مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:29 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الرأي العام بين الاختراق والانغلاق..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


كل ظاهرة جديدة في لفظها أو في وجودها، يتوسل المتلقي بالتساؤل عن مدلولها اللفظي ومفهومها المصطلحي، وعن أمدائها ومجالاتها ومشروعيتها، وأسئلة مثل: ما الرأي العام؟ وما آليات الاختراق؟ وما وسائل الانغلاق، أو ما يمكن تسميته بالحماية والحجب؟. أسئلة مشروعة ومحتملة، وقد تكون الإجابة عصية، ولكنها ضرورية، وقد يكتفي المتلقي بالمعهود الذهني وإن قل أو ضل.
وأصعب شيء عنده فيما أرى تعريفُ المعرَّف. فالظواهر العصية التجلي على حقيقتها هي البدهيات، ك(الحب) و(السعادة) و(الشعر) و(الجمال)، وتلك أشياء نعيشها، ونعيش معها، ولكننا لا نستطيع تحرير مفاهيمها وتحديد معانيها بالقدر الكافي، وكما قيل عن (الفقر) و(المسكنة). و(الحمد) و(الشكر)، (والكرم) و(السخاء) إذا اجتمعا تفرقا، وإذا تفرقا اجتمعا.
فالدلالة تتغير بالسياق أو بالمناسبة، بالعموم أو بالخصوص، بالمجاز أو بالحقيقة، بالوضع أو بالعرف والشيوع. ومن ثم لا يغني الأصل الدلالي عما سواه من معطيات دلالية أخرى.
وللخلوص من دوامة المفاهيم، وهي غصص المشاهد ومتاهة المختصمين، نعود إلى جذر المصطلح اللغوي. ول(ابن فارس) رؤية في الأصل الواحد والأصول المتعددة في كتابه (معجم مقاييس اللغة). ف(الراء، والهمزة، والياء)، أصل يدل على النظر بالبصر والبصيرة، وفي محكم التنزيل {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. و(الرأي العام) ألصق بالبصيرة منه بالبصر، وقد تكون له فراسة تحمل على الفعل ورد الفعل، وفي الأثر الضعيف: - (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله). وكلمة (العام) تلغي التشيؤ المحدد بوصف، ومثلما اختلف الفقهاء حول مفهوم (الإجماع) فإن علماء الاجتماع والسياسة اختلفوا في مفهوم (العام).
والرأي ما يراه الإنسان الفرد أو الأناسي عبر أي تجمع يوحد بينهم، ويتحدد على ضوئه تصرفهم. والتلقي يعقبه التفكير ثم التعبير بالصوت أو بالفعل. والتفكير فريضة إسلامية: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}{أَفَلَا يَعْقِلُونَ}{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}. وتلك استفهامات إنكارية، تحفز على التعقل والتفكر والتدبر والتفقه. وحين ندب الله إلى التفقه في الدين استعمل فعل النفور، وهو السرعة والمبادرة {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. ولقد عاب الذكر الحكيم القلوب التي لا تفقه، والعيون التي لا تبصر، والأذن التي لا تسمع، ونقم على اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، واتخاذ الهوى إلاهاً. وكل هذه اللفتات معالجة استباقية لترشيد (الرأي العام) وهو معرض لكل هذه الأدوات. وأخطر ما تعانيه السلطة التجييش العاطفي، وهو الداء العضال الذي يعاني منه (الرأي العام) وحمايته من اختراقات التضليل حماية لمثمنات الوطن وإنسانه. وأخطر الأحوال التضليل من الداخل. ف(الرأي العام) يحصن في الغالب من اختراقات الآخر المناقض. ولهذا أصبح الإنذار مطلباً شرعياً للتوعية وأخذ الحذر، فكأن القوم - وهم (الرأي العام) - مهددون بالتضليل، ولا سيما أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن المنافقين والكفار وما بدر منهم من دسائس ومكائد. وتيه (الرأي العام) من الخلطاء الذين يداهنون ويركنون ويهرولون ويحسبون أن (الليبرالية) و(الديمقراطية) مطلق الحرية، والعدل والمساواة، ولو أنهم عادوا إلى المعاجم والموسوعات الغربية المترجمة، لعلموا أن (الحرية) مفردة من مفردات تلك المصطلحات، وأن نجاح الغرب في تسليمه لأنظمته ودساتيره، وأن إخفاق المسلمين في عدم تفعيل مبادئهم، وأن حل مشاكلهم ليس في اللحاق بالآخر، ولكنه في إعادة النظر في الذات.
وإذا كانت الإشكالية في التشكيل الذهني للرأي العام المؤثر في المسار والصيرورة فإنها الأصعب في تحديد (الرأي العام)، والتفريق بينه وبين جماعات الضغط والأحزاب والمنظمات والهيئات والنقابات، والتكتلات: العرقية والطائفية والإقليمية. وهي الأصعب أيضاً في تحديد مصادر التأثير عليه، وفي الخارج منه والداخل فيه. فهل النخبة - على سبيل المثال - من (الرأي العام)، أم هي مصدر التأثير عليه وتوجيهه؟ المستفيض أن هناك عقلاً جمعياً يتجلى في المظاهرات وجماهير الرياضة والفن، وسائر التكتلات، وعقلاً فردياً غير مندفع ولا مهتاج. والعالم والمفكر حين يندمجان في الجماعة، يكونان جزءاً من الرأي العام، وحين يعتزلانها، يكونان من النخبويين، يمارسان تشكيل الرؤية العامة. ولقد تجلت هذه الإشكالية في (شاعر غزية) الذي أبان لهم نصحه، وأقر أنه منها في الرشد والغواية، فهو في مناصحته نخبوي، وفي معيته جزء من (الرأي العام).
وحديثنا عن (الرأي العام) لم يمتد إلى المكون والطبيعة والحد والتعدد والمجال، وإمكانية الاتفاق أو الافتراق مع المجتمعات الأخرى، ولا في طرق الاتصال وتحليل المعلومات وصناعة النجوم وضبط الدعاية، فذلك مجاله الدراسة الموضوعية المعتمدة على الخطة والمنهج والكم المعرفي. ومع أهمية ذلك فإننا سنقف بالحديث عند خطورة تشكل (الرأي العام) تشكلاً عشوائياً متعدد الرؤى والتصورات في غياب مؤسسات المجتمع المدني، أو عجزها عن مواجهة المرحلة بكل إمكانياتها الرهيبة.
والحديث عن الاختراق والانغلاق يستدعي النظر في آلية النفاذ إليه، وآلية التمترس والحماية بالحجب أو بالاستباق. فالنفاذ تتنوع خطورته بتنوع المصادر والأهداف، والاحتراس تتنوع مستوياته بتنوع أساليب المواجهة. فالمنع، والرقابة، والتحذير، والتخويف، والتحريم، أساليب مشروعة، ولكنها مفضولة؛ لأنها دون التوعية والتربية والاستباق والتصدي المتكافئ والمنافسة على (الرأي العام) بوصفه مجال التحرف. إن (الرأي العام) المخترق أو المستبطن من الداخل بحاجة إلى آلية تشكيل لا إلى سياج حفظ، إذ لم يعد بالإمكان الاقتصار على الأمر والنهي والتخويف والتسييج، وإنما الإمكان والفائدة في التربية والتوعية، وتوفير الأجواء الملائمة، التي تمكنه من التضلع المعرفي السليم والمواجهة الذاتية. والإحالة إلى الحرية الشخصية، وحرية التعبير والتفكير والممارسة، والتعويل على البقاء للأصلح إحالة فيها نظر. فالحرية تختلف عن الفوضوية، و(العقد الاجتماعي) يضبط الحرية ولا يلغيها، ولا يمكن أن نتصور تجمعاً إنسانياً إلا بضوابط متفق عليها ومسلم لها، كما أنه لا هوية إلا بسمة مميزة. فالمسلم غير النصراني واليهودي والعلماني، ولكل قوم نحلة تحكم الحرية ولا تُحكّمها. والحرية التي لا يحكمها العقد حرية (وجودية) تقوم على الفوضى والرفض والعصيان. والحياة: حسية كانت أو معنوية، محكومة بنظام، ولا حياة بدون ذلك، وليس بين الحياة بضوابطها وبين الحرية تعارض.
والذين تكبح جماحهم ضوابط الحياة يحتجون بالحرية. ومسخ السمة والخصوصية مطلب الآخر، وليس مقتضى الحرية {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. واتباع سنن الآخر قضية مسلمة (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، والتشبث بحرية القول والفعل تعزيز للإرضاء واقتفاء للأثر، وستظل حدود الحرية مجال تنازع.
ومشكلة الإنسان بين التخيير والتسيير لما تزل مضمار لزز بين الفلاسفة وعلماء الكلام، وحرية الاختيار والفعل ضرورة ومطلب إسلامي، ولكن لا بد من ممارسة الحرية الإسلامية المقيدة بالمقاصد، وممارسة الأطْر والمناصحة بحدودهما الشرعية. والأمة الإسلامية أمة الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرعاية (كلم راع....)، وتراتب المسؤولية التنفيذية. والمسؤولية الإسلامية لا تمضي مع مطلق الحرية التي يمارسها الغرب، ويركن إليها المستغربون. هناك حرية تحيل إلى (الديموقراطية)، وحرية تحيل إلى (الليبرالية)، وحرية تحيل إلى (الوجودية)، وحرية تحيل إلى (الإسلام)، وحريات متعددة بتعدد الملل والنحل، تلتقي وتفترق، إذ لكل حرية ضوابطها وأمْداؤها. ومتى ربطنا سائر المؤسسات بالمقتضى الشرعي طائعين مختارين، فلا بد من تمكين هذا المقتضى، ليأخذ دوره، وإلا طالنا المقت الكبير {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وشملنا عقاب من لا يتناهون عن منكر فعلوه. وسمة النخبوية الصادقة المخلصة تحديد (الموقف) و(المصدر) و(الانتماء) تحديداً لا تضطرب معه الرؤية، ولا يميَّع فيه الإسلام، ولا يلمَّع فيه الطغام، إذ كل متمرد أو متردد حين تلجمه الحجة يقول: لا مزايدة على الإسلام. والإسلام لا يتحقق إلا بثلاثة أشياء: الاعتقاد والقول والعمل. وما لم يصطحب المفكر والعالم والسياسي وسائر المتنفذين هذا الثالوث فقدوا المصداقية، وقالوا ما لم يفعلوا، وأضلوا (الرأي العام)، ويقال مثل ذلك عن مقتضيات المواطنة، فالشعارات والهتافات أصباغ حائلة، وما قتل الوطن إلا من وتَّنه من الثوريين.
والخطورة أن الخطاب النخبوي مفردة من مفردات التأثير على (الرأي العام) الذي يتشكل من عدة مؤثرات تربوية وإعلامية وثقافية ودينية: محلية وخارجية. وليست رؤيته انبثاقاً ذاتياً فورياً، وما كان وجوده طارئاً، بل ظل كامناً في المجتمع الإنساني البدائي على شكل مفهوم صوري، تحول في النهاية إلى حقيقة تصديقية ماثلة للعيان، تحسب لها المؤسسة السياسية كل الحساب، ولا سيما في الأنظمة (الديمقراطية) التي توفر الحرية، وتحيل مؤسساتها إلى الشعب، ولا ترد إلى مرجعية نصية، ومن ثم لا يكتسب أي قرار شرعية النفاذ إلا بموافقة جماهيرية عن طريق الاستفتاء. أما المجتمعات الأخرى فمتفاوتة في كسب ثقته، فقد تحيل بعض تلك الأنظمة إلى النص الشرعي بوصفها تجمعاً إسلامياً، أو إلى مقاصده، وقد لا تكون إسلامية ولا (ديمقراطية)، ولكل قوم شرعة ومنهاج اختطوها لأنفسهم، أو توارثوها على مبدأ: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فرضوا بها، أو فرضت عليهم.
والفكر السياسي الإسلامي له مصادره النصية، المراوحة بين الاحتمال والقطع، أو الاجتهادية المتسعة للاختلاف المعتبر. ول(الشافعي) و(ابن عقيل) رؤية صائبة ودقيقة في ربط السياسة بالمرجعية الشرعية، فعند الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، و(لابن عقيل) تحديد وتفصيل: إذ يشترط عدم المخالفة، ولا يشترط التنصيص، أي لا يقول ب(لا سياسة إلا ما نطق به الشرع)، وهناك فرق بين ما نطق به ووافقه. وقد تحيل هذه الأنظمة قضاياها لكسب الثقة والمشروعية إلى (الرأي العام) المفترض فيه فهم المقاصد وتمثلها، وبخاصة حين تتعدد الخيارات.
وأنظمة الحكم والدساتير هي التي تحدد آلية كسب الثقة ونفاذ القرارات. وفي المقابل فما كل قرار يُربط بنصه الشرعي، ولكن التدخل النصي يكون في حال الجهل بالمشروعية أو تعارض الآراء، استجابة لقوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}} النساء 59). وإذ تكون أطر وآليات ومبادئ فإن (الرأي العام) يضل أو يهتدي وفق رؤية المتعالق النخبوي، والإشكالية هنا تكمن في عدم التفريق بين (الأطر) و(الأيديولوجيات)، ف(الديموقراطية) على سبيل المقال إطار من جهة و(أيديولوجية) من جهة أخرى، ومكمن الخلل في خلط السمات والخصائص.
وإذا تعددت النظم السياسية، وقبلتها الشعوب، لم يعد هناك مجال للمفاضلة ولا للتصدير، فالناس أدرى بأمور دنياهم، ومن حقهم التمتع بسيادتهم المنوط أمرها بمجالس منتخبة أو مختارة على كل المستويات الدستورية والتشريعية والتنفيذية. وفيما يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي فإن حرية الاختيار مقيدة بموافقة النصوص أو المقاصد الإسلامية. ومع تلك الضوابط المشروعة فإن (الرأي العام) عبر من ينيبه من أهل الحل والعقد يقرر نظام الحكم، وأسلوب التداول، وتراتب المسؤوليات. والفكر السياسي الإسلامي له تجربته ونظريته. والقبول الطوعي بالنظام يمنحه المشروعية، ويقتضي العمل على ضوء محققاته، و(الرأي العام) هو المؤشر على الشرعية. وقناعته بالنظام الذي لا يشكل عقبة في طريق التطور لا يخول لكائن من كان خلط أوراقه، وتفويت الفرصة المواتية لتلاحم السلطة مع الجبهة الداخلية. و(الرأي العام) لا يظهر عنقه إلا حين يحس بأن هناك حدثاً ما يصادم مسلماته وأنساقه وسياقاته، وليس هناك ما يمنع من القبول بالتغيير، ولكن يجب أن يكون وفق الضوابط والممارسة المرحلية التي لا تربك الأمة، ولا تعرضها لصدمة المفاجأة.
وأياً ما كان الأمر فإن على المؤثرين على (الرأي العام) أن يلموا بأنظمة الدولة، وبخاصة (النظام الأساسي للحكم) و(نظام مجلس الشورى) و(نظام مجلس الوزراء) فكل هذه الأنظمة استبقت تحديث (الأطر) في ظل التأكيد الواضح على قواعد الشريعة الإسلامية. ولما تزل إمكانية الإضافات الأخرى على الأطر ممكنة وقائمة، أما القول عن إمكانية (الديمقراطية) أو (الليبرالية) أو (الدستورية) الغربية، وتجاهل تلك الأنظمة، فإن ذلك إرباك لا مبرر له، وتغريد خارج السرب.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل