مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:20 PM   #86
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لوثات المشاهد الإعلامية..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومثلما استشرى داء الطفرة، وأصاب الأحداث والمراهقين بفيروس الاسترخاء والترف والاتكالية واللامبالاة والتكسير، فقد استشرى داء التمرد والفوضوية، فأصاب المشاهد الإعلامية بلوثة اللغو والجهر بالسوء، والسخرية والاستهزاء والتنقص من الخصوم واتهامهم بالرجعية والماضوية والتخلف والجمود والجهل، وقد تولى كبر ذلك من هم في سن المراهقة الكتابية ومن امتد معهم التصابي والتعاظم والادعاء، حتى فاضت أنهر الصحف بفضول القول المغثي، وحتى كدنا نعد البعض منها صحفاً فضائحية، لا تجد سوقها الرائج إلا في التحريش والتهويش واللجاج. وقد يحمل الصلف والاستعلاء بعض الكتبة على افتراء الكذب، والتقول على المخالف كل الأقاويل، واستباق المشاكل التي تهيج الرأي العام. والمشهد الإعلامي بهذه الفوضوية وذلك الانفلات لا يؤسس عليه، ولا يجس نبض الشارع من خلاله، لأنه يعيش حالة من الاهتياج والانفلات.
وإذ يكون من المحامد ألا تكون هناك رقابة صحفية، وأن تكون هوامش الحرية واسعة لكل الحراك الفكري والثقافي والسياسي، فإن الإسراف في استغلال تلك الرخص بطرائق غير مشروعة مؤذن بالعودة إلى ضبط الإيقاع، وقمع التعديات، ومنع القراءات المريبة، والحيلولة دون تحويل الشائعات إلى حقائق، وتبادل الاتهامات، وتشكيل الجماعات الضاغطة. والمتابع للحراك الفكري والثقافي عبر المشهد الإعلامي يدرك الحيدة من الموضوعي إلى الشخصي، وتلك خليقة يخال البعض خفاءها، ومهما ظن البعض ذلك فإنها ستعلم من لحن القول. ومزبلة التاريخ ترقب كل مزايد على مثمنات أمته متطاول على كفاءاتها. والوقوع في المثمنات والكفاءات مؤذن بالتحول إلى درك التنازع المخل بالأهلية، وعند استفحال النقائض لابد من بوادر تحمي المشهد، وتقيل عثرته.
ولا أحسب الامة بحاجة إلى (محكمة آداب) كما فعل (السادات) ولا إلى إعادة الرقابة الرسمية، التي تقيد حرية التعبير، ولا إلى لجنة إعلامية تفض المنازعات، وإنما نحن بحاجة إلى رصد دقيق لخطل القول، وتوعية رفيقة لمن لا يسيطرون على انفعالاتهم من (ساديين) و(مازوشيين) و(نرجسيين).
فعندما يتدخل (رئيس التحرير) أو من دونه من ذوي الخبرة الصحفية بطريقته الخاصة وبخبرته المهنية، ويلفت نظر الذين لم يهدوا إلى الطيب من القول، ولم يوفقوا إلى القول السديد، وسيتثير فيهم كوامن القيم الأخلاقية، وحق الأخوة الإسلامية، ويأخذ بأيديهم لا على أيديهم، يكون ذلك سبيلاً من سبل محاصرة اللوثة الصحفية. ولو أننا استطعنا معالجة الجنح أولاً بأول، ولم ننظر إليها على أنها عوارض قابلة للزوال الطبيعي، أو أنها في إطار حرية التعبير، لما استفحلت اللوثة والغثائية بهذا الشكل، ولما استمرأها البعض، ولما استعديت السلطة من المتضررين لحفظ حقوقهم، وهل من المعقول أن يبلغ العنف والصلف والتعنت من البعض إلى حد استعداء الدولة لترويض جماحة من أفراد متضررين أو من جماعة محتسبين.
ومتى أحلنا كل تطاول على المبادئ والقيم والأعيان إلى حرية التعبير، دخلنا نفق التناجي بالإثم والعدوان، مما يتحاماه ذوو الأعراض المصونة، ويرتع فيه من سواهم، وذلك ما نخشاه، إن لم نتدارك الأمر. لقد أضر بنا فهم (الحوار الحضاري) على يغر أوصوله، وفهم (الحرية) المشروعة على غير ضوابطها، وفهم (الحقوق الإنسانية) على غير وجهها فكان أن استشرت النقائض. ف (الحوار) لا يعني التنازل عن الثوابت، وخلط الملح الأجاج بالعذب الفرات لا يمت إلى التحضر بصلة، (الحرية) لا تعني مطلق التصرف، و(الحقوق) لا تعني ترك الإنسان يفعل ما يشاء، يأخذ ما له ولا يعطي ما عليه. فالحدود والتعزيرات والعقاب والثواب والقوة والعدل قيم حضارية ودينية، والوازع: ديني وسلطاني. والأخذ على يد السفهاء وأطرهم على الحق مبدأ إسلامي، وإنكار المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب أمر يقتضي الوجوب، ودرء الحدود والعفو والرفق واللين قيم إسلامية، لا يجوز تغييب شيء من ذلك باسم الحرية أو الحقوق. واشتغال المبتدئين بالقضايا المصيرية، وتعملق الأقزام بحجة نحن رجال وهم رجال مضيعة للجهد والمال والوقت وفي النهاية:




لا يصلح الناس فوضى لا سرات لهم
ولا سرات إذا جهالهم سادوا


وما أضر بالأمة وقضاياها إلا المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق. وأمريكا التي يستقبلها مثقفو (الغربنة) ومختلسو مناهج المستشرقين وأفكارهم والحالمون ب (الليبرالية) و(الديموقراطية) هي التي أجهضت الحرية، وعبثت بحقوق الإنسان. وآخر شهادة تتداولها وكالات الأنباء ما نشرته (منظمة العفو الدولية) من أن الكرامة الإنسانية سقطت ضحية الحرب الأمريكية على الإرهاب، بسبب ما تمارسه (واشنطن) من انتهاكات خطيرة لكافة الحقوق الإنسانية، منها على سبيل المثال: وسائل التعذيب، واختفاء شخصيات وطنية، وإطلاق صواريخ وقاذفات على منازل مشتبه بها، ومعاملات غير إنسانية في السجون والمعتقلات، وتدنيس متعمد لمقدسات العالم، واستفزاز وقح لمشاعر المسلمين. وعلى الرغم من التعري الصارخ للتعدي والتحكم والوصاية نجد طائفة من الكتاب يشايلون الخطاب الأمريكي، ويرون فيه حمامة سلام وبلسماً لجراح الأمة المهيضة الجناح، وما علموا أن الصهيونية العالمية تسيطر على (المال) و(الإعلام) وأنها جادة في أجهاض المشاريع الإسلامية التي تتبناها مؤسسات الدولة وجمعيات المواطين الخيرية، وفي مواجهة هذا التعنت والتدخل السافر في أخص الخصوصيات يجنح العقلاء المجربون إلى السلم والدفع بالحسنى والاتقاء قدر المستطاع، مفضلين ركوب أهون الضررين. ولست أدري ماذا سيخرج به أصحاب ثقافة التملق والانحناء والصدمة الحضارية الذين ما فتئوا يمطرون مفردات الإسلام ورجالاته بوابل من الاتهامات التي تصب في ملفات الادعاء الغربي ضد الإسلام؟. ولست أدري هل قرؤوا الخطاب المفتوح للسعوديين من (تانباسي هسو) فاستجابوا؟ وهل آلمتهم الركلات التي يستدبرهم بها (حيراند بوزنر)؟ أم أن جراحهم ميتة ليس فيها إيلام، وأنهم سيظلون كما الأطفال أمام الحركات البلهوانية لمّا يفيقوا من الانبهار المتحبس والاندهاش المتخلف. أن يسبقنا الغرب في ظاهر الحياة الدنيا، وأن تكون مكتشفاته محل تأمل ومجال تفكير، فذلك الحق الذي لا يكابر به إلا معاند، وأن ننبهر ونفقد التوازن والسيطرة ونعيش ذهول الصدمة، فذلك الخسار والبوار، والمأزقية في تشابه البقر، وثقافة اليأس، وجلد الذات، وتلك خليقة المستغربين التي نواجهها.
والذين يرمون بثقلهم في مواجهة ما يسمونه ب (الإسلامويين) يخلطون الأوراق بشكل يشي بأن وراء الأكمة ما وراءها، إذ لا يفرقون بين من يحيل إلى الكتاب والسنة، ومن يحيل إلى فكر الطائفة ورؤية الفرقة، ومن هو على المحجة البيضاء، ومن هو تائه في بنيات الطريق، وفي المقابل نجد من الإسلاميين من يخلط في مواجهته بين (مثقفي المارينز) وطلاب القيم الحضارية التي أنتجها الإنسان في ظل أي حضارة. والمزعج والمريب أن بعض الكتاب لا تراه إلا مستهزئاً بالخيرين مستعدياً على مؤسسات الدولة ذات المهمات الإصلاحية، وعلى الجمعيات الخيرية ذات الفعل الإنساني، وحجة أولئك الداحضة بوادر أخطاء في التطبيق، لا تضاف إلى المبادئ، ولا تخرج عن المتوقع والمعقول، وإنما هي ممارسات تطبيقية مفضولة وظواهر طبيعية متوقعة. وكان الأجدى بهذا النوع من الكتاب أن ينطلقوا من حضارتهم مصلحين مجددين، لا أن ينطلقوا من مستنقات الآخر، ملوثين لمن حولهم، وألا يروا مستهزئين بالمظاهر، كالذين قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا...) أو مستعدين للسلطة، وكأنهم موكلون بالقعود للخيرين كل مرصد، إن هذا اللون من اللغط إمداد لأعداء الأمة، وتمكين لهم من رقابها، إذ كل ما تمسك به المؤسسات الغربية المعادية، وتعده حجة دامغة، إن هو إلا ذلك الطفح الرخيص من افتراء الكذب. وحين نحذر من النبش فإننا لا نمنح أحداً قداسة ولا عصمة، ولا نرى لمخلوق مكانة فوق النقد والمساءلة، ولكن نقد الذات يختلف عن جلدها، إن واجبنا جميعاً أن نواجه أعداء الأمة التي لا تفرق بين مداهن ومنافح، وأن نعرف أن مثمنات البلاد الحسية والمعنوية مستهدفة، وأن القبول باتهام الإسلام بصناعة الإرهاب شهادة من الأهل، يطير بها المتربصون فرحاً، ويعودون بها وثائق إدانة ومساءلة.
لقد لُملمت أطراف الإرهاب والتطرف بعد هدم (البرجين) ووضعت في سلة الإسلام والمسلمين، ومؤسساتهم التعليمية والدعوية وجميعاتهم الخيرية، واستجاب لهذه الفرية بعض الكتاب الذين يحملون العلم على ظهورهم، ولا يستظهرونه في عقولهم، ولا يتمثلونه في سلوكهم، ومن ثم استدعيت كتب وشخصيات ومناهج وجمعيات يخدم فيها الإسلام والمسلمون. وكان حقاً على المرجفين أن يفرقوا بين الإسلام السياسي، والإسلام المسيس، وإسلام اللعبة الكونية، وإسلام الكتاب والسنة. ولو أنهم فعلوا ذلك لما وسعهم إلا تبرئة الإسلام والمسلمين من أي اعتداء لا مبرر له ولا شرعية. والإعلام الأمريكي المتصهين الذين يقود حملة التشويه صدرت من بعض مؤسساته الحيادية دراسة، تؤكد بالأرقام أن الهجمات الانتحارية لا يقوم بها مسلمون فقط، وأن أكثر من يقوم بها هم (الهندوس) وبخاصة (هندوس سريلانكا) الذين يسمون أنفسهم (نمور التأميل) كما أن أول هجوم انتحاري في التاريخ قام به اليهود، وذلك من أشار إليه (روبرت بيت) أستاذ جامعي أمريكي متخصص بالإرهاب.
ومشهدنا الصحفي لا يعاني من (أزمة ثقافية) ولكنه واقع بطوعه واختياره في (ثقافة الأزمة)، بمعني أننا نتهافت على بؤر التوتر، وننقب عن الملفات الساخنة، وما من أمة ولا جماعة ولا أفراد إلا ولديهم من المشاكل والقضايا العصية ما لو عملوا على استدعائها لألهتهم عن كل عمل جاد، وفي الأثر (الفتنة نائمة) وهذا يؤكد أن الفتن موجودة، ولكنها نائمة، ومن الخير للإنسان السوي ألا يوقظها، ونبش القضايا النائمة تمثل ثقافة الأزمات. وكم نسمع ب (ثقافة الكراهية) و(ثقافة الموت) و(ثقافة الخوف)، وثقافات مضافات إلى ما لا نهاية، وهي كلمات تطلق على وقوعات لا على مبادئ. وكأنها الفتن التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة، ولو مُعجمت هذه الثقافات من خلال مقالات المرجفين، لكنا المصدر والمورد لكل الخطيئات، وكأن الله خصنا بهذا اللون من الثقافات. وليس من باب الصدفة أن تضاف كل هذه الثقافات الموبوءة إلى الخطاب الإسلامي المحلي، بوصفه الخطاب الفاعل والمؤثر، وقمعه يفتح ثنيات على حمى الله، والخطاب الإسلامي الرسمي المؤسساتي يمارس حق الدفاع عن نفسه، وليس مسؤولاً عن إسلام اللعب السياسية والتسيس (التكتيكي)، وهذه الإطلاقات التي تخلط الأوراق ماكرة بكل المقاييس، تلقاها السذج والمغفلون، وحسبوها من عند خطاب أمتهم. ولكي نجتاز المختنقات يجب أن نعدل عن نبش القضايا التي لا يشكل غيابها عائقاً لمسيرتنا الحضارية. وأن نشغل أنفسنا بإصلاح ذات البين، والتقريب بين وجهات النظر، وأن يكون نقدنا كما كان نقد الرسول صلى الله عليه وسلم (مالي أرى أقواماً..).
ومتى اختلفنا في وجهات النظر، وجب علينا الرد إلى أهل الذكر وأرباب الحل والعقد، ممن يردون إلى الله والرسول، ذلك أن مصلحة الأمة في الالتفاف بجماعة المسلمين، واحترام العلماء الناصحين، والتقارب في وجهات النظر، ونبذ الحديات والتوترات، وتبادل الاتهامات. ويد الله مع الجماعة، والشذوذ مؤذن بفساد كبير، إن الراصد الحذر تتبدى له اللوثة بأبشع صورها، فالكتاب لا ينفكون من إثارة القضايا الساخنة، وتحميل التيار الإسلامي وحده مسؤولية الإخفاق والتوتر، وخطأ التشخيص يؤدي إلى مضاعفة العلة، وذلك ما نراه رأي العين في المشهد الإعلامي محلياً وعربياً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل