كل الناس يغدو..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل
واستكمالاً لما سبق من تلميحات وتصريحات عن اللعب السياسية الممسك بعضها برقاب بعض، والمتشابهة إلى حد التكرار، وعن اللاعبين الأذكياء، والمنفذين الأغبياء، وعن مجالات اللعب، وأساليبها الذكية، أود أن أتساءل: من الموبق؟ ومن المعتق المنفذ الأجير، أم المتنفذ الخطير؟ إنه تساؤل مشروع. وما ينبئك مثل مجرب أو حاضر للحدث سامع للمختصمين. والمؤمن الواثق بقدرة حضارته على الإدارة والتحكم واستشراف المستقبل والتفاعل الإيجابي يعمل من خلالها، ولا يتلقى نقائضها. ولقد قلت من قبل: - إن مسرح السياسة مصمت، ليست له (كواليس)، فإما أن يظل اللاعب لاعباً، أو يتعرض للتصفية بالتنحية أو بالنحر أو بالانتحار، وذلك حتم عندما تقترب شفرات اللعبة من التجلي، أو حين يذهب كل لاعب بما كسب أو اكتسب، أو عندما يكون الموءود كنيف الأسرار الخطيرة، بحيث تموت بموته ملفات كثيرة، لو أباح بشيء منها لمسَّ العذابُ كل الأطراف. وما أكثر الذين اختفوا من مسرح العرائس، وهم في أوج تألقهم الإعلامي. والذين أغواهم بريق اللعب، وخدعهم اللاعب الخطير بالوعود والأماني، يتهافتون عليها كما الفراش، وكم من لاعب دخل مسرح اللعبة طائعاً مختاراً، وكان بإمكانه ألا يدخله، ولما أراد الخروج منه، لم يكن قد أعد له عدته، فتحول من قائد مهيب إلى مقود خانع أو جثة لا تجد من يواري سوءتها، أو متفلت لجوج تُحكم قيده اللعبة ببطء كما الذباب ولعاب العناكب.
وكم من مغرور احتنكته اللعبة، وهو يرقب سراب القيعان ووعد الغرور، الذي لم يصدق منه إلا وعد (بلفور). وشواهد الموبقات ثاوية في المشهد السياسي، يعرفها العالمون ببواطن الأمور، وأبسط التحريات تقف بالمتابع على أطلال وأناسي بلغت ببعضهم الدعاية وصناعة النجوم هام السحب، حتى إذا شارفت المسرحية على فصولها الأخيرة بلغت معها الروح الحلقوم. وما صناعة النجوم وتلميعها إلا جزء من متطلبات اللعب، كي تعشي الشخصيات الزائفة المزيفة عيون الدهماء، وما دروا أنها تعكس النور ولا تشعه، لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني متعالماً في إحدى دول الجوار يقول عن أغبى اللاعبين في بيت من بيوت الله: - إن الملائكة تقاتل معه، وحين حصحص الحق لم يدرك السذج فداحة الكارثة، وصدق الله: - {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:62)
ولما كانت اللعب المعشية والمصمة ناتج مطابخ سياسية عريقة فإنها لا تفاجئ النظارة بالمسرحيات دون مقدمات، كما الصدقة بين يدي النجوى، إذا لا بد - والحالة تلك - من صناعة النجوم بالقدر الذي يقربهم إلى قلوب النظارة، ولا بد من صناعة المسرح بحيث لا يضيق عن الأدوار وتزاحم الأضداد. وللاعب المحترف قبل أن يأتي بلعبته يختلق المشاكل التي تمهد لها الطريق، وتستحث قدومها، ولاسيما أن العالم الثالث يقوم على تركيبة سكانية وعرقية وطائفية وقطرية وحدودية قابلة للاشتعال في أي لحظة، والمستبد يتأبط الملفات الساخنة يطوي وينشر منها ما يشاء، تحت سمع الضحية وبصرها، وكأن الوهن والحزن قد بلغا الدرك، فما عاد الضحية يميز بين التمرة والجمرة.
وإذ تقوم السياسة على التمثيل والخداع فإن ذلك يتطلب براعة الإعداد ودقة الإخراج وتوفير سائر متطلبات مسرح التمثيل، وما كل غاد إليه معه حذاؤه وسقاؤه. والمضحك، وشر البلية ما يضحك، أن مسرح العرائس يُصنع تحت وهج الشمس، ولكن اللعب تتشابه على الذين لا يفعلون، كما تشابهت بقر بني إسرائيل، ومع فقاعة اللون فإن الدهماء تهتف للأبطال المزيفين. والعالم الجشع المتغطرس تحكمه مصالحه الجائرة، وهو بسبيل تحقيق أكبر قدر منها. وكما أن الإنسان موزع بين التسيير والتخيير، وليس جبرياً ولا قدرياً، فإن الكيانات السياسية الصغيرة كذلك، تملك قدراً من السيادة وحرية الاختيار، ولكن البعض منها لا يحسن استغلال المتاح والممكن، ومن ثم تخضع لتقلبات الطقس وقوانين اللعب، وفي النهاية فإن الكلمة الأخيرة لمن يقدر على إنفاذها، وما أكثر (التيميين) الذين قال فيهم جرير: -
(ويُقْضى الأمر حين تغيب تيمٌ
ولا يستأمرون وهم شهودُ)
(وإنك لو رأيت عبيد تيمٍ
وتيماً قلت أيهم العبيدُ)
وبعض الكيانات بلغت من الضعف والارتباك والتردد حداً سهل عليها الهوان، وأصبحت لا تتألم من الصفعات والركلات والقعود الذليل كما الطاعم الكاسي: -
(مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ
ما لِجُرحٍ بمَيِّتٍ إيلامُ)
واللعب التي تستدرج الموبقين تعد في النهاية (فتن) لا تصيب الذين غدوا إليها خاصة، وكم من معتزل أو دافع بالتي هي أحسن مسه طائف من عذاباتها، وذيولها أشد خطراً من متونها، وللرسول الناصح صلى الله عليه وسلم لفتات معجزة ففي قوله: - (الفتنة نائمة) دليل على كمونها في أي تجمع إنساني، وليست طارئة عليه. والدخول فيها : - قولاً أو فعلاً يكون في البداية اختياراً، ولكنه في النهاية يبلغ حد الاضطرار. والذين يستعذبون الخوض في المسكوت عنه، ولا يجدون حرجاً من نبش الخلاف، واستمراء السخرية من حضارتهم وإنسانها والتهافت على رموز الآخر متخذينه عدواً وحزناً، كل هؤلاء من أولئك الذين يبيعون أنفسهم فيوبقونها، وبخاصة حين يكون النبش في زمن المتردية والنطيحة والموقوذة. كما أن تصعيد الخلاف حول الثانويات تمهيد لإيقاظ الفتن النائمة والوقوع في رقها، وما أكثر الذين يغدون أحراراً، ويروحون أرقاء، وفي ضجة العويل والانكسارات نقول لكل متضور متألم: - (يداك أوكتا وفوك نفخ). فمن فتح الأبواب، ومهد الطرق، لتدفق الأسلحة، وقيام القواعد، ومن طبَّع وهرول، ومكَّن للآخر من اختراق الأجواء؟ إن تنفذ الآخر يضع يد المتيح في القيد طائعاً مختاراً، ويجعله يبيع نفسه بأبخس الأثمان. وإذ لا يكون بالإمكان الاعتزال فإن الاستعداد قبل المفاجأة بعض التوقي والعتق.
والمؤكد أنه ليس بمقدور أي كيان، وبخاصة كيانات العالم الثالث أن يغلق عليه بابه، ولا أن يكسر سيفه، ولا أن يعض على جذع شجرة حتى يأتيه الموت، وإذ يكون الغدو حتماً، فمن الخير سلوك سبيل العتق، وتفادي طريق الإيباق، ومن أراد النجاة اتخذ أسبابها، من استشارة، واستخارة، واستبانة، وأناة، ورفق، واعتزال للشبهات. والزعماء والمفكرون الذين يحتملون ما لا يفهمون وما لا يطيقون يهلكون أنفسهم وأمتهم، والتحدي غير الصمود، والدفع غير الطلب، والقعود غير التوقي، والاهتياج والاتقاء غير المداهنة، ولا يخفى إلا ما لم يقل وما لم يفعل، وفي ظل ثورة الاتصال لا تخفى على الناس خافية، والموبقون يعرفهم الناس بسيماهم، والإفراج عن الوثائق أو تفلت الألسنة فضح على رؤوس ا لأشهاد، وحين يملك البعض القدر الكافي من الحرية واتخاذ القرار المناسب، يُبلى ببعض المستهمين معه على ظهر السفينة، ممن لا يجد بأساً من خرقها باسم حرية التصرف، مفوتاً بخطيئته فرصة النجاة. وهل حروب العقدين الماضيين التي قضت على كل المثمنات والآمال من صناعة الذين يتجرعون مراراتها،؟ أم هي كما القتام تسوقه الرياح ليزكم أنوف الملثمين. إن كل منفذ غبي يمتد أثره السيئ إلى من حوله، وما أكثر الذين يفضلون السلامة، ثم لا يمكنهم سفهاء القوم منها، وصدق الله {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25)، ولما كانت رياح التغيير تهب من كل جانب فإن مبادرتها بالقبول المطلق دون النظر الثاقب والتبصر الحصيف مدعاة لضياع ما في اليد. وتفويت الاستفادة منها حياد سلبي، يحرم الأمة من الفرص التي لا تطرق الأبواب إلا مرة واحدة. وكم من مجازف أضاع ما في يده وإن قل، ولم يظفر ببعض ما في أيدي الناس وإن كثر.
