مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:27 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
كتبة تحت الطلب..!
د. حسن بن فهد الهويمل


في إحدى العواصم العربية، ونحن على مشارف النهاية من مؤتمر ثقافي تختلط فيه السياحة بالمهمة، أو تأتي في أعقابه لتمسح أتعابه، عنَّ لي أنا ورفيقي الذي سبقني بالسفر، وسيتخلّف عني بالعودة أن نقلب أوضاعنا المألوفة رأساً على عقب، فالسائح في أخريات أيامه يشغله ترتيب متطلّبات العودة، وتؤلمه مخاضات المغادرة، وتربكه مشاكل تصفية الحسابات مع المتعاملين، وتطييب خاطر المرافقين. وفيما سبق من زيارات عمل وسياحة امتدت على مدى ثلاثين سنة، أُتيحت لنا فرص ذرعنا فيها كلّ الطرق، ومشطنا كلّ الزوايا، وزرنا كلّ المتاحف والمكتبات والآثار، ولم تخف علينا خافية لها مساس بالسياحة، الأمر الذي حفزنا على استدعاء السائق، وسؤاله عما لم تطأه قدم سائح، وأمام هذه المفاجأة تلبث ملياً، يحك صدغه، ويجيل نظره، ويقضم أظافره. وبعد تردُّد وجل، قال: تلك مفاجأة لم أفكر فيها من قبل، وتضاحكنا من ارتباكه، وقلنا له: دعها مفاجأة من عندك، ونحن طوع بنانك. خرجنا من عامر المدينة، والتوت بنا أزقّة ترابية مليئة بالحيوانات الأليفة والأطفال المتربيين، وفجأة وقف بنا على مشارف طريق ترابي ضيق، لا تعبره إلاّ الدواب والكلاب، وما ان طلب منا الترجُّل، انتابنا الخوف، فالطريق خال معتم وفيه التواء ووحشة، والمباني تكاد تتعانق في السماء، لتزيد من الوحشة.
لقد أحسسنا أنّنا دخلنا في دوامة الإرهاب أو ترويج الممنوعات، ونظرنا إلى بعضنا بارتياب، وفكرنا في أمر السائق، ربما يكون من أصحاب السوابق، لكنّنا نعرفه من قبل، كان أسبقنا إلى الصلاة، وكان أميناً، لم نعهد عليه خيانة قط. ولما اثَّاقلنا إلى المقعد الخلفي، ألحّ بالنزول، فلم نجد بداً من حزم أمرنا، والتوكُّل على الله، وتفويض أمرنا إليه، خرجنا من السيارة في خوف وترقُّب، وأحسسنا أنّ التعثُّر يعتري أقدامنا وألسنتنا، وقلنا بصوت متلعثم:
- إلى أين يا عوضين؟
- إلى مكان لم تطأه قدم سائح.
- وهل فكرت وقدّرت، نحن نخاف على سمعتنا، وعلى حياتنا، ولا نريد أن نُرى في مكان لا يليق بنا.
- ما عليكما، فأنا أعرف من تكونان.
ومشيناها خطى وئيدة، كأنّنا نحمل جندلاً أو حديداً، أو كأنّنا أسد (المتنبي) في وطئه للثرى، نحسب كلّ صيحة علينا، ونتنصّت تنصُّت المخبر. وفجأة هبّ لاستقبالنا أكثر من سمسار، كان في مقدمتهم رجل حليق الذقن، طويل الشارب، جاحظ العينين، حافي القدمين، حاسر الرأس، مهلهل الثياب، أسمر اللون، أغبر أشعث، نسل من باب ضيق. وقال: وبدون أيّ مقدمات:
- فرح أم ترح؟
- قلنا بصوت مشترك: سل صاحبنا.
- وانطلق السمسار إليه، وهو يردِّد: فرح أم مأتم. قال: لا هذا ولا ذاك.
- إذاً ماذا تريدون.
- مجرّد التعرُّف على (الوليَّات). وساعتها ضرب كفاً بكف، مفتعلاً الضحك الصاخب، وقال: الفرجة في السرادقات يا (باشوات)، هنا مجموعة من العجائز والأرامل والعوانس، ينتظرن من يحملهن إلى سرادقات التعازي، أو إلى مخيمات الأفراح بثمن بخس، يرد عنهن غوائل الجوع والفاقة.
- قال السائق: نحن نريد أن نتعرَّف على هذه المهن، وأن نقابل بعض العجائز، وسوف نُكْرم الجميع.
صاح السمسار بصوت يعرفه كلُّ من في الشارع إلاّ أنا وصاحبي، وهبّت العجائز والأرامل والعوانس من كهوفهن، كما الأسمال التي تعصف بها الرياح، وأشار بيده إلى من تجمّع منهن، فبدأ العويل والنحيب وشد الشعر، وتمزيق الملابس، وحثو التراب على الرؤوس. وكدنا نصدق أنّنا أمام كارثة لا تبقي ولا تذر، وما أن تألمت نفوسنا، وضاقت صدورنا، واغرورقت عيوننا، ضرب كفاً بكف، فانقلب النواح إلى ترنُّم، والعويل إلى غناء والنحيب إلى مكاء وتصدية ومواويل، والتلوِّي إلى تمايل، والارتعاش إلى زفن وهز أرداف، فانتابنا الابتهاج والسرور، ولم نتردّد في تكريم كلِّ من حضر.
وعدنا، وقد أخذنا العجب من قدرة النسوة المحترفات على الخلط بين نوح الباكي، وترنُّم الشادي في لحظة واحدة، وكأنّهن (المعري) الذي لا يُجدي عنده هذا ولا ذاك في رثائيته الخالدة:




غير مجد في ملّتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي
وشبيه صوت النعيِّ إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد


هذه الشريحة التي تحصل على قوتها من الفعل ونقيضه، تتحرّف لإتقان فنها والتأثير على جمهورها. وفي طريق العودة أخذنا بأطراف الحديث بيننا، وكان عن دهشتنا بهذا التلوُّن الحرباوي الذي لا يفصل بين متناقضاته الصارخة إلاّ لحظات.
وفي غمرة الاندهاش التفت إليَّ صاحبي، وقال: ألا تظن أنّ مجتمعك الصحفي يشبه هذه الفئة من (النائحات) و(المترنِّمات)، قلت: كيف؟ قال: إنّكم أصداء للأجواء المحيطة بكم، يتحسس المتابعون من خلالكم اتجاه الريح وتقلُّبات الطقس، لا تفكرون إلاّ بالتدفُّق على أنهر الصحف نائحين أو مترنِّمين حسب الطلب، وما من رأي تتفوهون به إلاّ وهو على موعد مع النقض، تغزلون وتنقضون غزلكم بعد قوة أنكاثاً، وتبنون وتهدمون، وتركِّبون وتفككون، وترفضون أن تُسألوا عما تفعلون. لم أمتعض من هذا الاتهام، فليس هناك مجتمع ملائكي، كما أنّه لا يمكن أن يكون مجتمع الكتّاب مجتمعاً شيطانياً، لا يقول إلاّ العهر أو الكفر. والواقعيون غير المثالبين، فهم يروضون أنفسهم على اختلاط الأصوات وأنكرها، ويعرفون أنّ كلّ تجمُّع فئوي فيه علية وأراذل، وهل عاب مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن كانت فيه فئتا: اليهود والمنافقين؟. والواقعية المعتدلية لا تقبل تدهور المصداقية، ولكنها لا تمانع من المداراة والاتقاء وتقديم الصدقة بين يدي النجوى. ولكي نحسن الموقف، ونقر في المشاهد ما هو قائم، لا ما نشاء قيامه، نقر بأنّ المشاهد الإعلامية العربية تفيض بالكتّاب الذين لا يختلفون عن (النائحات) و(المترنِّمات)، وليست الإشكالية في وجود المتردية والنطيحة والموقوذة من الكتّاب، ولكنها في تشابه البقر على المتابعين والمتلقِّين، وعدم القدرة على التفريق بين أصحاب المواقف وأصحاب المصالح. فهل (أحمد بهاء الدين) بمثاليته وتوازنه مثل (محمد حسنين هيكل) بانتهازيته ومزايداته؟ وهل (جهاد الخازن) بمنطقيته ومعلوماتيته مثل (عبد الباري عطوان) بتسليعه للكلمة ولجاجته؟ وهل (مراد هوفمان) بمصداقيته وعفّة لسانه مثل (روجيه جارودي) بخلطه وارتزاقه بامكانياته، إنّ من الخطأ أن نجعل المسلّعين للألسنة والأقلام والأفكار كالكرام الكاتبين، ومن الخطأ أن نربط بين الضعف والخيانة، فالعملاء لا بد أن يكونوا مقتدرين على الإقناع والاستمالة، واللاعبون الكونيون يصنعون عملاءهم على عيونهم ويمهدون لشهرتهم واختراقهم للأجواء والأدمغة وبدوهم بمسوح الطهر والنقاء، ليخدعوا السذج والمغفلين.
ولو أنّ نظّارة المشاهد الإعلامية ومن فيها يعرفون الصادق من الكاذب، لكان الأمر جد يسير، ولكن التمويه والتقنُّع يفوتان الفرص على الناصحين، وآلية الفرز غير قادرة على القول: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (سورة يس: 59)، والعقلاء المجربون لا يقطعون بنظافة المجتمع من متخللين بألسنتهم كما البقر، ولا يراهن على سلامة الأمة من المندسين الذين يتربَّصون بها الدوائر إلاّ الغر الذي لم يكتو بلهب اللعب، والمسلِّعون لإمكانياتهم المعرفية وقدراتهم البلاغية تعرف في وجوههم بؤس الشقاء وريبة الصدور، وكلّ مساوم على مثمّنات أمته يواجه، ولا يعالج، وموعظتنا لمن فيهم رسيس من المروءة لتدارك الأمر. ولو استحوذت علينا المثالية، وتحكّمت بنا الحدية، فحالت دون المصانعة والمداراة والاتقاء، لضرَّستنا الأنياب، ووطئتنا المناسم. وحين نضيق ذرعاً، بالتناقض في المواقف ومسايرة الأوضاع، وتقلُّبات الطقس، فإنّما نشير إلى كتبة لا يواجهون ضغوطاً، ولا يعيشون تحت وطأة التباس الأمور، وإنّما نقصد الذين يركبون رؤوسهم، ويسغفلون السذّج من الناس، ويقولون الشيء ونقيضه على مسمع ومرأى من المتابعين الراصدين، وهؤلاء المقترفون كمن بلوا بالقاذورات، ولم يستتروا، ومثل هؤلاء لا يحترمون مشاعر الناس، ولا يبالون بالمجاهرة، وكأنّهم ممن لم يستحوا، ومن لم يستح يصنع ما يشاء.
والراصد لفيوض الإعلام العربي عبر صحفه وقنواته، يضيق ذرعاً، بمن يميلون مع السياسة العالمية حيث مالت، يناقضون أنفسهم، ولا يحتالون لتمويه كذبهم، فالسياسة في أبهى صورها، لا تعدو أن تكون (فن الممكن)، واللاعبون الجشعون لا ينظرون إلى الوثائق القولية عن اللعب السابقة من دراسات ومقالات وتصريحات وتحليلات ومعاهدات، والأغبياء المنفذون قد لا يعرفون قوانين اللعب، ولا يحسنون تهيئة النفوس لعكس الطريق، والذين يرقبون المشاهد في أمسها ويعونها في يومها ويستشرفون لمستقبلها، يفجؤون ويفجعون باختلاط المياه العذبة بالآسنة، وأكثر الناس تخدعهم اللعب، ويحسبون أنّ رهان الأقوياء هو نهاية التاريخ، ومن ثم لا يرفعون أقلامهم في سبيل تأهيلها، حتى إذا لعبت دورها، ورحلت لتحل محلها لعبة ثانية مناقضة قالوا عنها ما قالوه عن سالفتها، وهم بهذا يناقضون أنفسهم من حيث لا يشعرون. والمتابع للأحداث الجسام التي تمر بها الأمم يعرف كم هو الفرق بين خطاب ما قبل الحدث وخطاب ما بعده.
ولعلّنا لا نجد حرجاً من استعادة الهدير الثوري، قبل نكسة حزيران، وخوار القوميين قبل الحروب العربية العربية، والرغاء الاستسلامي بعد اتفاقية (كامب ديفيد)، ولعلّنا نقفز لنرى ونسمع خطابات ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وأثناء مقاومته في أفغانستان، وما بعد ذلك، وخطابات ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعده. ودعك من الخطابات المرهصة والمشيِّعة لحروب الخليج الثلاث، وبعد الاستعراض السريع لهذه الخطابات والخطباء نتساءل: هل هناك تقارب بين الخطابات أم أنّ هناك تناقضاً صارخاً، لا يمكن تصوُّره ولا احتماله؟. وهل أحد يقدر على التبرير والتعذير، والتاريخ يحتفظ برموز الكذب والمبالغة وبراعة المراوغة؟ وأين المعذرون من (أحمد سعيد) و(الصحاف) و(هيكل) و(عطوان) وما هؤلاء نشزٌ في السياق ولا في الأنساق، والمؤلم ليس في التدافع على القول، ولكنه في توظيف القدرات المذهلة، لافتراء الكذب، كما يفعل (هيكل)، في هذه السن وفي ظل هذه الإمكانيات والتنفذ، ولقد هممت من قبل أن أنشر مقالاً في أعقاب صدور كتابه (خريف الغضب) تحت عنوان (من خريف الغضب إلى خريف السمعة) وحين وقعت على مستودته أسفت على تأجيله خوفاً من ردود الفعل. فما من متابع ل(هيكل) يشك في اقتداره وبراعته وجمال عرضه وغزارة معلوماته وكثرة أشياعه. وعندئذ هل (النائحات) اللاتي يحضُرن مأتماً ليمارسن البكاء والعويل، ثم ينتقلن في ذات اللحظة إلى سرادق احتفالي، ويمارسن الرقص والغناء، للحصول على البلغة وسد الرمق، كما الكتّاب المتقلِّبين بين لحظة وأخرى تكاثراً وجشعاً؟ أم الكتّاب الذين لا يمتلكون مواقف ولا يستبطنون (أيديولوجيات) كما (النائحات) و(المغنيات)؟ وحين نستلطف العجائز المرتزقات، فإنّه من الخطأ الفادح أن نستسيغ التذبذب الموقفي من كتّاب يعدون أنفسهم من قادة الفكر وحماة الثغور. وكلّ من تقلّب مع الطقس فهو نائح أو مترنِّم، ومن البلية أن يجد اللاعبون الكبار كتبة متطوعين، يريقون الأحبار ويبيعون ماء الوجه لشرعنة الاعتداء على حريات الشعوب والتدخُّل في شؤونها الخاصة وانتهاك سيادتها، ومن العار أن يعترض بعض الكتبة على إبداء مشاعر الاستياء من المقتولين بأفتك الأسلحة، وأن يحيل هذه المشاعر وهي أضعف الإيمان إلى وحشية المسلمين.



(حبل الفجيعة ملتف على عنقي
من ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا)


وإذا كان اليمين المتطرف الأمريكي يقول بأنّ (إعصار كاترينا) عقوبة الخروج من (غزة)، فمن ذا الذي يلوم المقهورين في إبداء مشاعرهم العفوية، ثم لا يتردّد في تحميله على الخطاب الإسلامي ظلماً وعدواناً.
وكتابات الحيص بيص تحال إلى حرية التفكير والتعبير، ويتطلّع هذا الصنف من الكتبة إلى أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وكيف يقرأ الراصدون والمتابعون ما يفيض به الإعلام العربي من نيل جارح لكلِّ ما هو إسلامي؟ لمجرد أنّ الغرب تحوّل من سلفيته وجهاديته أثناء حرب الأفغان إلى غسيل الأدمغة وشحن النقيض، ولم يتحرّج من وضع الإرهاب في سلة الإسلام، وفات الطيبين السذج أنّ الإسلام لافتة يعلقها على واجهته كلُّ من تحرّكت في أعماقه شهوة التسلُّط، ولأنّ الغرب القوي المتغطرس قد أحال كلّ تصرف مدان إلى الإسلام، فقد شايله البعض دون وعي، وأصبح الإسلام المصدر الوحيد للعمليات التي تنفّذ في أيّ مكان، وكأني بالحجر يكاد ينادي: أيها الغربي هذا مسلم ورائي تعال فاقتله، ومصيبة المسلم أنّه لا يملك كما اليهودي شجرة (الغرقد)، ليحتمي وراءها. أحسب أنّ هؤلاء الرجال الجوف، وتلك العجائز الخاويات يدخلون ضمن الأشباه والنظائر، ويختلفون في النوايا والمصائر، والأعمال بالنيات. بل أكاد أجزم بألاّ فرق بين كاتب (براقشي) يطلع كلّ يوم بموقف يحرض على أهله وعشيرته، وعجوز يحملها سمسار على ظهر عربته مع أخريات لإحياء مأتم أو عرس، وفي النهاية تموت العجائز، وتزهق أنفس الكتّاب، ثم يبعثون على نيّاتهم.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل