الحقَّان: الفني والأخلاقي بين المعانقة والمفارقة
د. حسن بن فهد الهويمل
كلُّ من لاقيتُ يبدي خوفه، وإشفاقه على (أدبية السرد) و(شعرية النظم) من استفاضة مصطلح (الأدب الإسلامي) المستبطن ل (النقد الأخلاقي) بكل ما يقومان عليه من قمع ومصادرة للحق الفني ولحرية الفنان، وذلك ظن متسرِّع، فوَّت على المشهد الأدبي فرصة الاستقطاب للموروث والمجلوب، وعرَّضه لخطاب التّنافي.. وفي ضوء الفوات لا يجد المتحفّظون بداً من التردد والتساؤل.. ومن حق كل مستقبل أن يقدم بين يدي حديثه ما يشاء من تساؤلات عن كل نظرية لا يدري ما مرادها، لا لعدم القبول بحقها في الوجود، لكن لمزيد من الاطمئنان.. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.(260) سورة البقرة.
و(النقد الأخلاقي) سابق لمصطلحه المستوعب له، وقد تقصَّاه دارسون أكاديميون، منهم الدكتور (محمد مريسي الحارثي)، والدكتور (إسماعيل عبد الخالق)، والأستاذة (نجوى صابر) في كتب ثلاثة، تختلف منهجاً ونتائج.. ومن واجب المسوّقين للمصطلح الأعم أن يبثوا الثقة في النفوس، وألا يصادروا حق الاستنباء، وعلى الذين يجدون في أنفسهم حرجاً ترويضها على قبول الحوار الحضاري، وإلقاء السمع لسائر الأطروحات.. فما من مصطلح جديد إلا ويكون مثار شك وتساؤل، ولا تثريب على أي مستقبل أن يسأل أهل المصطلح وخاصته، وأن يتأمل مفاهيمهم لمقتضياته، فهم أهل الذكر، وهم الأحق بالتقديم، وإزالة الخوف، ولا مشاحة، فالمشهد الأدبي يتسع لأكثر من خطاب، ولكن أين المتفسِّحون في المجالس؟
ومبعث الخوف رواسب المفاهيم المتضاربة، والتزييف المتعمَّد لمقتضيات ما جدَّ من مصطلحات، لم يستوعبها المتلقي وفق مقاصد ذويها، وكل جدل عقيم يستمد سداه ولُحمته من ذلك التضارب أو من تأليه الهوى والتعصب المذهبي.. وطلاب المعرفة يحسمون أمرهم باستكمال ما ينقصهم، أما المريبون فهم كمن يعمد إلى اللغو وعدم السماع، ولو أن الأطراف المتناجين التقوا على كلمة سواء، واقتصر همُّهم على البحث عن الحق، لكان أن تحررت المسائل، ولما هُدِّمت كيانات ومذاهب، وتيارات يذكر فيها القول السديد والكلم الطيب.
ومرادنا للجدل والحوار أن يحررا المفاهيم، وأن يبلغا مأمنهما.. والحقيقة كما سَقْطُ الزند، لا يُوْريها إلا الاحتكاك.. و(الأدب الإسلامي) الذي يتحقق بالنقد الأخلاقي أحرصُ المذاهب على المواجهات الحضارية، فهو يمتلك العمق التاريخي والحجة البالغة والاستجابة للفِطر السليمة.. ومتى أُتيحت له الفرصة لتقديم نفسه وطرح مشروعه، استطاع أن يقنع الباحثين عن الحق.. فالمشروعية التي يشكك بها البعض، ليست مجالاً للجدل، فكل حضارة لها فنها وأدبها ونقدها وأخلاقياتها، وليس من المعقول أن تتفلَّت مفردات الحضارة عليها، ولا أن تفر إلى الحضارات المضادة.. وقبول مفردات الآخر مشروطة بعدم التأثير على الثوابت.. فكل حضارة لها مع من سواها مساحات مشتركة، والعقلاء من يجنحون للتفاعل الإيجابي، ويستثمرون تلك المساحات بما يثري حضارتهم، ولا يذيبها في الآخر.
ولو ذهبنا نستنبئ المصطلح، لإثبات المشروعية والسلامة، لوجدنا أن مصطلح (أدب) ليس قائماً بنفسه، بل لا بد أن يضاف أو يوصف.. والمعنيون يحيلونه إلى عصره، أو إلى إقليمه، أو إلى لغته، أو إلى دولته، أو إلى دلالته، أو إلى حضارته. وما من أحد من أولئك تذمَّر أو امتعض من إحالة مصطلح (الأدب) إلى أي شيء مما سبق، ولو فُهم المصطلح بعد التركيب حق الفهم في ظل مشروعية الإضافة أو الوصف لكان أحقَّ من غيره بالمشروعية والحضور، فكل أدب لا ينتمي إلى حضارة، ولا يحيل إلى تراث أدب مجتث من فوق الأرض.
والمتصدون ليسوا سواء في مقاصدهم، وإنما تتنازعهم مواقف و(أيديولوجيات) مختلفة، وهدفنا من الحديث طرح القضية كما هي دون أي تمويه، ومتى فُهم المصطلح أصبح من اليسير الإقناعُ والاستمالة.. والنظر في (الحق الفني) في ظل هذا المصطلح المثير يستدعي (الحق الأخلاقي).. والإشفاق على الفنيات هي الحجة الواهية التي يستنجد بها خُصوم هذا الحق.. وإذ يقولون ما يبيتون: إن (الأدب الإسلامي) يأتي على حساب الفن والجمال والانزياح والمجاز والإيجاز وحرية الفنان، وإنه يقترف المنع من الانطلاق والحرية، وإنه يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وإنه يقيِّد الأدب في نطاق (الأحكام الفقهية) مما يفوّت على الأديب نصيبه من الفن، وتلك شنشنات أخزمية مللنا من سماعها والرد عليها، والبعض من أولئك يحيل إلى مقولات تراثية، تؤكد أن الأدب في معزل عن الدين، وأن الشعر نكد لا يصلح إلا مع الكذب، و(البحتري) يقول:
كلفتمونا حدود منطقكم
فالشعر يغني عن صدقه كذبه
وقد يكون لتخوف البعض منهم بعض المشروعية، متى عوّلوا على الوقوعات والآراء الفردية لبعض الأنصار.. والشيء الذي نُطمئن المتخوفين به، أن رقابة الإسلام لا تحول دون استكمال (الحق الفني)، فالإسلام حين يكون مهيمناً وشمولياً، لا يقمع الفن، ولا يقيّد المبدع، وكل دوره أن يضمن (الحق الأخلاقي) وأن يحول دون سفاسف الأمور التي لا يقبل بها أصحاب الفِطر السليمة.. وكم من قائل: إن (الأدب الإسلامي) قائم على حساب الخصوصية الإبداعية، والناهضون به لا يبالون بأي وادٍ هلكت سمات الفن الرفيع.. وتلك مفتريات أملتها طوائف تختلف في مشاربها ونواياها ومدركاتها، وكل متصدٍ لهذا المصطلح يحيل إلى المفاهيم الخاطئة.. والذين حسموا أمرهم، وخرجوا بقناعات أوحاها المشككون، ظلوا كما أشرطة التسجيل، يكررون القول ولا يملكون الاستبداد المشروع وفض النزاع وحسم الأمر في تفكيك المصطلح، فهو مكوَّن من مصطلحين:
- مصطلح (الأدب).
- مصطلح (الإسلام).
ولكل مصطلح مقتضياته وحيثياته، والجمع بينهما يعني استدعاء مقتضياتهما قبل التركيب.. ف(الأدب) مصطلح يختلف عن الفقه والتاريخ وسائر المعارف الإنسانية، إنه جماع الإبداع القولي، بكل ما يتطلَّبه من أركان وعناصر ولغة أدبية وصور بلاغية، لا يجوز المساس بها.. وإذا أطلقنا كلمة (أدب) تبادر إلى الذهن المعهود السالف لهذه الكلمة: فماذا تعني كلمة (أدب)؟
إنها تعني أدبية النص القامئة على الجمال والجلال والإمتاع والإقناع والاستمالة، ف (الأدب) لا يكون إلا بفنياته وشروطه ومقتضياته، وأنواعه الشعرية والسردية.
وإذا أخفق الشاعر الإسلامي في شيء من ذلك، فتلك مسؤوليته هو، وخطأ الممارسة لا يمس المبادئ.. فالمسلم يرتكب المحظورات، وقد يقترف الكبائر، ويتحمَّل ذاته المسؤولية، وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).. ونحن نقول: لا يكون الشاعر الإسلامي شاعراً إسلامياً، وهو لا يمتلك الموهبة والتجربة والثقافة والأجواء التي تساعده على التَّألق، ويُقال مثل ذلك بحق السرديين والنقاد والدارسين والمنظّرين الذين يحيلون أخطاءهم إلى (الأدب الإسلامي)، فالمصطلح بريء من تجاوزاتهم وإخفاقاتهم، وكل نفس بما كسبت رهينة.
وضعف الإبداع يُحال إلى المبدع، ولا يُحال إلى المصطلح، وكم من الشعراء العرب الذين أخملهم ضعف ملكاتهم وضحالة مدركاتهم، ولمَّا يُحمِّل أحدٌ منهم (الأدب العربي) مسؤولية الإخفاق.. والقول بأن الإسلام أدى إلى ضعف الشعر قول له وعليه، لقد حصل الضعف، لكنه لم يكن هدف الإسلام، وإنما هو ناتج مرحلة انتقالية، تغيَّرت معها كل وجوه الحياة، بما فيها الشعر، إضافة إلى أن الانبهار ب(القرآن الكريم) أطفأ وهج الشعر، وزاحمه في الإمتاع.. فالضعف حاصل، لكنه لم يكن مطلباً إسلامياً، كما يدّعي البعض.. فنفاة الضعف وجاعليه هدفاً إسلامياً مخطئون، فالضعف حاصل، لكنه ليس هدفاً إسلامياً، والدخول في التفاصيل يند بنا عن متن الموضوع.
ولأن الإسلام اعتقاد في الجنان، وقول في اللسان، وعمل بالأركان، فإن المبدع حين لا يكون كذلك في السر والعلن، يضطره الانتماء للأدب الإسلامي إلى التّكلف، ليقول ما لا يعتقد في سره، فيبدو الخلل.. وقد يكون قوي الإيمان، لكنه ضعيف الملكة، ومن ثمَّ لا يستطيع أن يجلِّي، وقد يتوفر على قوة العقيدة وقوة الملكة، لكن التجربة والموقف والأجواء تكون دُون المؤمل، فيخفق، فيحال إخفاقه إلى انتمائه.. وطبيعة الحياة أن تتخلَّف بعض العناصر عن بعض المبدعين.. ولقد جاء رديء شعر (المتنبي) من هذه الإخفاقات، ولهذا تألق لمثله الأعلى (سيف الدولة)، وأخفق في الكثير من مدائحه ل (كافور) وكان ذلك مسرح النقاد، ومجال تعاملهم مع شوارده. ولكل شاعر متألق شعر رديء، لا يحال إلى مذهبه، وإنما يحال إلى لحظات المخاض غير المواتية.. والشعراء المخضرمون، وجدوا أنفسهم في أجواء إسلامية لم يألفوها، فكان أن تعثّروا شيئاً قليلاً، ثم استقام معهم الشعر، فاستعادوا تألقهم، وإذا أخفق الشاعر الإسلامي في الجوانب الفنية والذوقية في مرحلة من مراحل حياته، فإن مرد ذلك جدة الأجواء.. وما كان للأدب الإسلامي رؤية ذوقية ولا فنية تختلف عن (الأدب العربي).. والفهم الخاطئ للمقتضى والخصوصية جعل المناوئين يلتمسون (الأدب الإسلامي) ونقده على ضوء ذلك التّصور الخاطئ، حتى إذا لم يجدوه كذلك، استبعدوا إمكانية وجوده، مع أنه قائم بينهم، يتجلى من خلال القول السديد، والكلم الطيب، والمدح المعقول، والغزل العفيف، والنقد المعياري والذوقي المتوازن.
وإذ لا نجد مانعاً من التّصدي للشعراء والسرديين المنتمين إلى هذا الأدب ودراسة إبداعهم بآلية النقد العربي، ورد الرديء منه، فإننا نمانع من إحالة الإخفاق إلى الانتماء، ذلك أن الموضوعات والضوابط والالتزام لا ينعكس أثرها على المبدع بشكل سلبي.. ولقد روجع الشعراء غير الهجَّائين في ذلك، فقال قائلهم: من استطاع أن يصف بالكرم، يستطيع أن يصف بالبخل.. وكذلك الحال بالنسبة لشعراء الخمريات والغلمانيات والغزل الفاحش.. فحين يعف الشاعر المحتشم عن ذلك، فإن ذلك لا يكون ناتج ضعف، لكن العفة تحول دون ترديه في مهاوي الرذيلة.. حتى لقد خاف (زهير بن أبي سلمى) من عقوبة مصمية تسقط عليه كسفاً من السماء كلما تذكر قوله في آل حصن:
(وما أدري ولست إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء)
و (الأدب الإسلامي) حين يؤكد على المعاني الشريفة، لا يختلف موقفه الفني عما سواه من الآداب.. ف (الحق الفني) مطلب (الأدب الإسلامي) كما هو مطلب (الأدب العربي)، وما اختلف (الأدب الإسلامي) عن سائر الآداب العربية والعالمية في شيء إلا في جانب من البعد الدلالي المتمثِّل ب (الحق الأخلاقي)، فهو يؤكد على (شرف المعنى) قدر تأكيده على (شرف اللفظ)، وعلى حمل الهمِّ الإسلامي والذود عن حياضه، والاشتغال بما يهذب الأخلاق، ويربي الأذواق ويحافظ على الإمتاع واللهو البريء.. إن هناك جمالاً وجلالاً، فالجمال متعلِّق بالشكل، والجلال متعلِّق بالمعاني، و(الأدب الإسلامي) يحتّم السمتين: الجلال والجمال، فيما يكتفي البعض بالجمال.
ولن نضرب الأمثال فكل (أدب عربي) هو (أدب إسلامي) إلا إذا خالف نصاً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت، وشرط (الأدب الإسلامي) فنياً ولغوياً هو شرط (الأدب العربي).. وما كان ل (الأدب الإسلامي) استقلالية في جوانبه الفنية والذوقية، بحيث تخص ذلك بدراسة مستقلة، ونعمِّق الجفوة بينه وبين سائر الفنون، وإنما القصد رد الافتراء.. نعم (الأدب الإسلامي) يرفض (العامية) بحجة واقعية اللغة، ويرفض (النثرية) بحجة أن (قصيدة النثر) لها حضورها، ولها روادها ونقادها، ويرفض (الإغراق في الغموض)، بحيث لا يدري الشاعر ما يقول، فضلاً عن المتلقي، ويرفض (خلق الأسطورة) التي تحول دون أدنى قدْر من التوصيل، ويرفض تقويض أركان الفن الروائي، بحجة انعدام الشكل الروائي.
ورفضه هذا مشروع، فكل ناقد عربي لا يمت إلى الأدب الإسلامي بصلة له رؤيته ومواقفه الرافضة.. ولا يدخل هذا الرفض في الأحكام الفقهية، لكنه يدخل في شروط الفن، وسلامة الأذواق، واستكمال شروط النوع الإبداعي. فالشعر له شرطه وسمته، والسرديات لها شروطها وسماتها.. ولا تعرف القصة إلا بسماتها.. ولا تعرف الرواية إلا بسماتها، ومن أخلَّ بشيء من ذلك تعرَّض للمساءلة المشروعة.
وتمسُّك الأدب الإسلامي بأصول الفن لا يحول دون التحرف للتجديد. و(الأدب الإسلامي) يضع كل شيء في نصابه، فلا يعد التخريب تجريباً، ولا الحداثة الفكرية المنقطعة تجديداً، ولا التّفحش في القول حقاً من حقوق المبدع، ولا الفوضى حرية.. ومع أن تلك الرؤى دُولة بين سائر النقاد في مختلف المذاهب، فإن تضخيمها بحق الناقد الأخلاقي جور وظلم.
وفي النهاية فإن (الأدب العربي) أصل ل (الأدب الإسلامي) وما اختلف الأدبان إلا في الأقل من البعد الموضوعي، فإذا رضي (الأدب العربي) بالعهر والكفر، واتسع لذلك فارقه (الأدب الإسلامي)، وإذا احتفى بالكلمة الطيبة والقول السديد عاد الأدب الإسلامي إلى حواضنه، على حد {.. إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..}. ومن تصوَّر (الأدب الإسلامي) على غير ذلك فليأت ببرهانه إن كان صادقاً.
وجملة القول: إن الجوانب الفنية والذوقية قاسم مشترك بين (الأدب الإسلامي) وسائر الآداب العالمية، والأدب هو البوابة الأولى، والإسلام هو البوابة الثانية، ولا يكون أدب إسلامي حتى يبارك فنياته الأدب العربي، و(الحق الفني) و(الحق الأخلاقي) صنوان، وبهما يخفق الأدب في فضاءات الفن الرفيع.. وإذ نقبل طائعين أو مكرهين ب (الأدب) الوجودي، والحداثي والماركسي والواقعي والسريالي وسائر الإضافات أو الأوصاف فإن القبول ب (الأدب الإسلامي) حق مشروع.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|