وإذ يكون من طبائع الاستبداد إكراه كل طرف ليمسك بشطر من رداء اللعب، أو أن يكون لاعباً رئيساً فيها، فإن من الحكمة ركوب أهون الضررين. وتحامي الضلوع في اللعب الكونية التي تأتي على الحرث والنسل غدو معتق. واللاعبون الذين ضاعوا، وأضاعوا بلادهم، هم أولئك الذين غدوا ليوبقوا أنفسهم ومن تبعهم من المكرهين أو الطائعين، وكم من هالك مهلك زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنا. وكم:
(يُقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن)
لقد كان بإمكان الموبقين وعشاق الأضواء ألا يكونوا رؤوس الحراب، ولكنهم رضوا بتولي كبر التآمر، وممارسة دور اللاعب الأكبر ظلماً وعدواناً، ومع ذلك لا يكون في أنفسهم حرجاً من مقاتلة من حولهم من الشركاء في الأرض واللغة والدين والهم المشترك. والقابلية تجعل الناشطين في الفتن مجالاً للعب المرهصة واللعب النافذة. يتجلى ذلك في الأحلاف والاتفاقات والاعترافات وعقد الصفقات المؤثرة على المنظومة السياسية، ولقد بادر إليها من شق عصى الجماعة، وعطل الاعتصام بحبل الوفاق، الأمر الذي أفقد المؤسسات الجماعية دورها المنشود. وعلى كل الأحوال فالعالم خلق ليصطرع، ولكل قوم مصلحة بينة أو خفية من هذا الصراع، ومن أولويات مهماته أن يحافظ على أقصى حد منها، وأن يمهد الطريق إليها، أو أن يحققها بأقل الخسائر، ولا ينجي الضعفاء من الغدو الموبق إلا التكتل والاجتماع والاعتزال الإيجابي لكافة اللعب، وتفادي التوطئة لها، والاتقاء المشروع، والدفع بالتي هي أحسن. إن اللجاجة والحماقة والعنتريات في زمن الضعف وقلة الحيلة والهوان مدعاة إلى كسر العظم وحرق الأرض وحز الرقاب، وكل مشعل للحرب سيكون بعض وقودها، وكل مطلق للكلام على عواهنه سيكون تحت مراقبة الأقوياء، ومن المؤذي أن يضطر المحارب إلى التراجع بعد فداحة الخسائر، وقبل تحقيق الأهداف، أو أن يضطر المتعنتر في خطابه إلى التخلي أو الاعتذار، لقد ملّ المستضعفون من الرغاء بعد الصهيل، وضاقوا ذرعاً ب(البراقشيين)، الذين لم يجنوا على أنفسهم وأهلهم وحسب، بل امتدت أذيتهم إلى من يؤثرون السلامة، ويجنحون إلى السلم، لقد انتهى عهد الدكتاتورية والمقابر الجماعية، وإخراج المعارضين من ديارهم ومطاردتهم في الآفاق، انتهت الخطابات الحدية والتحدي والانتفاخ والمغالطات، ولن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
لقد شهد العالم الثالث ثورات دامية، تحولت فيها الشعوب إلى غنيمة لمن يستيقظ من نومه قبل الفجر، ويمتطي صهوة الدبابة، وعايش أحداثاً جساماً، كان فيها الموقد والوقود، وعندما خبت نارها، رحل اللاعب بالغنائم، وظل الموقد والوقود يتجرع مرارات ذيولها، ولسنا بحاجة إلى الشواهد، فكل ماهو قائم من فتن، إن هو إلا بداية لعبة أو ذيولها، وخير مثال نضربه واقع الأمة العربية والإسلامية، وكأن كل الغادرين موبقون، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: - (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وإذ لا نقدر على الإعتقاق الشامل فلا أقل من تفادي الإيباق القاتل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|