مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:28 PM   #97
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تداعيات اليوم الوطني..!
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما ذكرنا (اليوم الوطني) تذكرنا: الزمان والمكان والإنسان واستذكرنا الظروف العصيبة التي أنجز فيها المؤسس ورجالُه هذا الكيان الكبير. وكل التداعيات تتجسد بشخص الملك (عبد العزيز) رحمه الله. والمتحدثون عنه من خلال هذه المناسبة، ينظرون إليه من زوايا متعددة، وستمضي المناسبة، وتمضي معها الأحاديث الطوال، وتبقى في شخصية الملك عبد العزيز مجالاتٌ رحبة للإشادة والدراسة.
في طفولتي المبكرة سمعت الناس يتهامسون فيما بينهم عن وفاة الملك (عبدالعزيز)، وكلما أقبلت على أبويَّ لزما الصمت، أو صرفا الحديث إلى شأن آخر، لرهبة الحدث، والخوف من عقابيله. كان الناس كلهم في وجوم وترقب، ولقد كنت يوم ذاك مع لداتي نلعب حول (جامع بريدة)، والإمام يخطب مؤبناً ومتفجعاً، وبعد الفراغ من الصلاة التي لم نشهدها، سمعت المؤذن ينادي لصلاة الغائب على فقيد الأمة، لم يكن الحدث ملفتاً للنظر بالنسبة لنا كأطفال، ولهذا مضينا في لعبنا، وكل همنا التنقيب في ساحات الدكاكين الترابية عن شيء نمضغه أو نلعب به. وقبل هذا التاريخ، وأثناء زيارة (الملك عبد العزيز) الأخيرة للقصيم، قبل ستين عاماً، كنت مع أمي مختبئاً في عباءتها بين مئات النسوة اللاتي خرجن من خدورهن، ينظرن من تل رملي مطل على احتفالية (أهالي بريدة) بمقدم جلالته، كما خرجت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتنظر إلى الأحباش، وهم يزفنون في المسجد. كان من أبرز مظاهر الاحتفاء العرضةُ السعودية، وما يصاحبها من زخات الطلقات النارية. ولما انتابني الخوف من اشتعال السماء بالنار، أسرعت بي أمي إلى البيت غاضبة من فوات المشاهد الممتعة.
لما تزل تلك الصورة ماثلة أمامي، ولما يزل موقع العرضة والاحتفال، وكأنه إلى الآن يفيض بالرجال والنساء، لقد كان في تقاطع (طريق الملك عبد العزيز) مع (طريق الملك فيصل)، وكان (الملك عبد العزيز) بطلعته البهية يزجي الصفوف تحت عَلَم التوحيد بلونه التفاؤلي، ويشارك المحتفين الغناء والرقص الرجولي. وتمضي الأيام سراعاً، ويشُبُّ الطفل عن الطوق، وتسوقه المقادير، ليكون دارساً، ومدرساً، وأستاذاً جامعياً، ومؤلفاً، ومشرفاً، ومناقشاً، ومحكماً في متعلقات أدب الجزيرة وتاريخه المرتبط ارتباطاً وثيقاً ب(الملك عبد العزيز)، ويتحول (الملك عبد العزيز) من حاكم عربي مسلم إلى مادة تاريخية، تتقاطع مع كل الأشياء، وهكذا العظماء، يشغلون المشاهد: أحياءً وأمواتاً، وإذ لم تمر بي هذه الشخصية الفذة في حياتها إلا مرتين: مرة في الاحتفاء الذي أرهبني، ومرة في الوفاة التي لم ترعني. ولكنها أثارت فضولي وتساؤلي: من يكون هذا الشخص الذي جمَّد الحركة، وغير الأوضاع، وهزَّ النفوس، وأسال الدموع؟
لقد قرأت الكثير عن هذا الإنسان الفذ في كتب المؤرخين والرحالة والمستشرقين الأنصار منهم والخصوم، وسأظل أقرأ، وسيظل التدفق المعرفي عن بطولاته بازدياد، وكلما فرغت من قراءة تطوعية، أو رسمية، أحسست أن الشخص يكبر في عيني، وأحسست أنني أطلب المزيد. بالأمس دخلت مكتبتي، ووقفت أتأمل ما يخص الجزيرة العربية وتاريخها وآدابها ورجالاتها من كتب في التاريخ والأدب والسياسة، ووجدت ان الذين موْضَعوا (الملك عبد العزيز)، أخذتهم شخصيته، وبهرتهم عبقريته، وبخاصة أنه لم يتلق علم السياسة في الجامعات، وإنما حذق ذلك كله من دقة الملاحظة، وطول التجربة، ورجاحة العقل. والحياة مدرسة العباقرة والموهوبين، فكان أن اتفق الأنصار والخصوم على أنه شخصيةٌ استثنائيةٌ.
كان فارساً ومتفرِّساً، وحليماً حكيماً.
قوياً بغير عنف.
وليناً بغير ضعف.
يلبس لكل حدث لبوسه، فلا يضع السيف في موضع الكرم، ولا يضع الكرم في موضع السيف، قوياً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، يمنح الثقة لرجاله بقدر ما يمنح الفرصة لخصومه، فإذا بالفئتين تستويان بالوفاء له والإعجاب به. كان شخصية جذابة مهيبة. يفد إليه كبار الساسة والمفكرين بمهمات مصيرية، وكل رهانهم أن يستحوذوا عليه، وأن يجعلوه غنيمة لدولهم، فإذا تراء الجمعان، أصبحوا هم الغنيمة الطائعة. يَصْدُق معهم، ويضعُهم أمام ضمائرهم، ويناشدُهم المصداقية، ويسبقهم إلى مكارم الأخلاق، فيكون لهم قدوة.
لقد عرفت الملك عبد العزيز في الواقع، لأن كل ما نحن فيه، وما نعيشه ونعايشه ثمرةٌ من ثمرات جهده. وعرفته عبر الكتب، فكان أن تمكن ذاتاً ومعلومة، وسيظل ملء السمع والبصر.
عندما أعددت رسالتي للماجستير (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) كان تاريخ (الملك عبد العزيز) واهتمامُه بالأدب مادة خصبة لهذه الأطروحة، فانجذبت إليه، وانجذب معي المناقشون للرسالة، من أساتذة كلية اللغة العربية ب(جامعة الأزهر).
وعندما أعددت كتاب (بريدة حاضرة القصيم)، كان (الملك عبد العزيز) مادة الكتاب في البعد السياسي والتعليمي والاقتصادي، وسائر وجوه الحياة المتحضرة، هذا الحضور أثار كوامن الرغبة في مزيد من الاختراق لحيواته الحافلة بجلائل الأعمال.
وعندما أعددت رسالتي للدكتوراه، عن الأدب العربي الحديث في (المملكة العربية السعودية)، كان تاريخ (الملك عبد العزيز) ومنجزاتُهُ مصدرَ الرسالة وموردَها.
وعندما درست شعر الشاعر الكبير (محمد بن عبد الله بن عثيمين) في كتابي (سعوديات بن عثيمين) تبين لي من خلال ثلاث وعشرين قصيدة مدحَ بها الشاعرُ (الملك عبد العزيز)، أن هذه الشخصية ثرةُ العطاء، متعددةُ الجوانب والمواهب، وأنها ألهمت الشاعر عيون الشعر.
وعندما اشتركت في تأليف كتاب (الملك عبد العزيز في عيون شعراء أم القرى)، والذي يقع في مجلدين، ويشتمل على كل ما قيل في (الملك عبدالعزيز) من شعر على مدى ثلاثين سنة، أحسست أنني أتهجى تلك الشخصية، وأنني لما أزل في أبجدياتها.




كان مسلماً لا يساوم على إسلامه.
وكان عربياً لا يزايد على عروبته.
وكان مواطناً متفانياً في حب وطنه.


أنجز وحدة إقليمية لم يسبق لها مثيل. قَدِم إلى نجد من منفاه في (الكويت) تتهاداه التنائف أطحل، واختار شهر رمضان لنقص المؤونة وخوف العيون، يسري ليلاً، ويختفي نهاراً، حتى إذا بلغ مشارق الرياض، نثر كنانته، فلم يجد فيها إلا قوتين:-
- مشروعية مطلبه، فهو سليل ملك عريق.
- وسمعة أسرته الطيبة المتمكنة من القلوب.
فكان أن خفق بهذين الجناحين، على وهاد الجزيرة ونجادها.
ولأنه مُصلحُ فسادٍ، وجامعُ شتاتٍ، وموحدُ كلمةٍ، فقد تحركت المصالح التعارضة في وجهه، الأمر الذي طال معه أمد (معركة التكوين)، لأكثر من ثلاثة عقود، وفي النهاية حقَّ الحقُّ وزهقَ الباطل، وأعلن (الملك عبد العزيز) وحدة البلاد، تحت مسمى (المملكة العربية السعودية) ليبدأ بعدها (معركة البناء) الحضاري.
هذا اليوم الذي وضعت فيه الحرب أوزارها، وأُعلنت فيه الوحدةُ، يُسمى ب(اليوم الوطني)، وهو ما نعيشه اليوم، ونتحدث عنه، وننعم بخيراته. هذا الكيان بكل ما يعج به من تعليم، وصناعة، وزراعة، وإعمار، وثراء، وأمن، واستقرار، وتلاحم، معطى من معطيات هذا اليوم، ومنجز من منجزات (الملك عبد العزيز) الباهرة. فهل يا تُرى يستحق هذا اليوم مثل هذه الاحتفالية؟ لتذكُّر الأمجاد، وتَذْكِير الأبناء ببناة الحضارة، والوفاء للآباء والأجداد الذين التفوا حول قائدهم الفذ، ومنحوه الأنفس والأموال. إن من واجبنا التوجُّه إلى الله بالحمد والشكر، وترجمة الحب إلى عمل إيجابي، لخدمة هذا الوطن، وتحقيق الحياة الكريمة لإنسانه، وتفادي الهتافات والشعارات الجوفاء، فالمواطنة الحقة: صدقٌ وإخلاصٌ ونزاهةٌ وعملٌ مشرِّفٌ وحمايةٌ لمثمنات الوطن، والتفاف إيجابي حول القيادة يتمثل بالوفاء والمناصحة. أحسب أننا لن نكون أهلاً لما وهبنا الله إن لم نشكر المنعم المتفضل، وندعو للمؤسس بالرحمة والمغفرة، ولعقبه بالنصر والتمكين، إن دولة آمنة مطمئنة، تشق طريقها وسط الأعاصير بثقة واعتزاز لجديرة بالبحث عن لحظاتِ تشكُّلها، والتعرفِ على بُناتِها، وتعريفِ الناشئة بلحظات التكون ومسيرة البناء عبر هذه المناسبة السعيدة، وتحويل هذا اليوم إلى محطة تذكر واسترجاع وتقويم واستئناف جاد للأداء السليم، وبخاصة في تلك الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية. ويقضي (الملك عبد العزيز) نحبه بعد إنجاز وامتياز، ويترجل عن سدة القيادة، ليتلقى الراية من بعده أبناؤه. ويقضي رجال (الملك عبد العزيز) نحبهم ليتلقى المسؤولية من بعدهم أبناؤهم، وتمضي المسؤولية مع من ينتظر، ولم يبدلْ تبديلاً. هذا الكيان أمانة في يد أبناء المؤسس، وأبناء رجاله، و(اليوم الوطني) الذي يمر بنا كل عام، جدير بأن يكون مشروع فعل رشيد وقول سديد، ومحاسبة للنفس، واستشرافاً للمستقبل، وما لم نراجع أنفسنا بثقة واطمئنان وشفافية تحول اليوم إلى ممارسة نمطية غير مجدية، حفظ الله البلاد وأهلها وسدد على طريق الحق قادتها، وردَّ كيد أعدائها إلى نحورهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل