مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:36 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
كل الناس يغدو..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ليس الغدو المستدعي للاعتناق أو للإيباق خاصاً بالأفراد وحسب، إنه لهم وللمؤسسات وللدول، ولكل مكلف يكشف عن ساق، ليقول أو ليفعل، كلٌ على حسبه وفي موقعه، وبقدر اتساع مجال الغدو، تتسع تبعاته، وتنداح فداحة موبقاته. والذين يقرؤون كلماتي - على قلتهم، يدركون أنها تدور حيث تدور العلل الأربع.
- اللعبة واللاعب.
- وإشكالية المفاهيم.
- والتأصيل والتحرير للمعارف والمسائل.
- وخيانة المبادئ.
وتلك بعض عثرات الغدو والرواح: المعْتقة أو الموبقة، والعالم الثالثي: النامي أو المتخلف حقل ممرعٌ لكل اللعب: الكونية والإقليمية ولإرهاصاتها، ولسائر عمليات التضليل الإعلامي، والتجريب: الحسي والمعنوي ما ظهر منها وما بطن.
حتى يكاد غدوه يكون موبقا ليس إلا، وما كانت صراعات مفكري هذا العالم المتخطف نخبه من كل جانب إلا بسبب: اضطراب المفاهيم، وجريان اللعب فيه مجري الدم، والعجز أو التقصير في تحرير المسائل وتأصيل المعارف، والقول دون الفعل، والوقوع تحت طائلة التسطح والابتسار، والتقحم لعويص المسائل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وكلما حاولت الانفلات من سلطان (اللعبة) أو (المفهوم) أو (التأصيل) أو (التحرير) و(الادعاء) شدتني أمراسُ كتانها إلى (حليمة) وعادتها القديمة، وارتباطي المأزوم بتلك العوائق يسترفد إصراره غير المستكبر مما تقترفه خطابات فردية مختلطة في ظل غياب الخطاب المؤسساتي، ومما يقترفه كتبة يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، ويستجدون معلوماتهم مما هو دولة بين وسائل الإعلام الموجه، وما كانوا يعلمون أنها تميل مع الريح حيث مالت وكأنهم مراوح الطاقة الهوائية، والتعويل على المتداول في المشاهد، يذكر بالطواف الصعلوكي-:
(طاف يبغي نجوة
من هلاك فهلك)
أو ب (الطّوّافات) التي تأكل من خشاش الأرض. والمتسكعون في مطارح الإعلام المضلل كما ديَكة المزابل، يتيممون الخبيث منه يأكلون، ويرضون من الثقافة بالمسموع، وهي ثقافة غير موثقة، وغير معمقة، وغير بريئة، ولكنها بقوة الصناعة التقليدية المغرقة للسوق والطاردة للصناعة الأصلية، والناشئة التي قطعت صلتها بالتراث، وخفَّت إلى الحضارة المهيمنة لا تجد حرجاً من أن تجادل في الثوابت بالباطل، لتدحض به الحق. ومن خلال متابعتي للمقول والمكتوب حول القضايا الساخنة كافة في مشاهد أمتنا المهيضة الجناح من ظواهر ومصطلحات ووقوعات ونوازل، وبخاصة ما يتعلق منها بالمستجدات، أدركت أن المصطلحات المهيمنة - منقولة كانت أو معربة أو مترجمة - يفهمها بعض المتنفذين فهماً سوقياً متسطحاً لا معرفياً متعمقاً، وحق المتلقي على من يرودون له ويحفظون ساقته أن يتزودوا من المعارف وأن يتضلعوا من العلوم، وأن يتخطوا به إلى المعاجم والموسوعات والدراسات الموثقة، وأن ينظروا إلى المستجد في مجال التطبيق، ليتعرفوا على الأشباه والنظائر في عقر دارها، ويستوعبوها كما أنشأها أصحابها، لا كما تصورها المتلقون الذين شبِّه لهم.
ومن المؤذي أن يجد مثقف السماع من يتلقاه بالأحضان، ومن يأخذ مقولاته، وكأنها قضايا مسلمة، لا معقب لحكمها، على سنن الطاعة العمياء، التي تحتم التنفيذ الفوري، ثم المراجعة على استحياء وتردد. والمصرون على قناعاتهم الفجة المرتجلة، لا يدرون ما المصطلحات ولا اللعب، ولا يعرفون أن قولهم عن الظواهر والمذاهب والتيارات والنوازل قول أقرب إلى العامية منه إلى العلمية، تخطفوه من رسيس الإعلام لا من بحار المعرفة، (ومن قصد البحر استقل السواقيا)، وفوق ذلك فهم يقولون ما لا يفعلون على شاكلة الإسلام الفكري، والغدو مع أولئك أو إليهم من الموبقات، وكان حقاً على كل مستبرئ لعرضه ودينه أن يتبين وأن يتثبت، فخفة العياب خير من امتلائها بالمضلات، والأكل من خشاش الحضارات تضوى به الحضارة المتلقية، والآبقون من حضارتهم والموبقون للسماعين لهم، لا يزيد جهدهم عن تسخين مكرر لما غب من طبيخ الاستشراق، واجترار ممل للمتداول بين وسائل الإعلام الموجه لغسيل الأدمغة. ولك أن تتصور كيف يفهم بعضهم المصطلحات المستوطنة كما الأوبئة، وكيف يغالطون أو يدلسون في المتقضيات، وكيف يتعاملون مع المتحفظين على المضمرات من تلك المقتضيات، وكيف غلبوا على أمرهم، وأوحي إليهم أن (الليبرالية) و(الديموقراطية) الشائعتان على كل لسان لا تعنيان إلا (الحرية) وحسب، وأن القبول بهما من متطلبات المجتمع المدني، وأنهما كما استبدال الكهرباء بالسرج، وأن عثرات النظم السياسية في الدول النامية لا يقيلها إلا ما أقال عثرات عصور محاكم التفتيش وصكوك الغفران، وأن سائر المستجدات وسائل ووسائط وأطر، وليست أفكاراً ولا مناهج ولا مبادئ، هذا التصور الناقص يقبل من الدهماء، ويستغرب من قادة الفكر. ولأن المَلَكة والثقة والعقل معطلة فإن ما قيل عن (الماركسية) و(الوجودية) يقال عما خلفهما ولا من مدكر. وتداول هذه المفاهيم في الأوساط الثقافية يبدي سوأة الرؤى المستبدة في المشاهد، وليس أضر على الأمة من ربط المصطلح بمفرده من مفرداته المقبولة، أو التعليل الخاطئ على حد {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، والكتب الميسرة التي تقدم مبادئ ومداخل للمتداول من الأفكار، تنطوي على مفاهيم أولية، لا يتوفر عليها المتنخوبون، وتلك المعلومات الغائبة أقل ما يجب التوفر عليها.
ف (الحرية) مفردة من مفردات المصطلحين الآنفي الذكر، كما أن (التجديد) مفردة من مفردات (الحداثة) الفكرية المنحرفة، وبعض مشمولات تلك المصطلحات تشكل قاسماً مشتركاً مع مصطلحات حضارة الانتماء، ولكل مفردة حد وشرط، وفات المخادعين بطُعم الحرية أن لتلك المصطلحات مقتضيات ومفردات مناهضة ومناقضة لحضارة الانتماء وفكرها السياسي ومقاصدها الأدبية، وأن سائر اللعب تختفي وراء الأصباغ التي تستدرج الموبقين من حيث لا يعلمون، وتصيب الذين يلحقون بهم. وإذ يفتقر العالم الثالث إلى مزيد من الحرية، وإلى مزيد من الإصلاح الجذري لأنظمة الحكم، وإلى مزيد من المؤسسات الفاعلة المفعَّلة، وإلى تمثل واعٍ للمقول، فإن المنقذ له أن يصوغ أنظمته على ضوء مقتضيات حضارته المتسعة لكل متطلبات المجتمع المدني السوي، ورفض المصطلح لا يعني رفض إيجابياته، ولا يعني التسليم المطلق للأوضاع القائمة، ولا يعني تجاهل المنجز الغربي والاستخفاف به، والقول بشيء من ذلك إجهاض للمصداقية. وإذا كان الفكر السياسي الإسلامي منقذاً كما (الديموقراطية) لذويها، فإن الإسلام أحق أن يتبع، فنحن كهم نحتاج إلى حياة كريمة، ولكننا نرجو من الله ما لا يرجون، والعالم الثالث حين يكون في حاجة ماسة وفورية إلى الإصلاح الشامل والجذري والفوري فإن الإحلال على طريقة لعبة المكعبات لا يعد من الإصلاح في شيء، والاستيراد للأنظمة والأفكار لا يكون كما الاستيراد للأجهزة والمعدات، والخلط بين الحضارة والمدنية كالخلط بين الوسائل والغايات، والمجربون والراصدون لا يجدون بداً من المرحلية، وتهيئة الأذهان للقبول والتفاعل، فالشعارات الجوفاء زاد رديء للاستهلاك الإعلامي، والمتغنون بمثل هذه المصطلحات المغرية، أشد الناس عداوة وإجهاضاً لمضمراتها.
وكلما قال المنذرون قولاً لينا، وطالبوا بتهيئة الأجواء النفسية والاجتماعية والسلوكية المناسبة للمستجدات النكرات، بادرهم الموبقون بحتمية الحرية والتجديد، وما دورا أن أخذ الحذر عبر المساءلة والمكاشفة لا يعني نفي المشترك.
وهل يتصور عاقل إمكانية رفض العدل والحرية والمساواة والتجديد؟، وهل يدور بخلد إنسان سوي قبول الظلم والاستبداد والتخلف والعبودية، هذا الاضطراب المخل في المفاهيم، يقف بالمفكر والعالم والسياسي على مفترق الطرق وبنيات الطريق؛ ليحسم أمره، ويعتق نفسه من رق الجهل وعبودية الهوى. ولن تبدو بوادر النجاة إلا بتصحيح المفاهيم أولاً، وتنقية الأجواء من غبش الضلالات ثانياً، وتحرير المصطلحات الشائعة بكل تراكماتها، وفرز اللعب عن المبادرات، ومعرفة اللاعبين الماكرين، وما غدوت في أهل الجدل الفكري أو السياسي أو الأدبي إلا وجدت المغالطات الموبقة. ولو أن مدعي الإعتاق في المشاهد الثقافية والإعلامية والفكرية عرفوا تلك المصطلحات على وجهها، لما حصل تنازع، ولا قامت عداوات - بهذا الحجم على الأقل -، وإلا فالاختلاف إكسير الحياة، ولا يحقق الثراء المعرفي إلا القبول بالرأي الآخر بشرطه، ولما أزل أقول: إن اضطراب مفهوم المصطلحات مصدر كل الإخفاقات، وإن تفخيخ اللعب من المكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، ومتى لم نأخذ بأسباب النجاة من قوة رادعة، وسياسة محكمة، وإمكانيات مغنية، وعزم على مناصرة الحق ومراجعة النفس، تجرعنا مرارات الكيد، وما على المستهدف بالمكر والكيد إلا التحرف للخلوص من الموبقات، و{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} «سورة الحج 40».
وكل الغادين والرائحين يتغنون بالمستجدات والحريات، لا لشيء إلا ليقال وقد قيل، فماذا بعد هذا، وهم - بكل الرهانات الخاسرة - في معزل عن مجال التطبيق، ف (الحداثة الأدبية) وحسب - على سبيل المثال- كما هي في أرض المنشأ، لا تعني التجديد وحده، وإن كان التجديد بعض مقاصدها، وهي فيما سوى الأدب مشروعة ومقبولة، أما في الفكر والأدب والتربية وسائر العلوم الإنسانية فخلق آخر، لا يجوز فيه القبول المطلق ولا الرفض المطلق، ذلك أنها مصطلح تداوله الغربيون، وفق مفاهيم ومقتضيات ليست على وفاق مع قيم الحضارة المتلقية، ولقد دارت شبه وشكوك حول سدنتها واستفاض تواطؤهم بثمن بخس مع قوى البغي والعدوان، وما (الديموقراطية) و(الليبرالية) عن ذلك ببعيد، إذ هما في النهاية مصطلحان سياسيان لا يعنيان (الحرية) وحدها، ولا يعنيان المجالس النيابية والسلطات الثلاث والفصل بينها، وإن تضمناها، والقبول بهما على ما هما عليه عند الغرب المنتج، إقصاء للفكر السياسي الإسلامي وللتجديد الفني واللغوي والدلالي. ودعوى الإفراغ أو التشذيب لتوافق المقتضى الإسلامي تحصيل حاصل، إذاً يجب - والحالة تلك - الاستغناء بمصطلحات الإسلام: السياسية والأدبية والفكرية المتسعة؛ لما وسعته تلك المصطلحات الوافدة، وإذ تتسع (الديموقراطية) لعدد من المؤسسات التشريعية والنيابية والشورية والقضاية والتنفيذية، فإن حضارة الانتماء لا تجد مانعاً من التماثل دون الذوبان أو التسمي والاستبدال.
وإذا أخفق العالم الثالث في التطبيق، أو حصلت ممانعة أو تقصير، فإن ذلك يستدعي تصحيح المسار، لا نسف المبادئ، ومثلما نقع في اضطراب المفاهيم، نقع في اضطراب التصورات عن مجمل التدخلات العسكرية و(اللوجستية)، ونقع في الخلط بين الإرهاب والمقاومة. وتفادياً للتذبذب الذي وقع فيه المنافقون، وخشية من الوقوع فيما حذر منه (ابن خلدون) من أن من طبع المغلوب (تقليد الغالب)، ومما تخوف منه (مالك بن نبي) من استفحال (القابلية للاستعمار)، تجب علينا قراءة الظواهر والأحداث بعيون المؤسسات لا بالبصيص الأعشى والعشوائي للأفراد. وهذا الاضطراب في المفاهيم، وتتابع اللعب السياسية المهلكة إن هو إلا ترجمة حرفية للغدوِّ الموبق، وخطورته المتيقنة جعلتني أُبدئ القول وأعيده المرة تلو الأخرى، وكأني ذلك الخطيب البسيط الذي كرر خطبته طوال العام، ولما روجع في ذلك، قال: لو أقلعوا عما أنهى عنه ما كان مني أن أكرر القول، فهل يكون غدونا أفراداً وجماعات لفهم الأشياء والأخذ بأحسنها، أم أنه بيع للثوابت، وهتك للمسلمات، ووقوع في الموبقات. وجملة القول: إن الممانعة المحرمة والاندماج المطلق في عالم القيم، كاليأس من رحمة الله أو الأمن من مكره في (علم الكلام)، وحفظ التوازن مؤذن بالخلاص من الموبقات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل