة الإسلام. وليس في طرح هذا المصطلح ما يثير التساؤل، وإنما التساؤل هو في تصوره شيئاً آخر، يغاير (الأدب العربي). وما هو إلا أدب كأي أدب هادف، يستمد لحمته من رسالة حضارته التي ينتمي إليها. والإسلام حضارة شمولية، لا تدع شيئاً أتت عليه إلا تركت فيه نصاً ظاهر الدلالة أو مضمرها، تُستلهم الأحكام من ظاهر النص القطعي أو من دلالته الاحتمالية، ونظرية التلقي والتأويل تحدد المفهوم المباشر أو المفهوم المحيل إلى المقاصد والمقتضيات بمساندة القياس أو الاستحسان، وعبر آليات الاجتهاد، وعلى ضوء الأصول والقواعد التي يحيل إليها فقهاء الأمة عند غياب النص بمفهومه الفقهي. ف(النص) عند الفقهاء ما لا يحتمل إلا دلالة واحدة، ولهذا يقولون: (لا اجتهاد مع النص)، وعند غياب النص أو احتماله لعدة دلالات، يتوسلون بالمقاصد والأنساق والسياقات والأحوال، ويأتي من علماء الأمة من يستنبط الأحكام على ضوء المقاصد، وأدب كل أمة يسبح في فضاءات حضارتها، بحيث يستمد لحمته وسداه من مقاصدها، ومع أنه جزء مكمل لتلك الحضارة فإنه لا يكون متماثلاً مع الأجزاء الأخرى. لقد جاء القصص القرآني متوفراً على أحسن الأداء ومتضمناً لأحسن المضامين، وفي ظلاله سار القصص النبوي. والكلمة الطيبة تضطلع بمهمة التهذيب والتربية وتحتفظ بجمالياتها الإبداعية، وليس على الإبداع غضاضة إذا توفرت مقوماته لدى المبدع حين ينهض بمهمة التهذيب السلوكي والتربية الذوقية والأخلاقية، ومع تداخل المهمات بين الفنون والمعارف يعرف كل قوم مشربهم.
فعلماء التفسير والحديث والفقه والتاريخ والفكر والأدب يعرفون رسالتهم وأبعاد فنهم، وشرط نصِّهم، ومع افتراقهم في الاستخدام اللغوي والمؤثرات الجمالية فإن للجميع غاية واحدة، تحددها آيات {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} و {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}ومع هذا التنصيص يجدون أنفسهم أمام حاجاتهم البشرية التي تجسدها آيات {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} و{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتوازن، يعطي الجسم حقه، ويعطي الروح حقها، ولا يبخس من الحقين شيئاً، كما أنه بتوازنه لا يقبل الغلو ولا التطرف ولا الانقطاع للعبادة، ويؤكد على الرفق عند الإيغال في الدين. وليس في الإبداع نصٌ لا يحمل رسالة، وليست هناك حضارة تقبل نصاً ينقض عراها عروة، عروة ويفسد أخلاق ذويها. وما النص الهادف إلا بعض مطالب الأدب الإسلامي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|