شاعرية مع وقف التنفيذ
د. حسن بن فهد الهويمل
لن أعيد مقولة: الشعراءُ أربعة، بحيث أضعُ شاعرنا في موقعه المناسب، فلربما تأخذني العاطفة، لأقول: إنه يجري ولا يُجرى معه. وهو فيما أعلم من أزهد الناس بالثناء، ولو كان الثناء شهادةً بما عُلم.
ولن أستذكر ما قلت من قبل، وكان مثار إعجاب البعض، وهو أن الشعر: موهبة أو اقتدار أو هما معاً. وكم من أدباء ألفوا الشعر: قراءة وتدريساً ومناقشةً وتحكيماً، فقالوه اقتداراً، ولم يقولوه موهبة، فجاء موزوناً مقفى، يحمل إيقاعاً ودلالة، ولكنه لا يحمل نبض الشعر.
ولقد مللت من تكرار القول: بأن الشعر: موهبةٌ، وثقافةٌ، وموقفٌ، وأجواء. فإذا تخلف عنصرٌ من هذه العناصر الأربعة لأي عارض تخلف الشعر. وإذا اكتملت العناصرُ اكتمل الشعر. و(المتنبي) الشاعر الفذ، الذي شغل الناس، ونام عن شوارد شعره، له شعرٌ رديءٌ، يود محبوه أن يدسوه في التراب، وإذا أمسكوه فإنما يمسكونه على هون، وسبب ذلك تخلف عنصرٍ من تلك العناصر التي قد تكون مفقودة عند الأكثرين من الشعراء.
ولما كان الشعر كالجمال والحب والسعادة لايُعرَّف، فإنه معهودٌ ذهني لا تكاد تخطئه العين. واختلافُ النقاد حول التجريب الشكلي أو الانزياح اللغوي، أو ما شئت أن تقولَه عن التحولات التي خَرجت بالكلام إلى مضائق الإبهام والانقطاع والانطفاء، كلُّ ذلك يصبُّ في اختلاف المفاهيم حول الشعر. ومن قال بأن الشعر وزنٌ وقافيةٌ واجهه المعارضون بالنظم العلمي. ومن لم يقلْ ذلك يواجه ب(القصيدة النثرية). ومثلما اختلف السلف والخلف حول مفهوم أدبية (النص الأدبي)، اختلفوا كذلك حول مفهوم شعرية (النص الشعري).
ولو رحتَ تسأل: ما الشعر؟ لتقطعت بك الأسباب، مع أن مفهومه أقرب إلى العربي من حبل الوريد، ولكن التمحل أبعد النجعة، وأخرج التجريب الشعري من دائرة الشعر إلى دوائر أخرى، فكان قولهم كما تفسير (الرازي) فيه كل شيء إلا التفسير.
أقول قولي هذا تمهيداً للوصول إلى نقطة لقاء، تؤجل المشكلة الشعرية، ولا تحسمُها، لأن في حسمها قطعاً متعمداً لأرزاق النقاد، وكما قيل: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق). وحين نَقْدر على تأجيل المشكلة، نعود لنبحث عن موقع شاعرنا (عبدالله بن صالح العثيمين) في هذه المعمعة.
والشاعر أيُّ شاعر قد يقوَّم من خلال لغة الشعر، أو من خلال شكله، أو من خلال صوره وأخيلته، أو من خلال مضامينه. وكل ناقد يلقي بأدواته في زاوية من زوايا الشعر التي تتسع لكثرتها والتوائها وتنوعها لكل قائل، يود أن يقول ما يعقل وما لا يعقل، وما يفهم وما لا يفهم. ولأن الذوائق تختلف فقد يقال عن أي شاعر ما يصعد به فوق هام السحب، ويقال عنه من فئة أخرى ما يهوي به في مكان سحيق. وقضايا الأدب مفتوحة على كل الاحتمالات، لأنها ليست عملية رياضية، ولا حكماً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت. ولهذا فالنقاد في حل مما يقولون، متى حاموا حول الحمى. والشعراء مع النقاد كما (كثير عزة) مع محبوبته، يودون أن يكون ما استحلوا: (هنيئاً مريئاً غير داء مخامر).
ومع أن مناسبات التكريم تستدعي ذكر محاسن المُكَرَّم كما الأموات إلا أن ما بيني وبين الشاعر يجعلني في حل من ذلك، والذين لايعرفون ما أنا عليه من الخلطة، يتصورون أنني جئت لأبني له قصوراً من الثناء. ومع أنه شاعر لا غبار على شاعريته، إلا أنه لم يشأ أن يكرِّس نفسه في مشاهد الأدب على أنه شاعر وحسب، وحين تتعدد إمكانيات الإنسان يصبح نهباً لها، وقدرُ الأدباءِ المتعددي المواهب والإمكانيات أن الناس يذودونهم عن الموارد. فالشعراء يقولون: إنه مؤرخ، والمؤرخون يقولون: إنه شاعر، والأدباء والنقاد والكتاب يفعلون مثل ذلك، ومن ليعيش كما الأعراف. غير أن شاعرنا ومؤرخنا وأديبنا (عبدالله العثيمين) لم يأبه بالمقولات، فهو لا يبحث عن المواقع، ولا يعنيه أن يذوده الآخرون، وكأني به يردد مقولة الأعرابي: (الصدر حيث أجلس).
ولقد قلت من قبل: إن سمة (الشاعرية) حين يجود بها من يحترم المصداقية لا تعني التسليم بأن كل ما أبدعه الشاعر يأتي في ذروة التألق، وكيف يكون ذلك والنقاد الأقدمون يختصمون حول (أبي تمام) و(المتنبي) ويطلقون مصطلحات (الحكيم) و(الشاعر)، وقد يتساءلون: هل جيد شعره أكثر من رديئه؟ لقد سلموا بالرداءة، ولكنهم لم يسلموا بالغلبة، ومع ذلك ظل (المتنبي) شاعراً لا يبارى، وظل من قبله (أبو تمام) شاعراً لا ينازع.
وبعد: أعيذها نظرات صائبة ممن يعنيهم أمر الشعر أن يحسبوا أن قولي هذا تمهيد لحملة نقدية جائرة ضد من يملؤني حباً وإكباراً. وأرجو - في الوقت نفسه - ألا يكون قولي من باب (وعين الرضى). فلقد عرفت الأستاذ الدكتور العثيمين منذ أمد طويل، وكنت من قبل أعده شاعراً لا يبرح رحابه، ذلك أن معرفتي به بدأت من كتاب (شعراء نجد المعاصرون) الذي صدر قبل نصف قرن، وكنت إذ ذاك شاباً أتوقد حماساً وثورة، وكانت موجة (الوحدة العربية) تعصف بالمشاهد، وكان شعره كما شعر (المتنبي) يجمجم عما في نفوسنا. إنه تعبير صادق عما ننطوي عليه من تطلع ملح إلى الوحدة العربية. وما كنا إذ ذاك ندري ما اللعب السياسية. ولما أن تبين لنا أنها (فن الممكن) تجرعنا مرارات الخطابات الثورية.
لقد كان شعره ملتهباً، يكاد يرتمي في أتون القومية وخطابها التشنجي، ولما يزل يعاني من تفكك الأمة وتناحرها، وعجزها عن النهوض من عثرتها. والراصد لإبداعاته التي استهلها ب(عودة الغائب) عام 1401ه، وختمها ب(دمشق وقصائد أخرى) عام 1424ه، وجاء فيما بين هذا وذاك (بوح الشباب) و(لا تسلني) و(صدى البهجة) وهو شعر خصه لتقديم الفائزين ب(جائزة الملك فيصل)، المتابع لهذه الأعمال يحس بتحولات شعُورية ونضوج فكري. ولعل تخوم شعره قصيدة (بقينا كما كنا) التي تعد أقوى تعبير عن خطاب المرحلة التي تألق من خلالها، وهذه القصيدة من أوائل القصائد، وهي بكائية تجسد خطاب الستينيات الميلادية:
(بقينا على مرِّ الليالي كما كنا
فلم نستفد منها ولا غيرت منَّا)
ولأنه قد اكتوى بالوعود الثورية الزائفة، وركض خلف سرابياتها فقد صاح في وجه اللاعبين بعواطف الشعوب:
(أتى بالمنى الخضراء حين مجيئه
وعوداً ولم يصدق بما كان قد منَّى)
وجيل الستينيات من شباب العالم العربي كافة، من المحيط إلى الخليج وضع كل بيضه في سلة الخطابات الثورية، ومن ثم فوجئوا بخيبات أمل، قتلت فيهم كل التطلعات، وعلمتهم أن الممارسة شيءٌ، والخطابَ الإعلامي شيءٌ آخر. و(العثيمين) من ذلك الجيل الذي عايش السرابيات، وتكشفت له الأمور عن خيبات أمل.
والشاعر لم يستحوذ عليه الخطاب السياسي، ولم يكن ممن يستمرئون جلد الذات، ولا مقاومة السلطة بالطريقة الانتهازية. لقد وجّه نقده اللاذع وسخريته المرة للأمة التي أسهمت في الانكسار، وفي مطولته (رسائل من الجبهة) ينحي باللائمة على الأمة التي غفلت عن ثغورها، وشغلتها المتع الزائلة عن معايشة الأحداث بروح جهادية. فهذا الفدائي المجاهد يسأل أمه:
(ألم تزل حفلات الرقص دائرة
والليلُ يقتلُه التهريجُ والزار؟)
والشاعر راصد أمين لأحداث أمته، وناقد بصير، يضع أصبعه على مفاصل القضية، وإذ ضاقت نفوس الخيرين من قرارات دولية، تصدر تباعاً، ثم لا يكون لها أثر في صد العدوان، فإنه يعبّر عن ذلك الضيق في قصيدة (الحل السليم):
(كلُّ القرارات التي صدرت
وتعاقبت من هيئة الأمم
بقيت كما كانت بلا أثرٍ
لا خففت بؤسي ولا ألمي
مفعُولها حبرٌ على ورقٍ
ووجودُها ما زال كالعدمِ)
إن شاعراً يحمل هم أمته، ويعاني من انكساراتها، ويسجل أحداثها، لابد أن يقترب منها، بحيث يطمئن على وصول رسالته واضحة، ومن ثم جاءت لغته سهلة ممتنعة. وظاهرة (السهل الممتنع) تمتد إلى المفردات والتراكيب، وذلك ما يمكن أن توصف به لغة الشاعر، فيها سماحةٌ وعفويةٌ وتلقائيةٌ، ولكنها تحتفظ بقدر وافر من الشعرية.
لقد عرضت للشاعر تحولات دلاليةُ، فيما لم أجد تحولاته الفنية بهذا القدر، وإن كانت قصيدته (الأساطير) خير مثال على مجمل التحولات: الشكلية والفنية والدلالية، إلا أن تحوله من الاجتماعيات إلى السياسيات أقوى وأوسع، فلقد كان متناغماً في اجتماعياته مع (الرصافي) وبخاصة في قصيدته (بائسة) وقصيدته (ماذا يريد المستغيث) وهي قصائد تستثير، وتلوم، وتجسد واقعاً اجتماعياً غفل عنه كثير من الشعراء.
ولقد اتخذ سبيله إلى الموعظة عن طريق الحديث على لسان غني بطرت معيشته:
(ما للفقير المستغيث وما لي؟
أنا قد نعمت بثروتي وبمالي
وترفعت عيني الكريمةُ أن ترى
كفَّاً معذبةً تُمدُّ حيالي)
وهي فيما أرى من أجمل القصائد التي تجسد واقع بعض الأثرياء، وفيها استدرار للعواطف بأسلوب جديد، تسامت فيه المعاني والتراكيب، فكانت القصيدة وثيقة إدانة للأثرياء الجشعين، وأسلوباً جديداً في معالجة الأدواء الاجتماعية.
ولأن الشاعر يحمل هم أمته اجتماعياً وسياسياً، فقد كان الراصد والمتابع، وكأن شعره قد تحول إلى وثيقة تاريخية للأحداث. فهو مع ثورة الجزائر، ومع المقاومة الفلسطينية، ومع مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بغداد، ومع قضايا التحرير والمقاومة في جميع أنحاء الوطن العربي، يرصد، ويجسد، ويبدي استياءه من الصمت والتخاذل والتناحر، وكأنه موكل بقضايا أمته يذرعها جيئة وذهاباً.
هذا اللون من الشعر المثقل بالهموم، لا تتاح له فرصة التحليق في فضاءات الخيال. إنه شاعر ملتزم بقضايا أمته، ومثلما التزم (الرصافي) و(عمر أبوريشة) و(بدوي الجبل) و(الشابي) وآخرون، فقد وقف شعره على تلك القضايا. ولم يفرغ لنفسه كما فرغ لها (عمر بن أبي ربيعة)، وأحسب أنه خص نفسه بالشعر الشعبي الذي رضي أن يجعله للهو البريء، وكيف لا يأخذ حقه من اللهو والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الأنصار: (يعجبهم اللهو)، لقد حجب عن الناس ذاتيات ممتعة، وحجب نفسه عن مجالات الغزل والسخرية، وارتهن نفسه في ملاحاة أمته. لقد كان في مواجهته لقضايا أمته عنيفاً متسائلاً:
(قالوا: الخلافات القديمةُ سوِّيت
وتبددت ظُلَم وحُلَّ المشكل
ومضت دعايات الوفودِ قويةً
لمظاهر اللقيا تَبُثُّ وتنقل
أتوهموا أن الحقيقة تنطلي
ومكامن الزيف المقنع يُجهل
ما عاد سراً أمرُهم فليستحوا
أن يطمسو أسرارهم وليخجلوا)
نقد لاذع، وتحدٍّ سافر، ولوم عنيف، وكأنه في تساؤلاته ابن بجدة السياسة، يعرف خباياها، ويعي مغالطاتها، ويلوب (لوبياتها).
قلت إنني عرفت الشاعر من خلال كتاب (ابن إدريس) الذي ترجم له وذكر بعض خصائصه الشعرية، وقدّم نماذج من شعره، وهو في سن الطلب، ومع هذا فقد بدت بوادر شاعريته واتجاهاته الموضوعية. يقول عنه ابن إدريس: (شاعر تعتمل في نفسه من خلال شعره عواصف الثورة) و (هو من الشعراء الناقمين على المجتمع الذي تُقَدَّسُ فيه الماديات وتُحْتَقَرُ المثاليات الإنسانية). ولست معه حين عدّه من شعراء البؤس والحرمان، إنه شاعر مناضل ضد الظلم الاجتماعي، ومناضل ضد الظلم السياسي، وخطابه في الاجتماعيات لا يختلف عن خطابه في السياسيات: ثورة عارمة، وتحد سافر، ومساءلة ملحة.
وحين أقول بأنه: (شاعر مع وقف التنفيذ) فإن ذلك يعني أنه لم ينقطع للشعر، ولم يشأ أن يظل في ركاب الشعراء، فهو العالم المتخصص بالتاريخ الحديث، وبالتاريخ السعودي على وجه الخصوص، وهو الكاتب المتعدد الاهتمامات، وهو الأستاذ الجامعي المتألق، وهو المترجم لكتب الرحالة والمستشرقين، وهو المسؤول، والمستشار، وهو الإنسان المتواضع. وكثير من المفكرين والعلماء كانت لديهم مواهب فنية لم يتح لها النفاذ.
- كان العقاد شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا مفكراً.
- وكان الرافعي شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا أديباً.
- وكان المازني شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا كاتباً.
- وكان الشافعي من قبلهم موهوباً غلب الفقه على شاعريته، وقال في ذلك:
(ولولا الشعر في العلماء يزري
لكنت اليوم أشعرَ من لبيد)
وكان (عبدالله بن صالح العثيمين) شاعراً، ولكنه شغل عن الشعر بالعمل الأكاديمي، والعمل الإداري، والتخصص العلمي، فكان لا يلم بالشعر إلا حيث يخلص من كل هذه المهمات، وهو حين يلم به لا يراه القضية الأهم، فهو متحدث يعبر عن مواقفه، وكاتب يجسد رؤيته، وما الشعر إلا قناة من عدة قنوات شُغل عنها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|