مدائح الملك عبدالعزيز في صحيفة أم القرى (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل
ظواهر الأدب وقضاياه تتبادل المواقع في الحضور والغياب والأهمية، واتجاهات النقد كما تقلبات الطقس، تحركها تحولات المشاهد الثقافية: عربياً وعالمياً، والمحو والإثبات تحكمه رياح التغيير. والراصدون لسنّة التدافع يتفاوتون في القبول والرفض، كما يتفاوت الشعراء في استباق الترثنة والعصرنة. وخير المختصمين والمستبقين من يغلّب جانب الجلال على الجمال، والزكاء على الذكاء، ولا يجد غضاضة من التفسح في المجالس لكل ظاهرة فنية أو دلالية تثري ولا تلغي، فحق الناس أن يجدوا ما يشبع رغباتهم، إذ لا شرعية للمصادرة والإقصاء، ولا مكان للنمطية والسكونية، والإشكالية في حفظ التوازن بين التراث والمعاصرة. و(شعر المناسبات) وبخاصة ما يتعلق منه بالمديح، لا يحفل به المشهد النقدي المعاصر، وهو داخل في جدل الذاتي والغيري، ولكل عصر هادٍ ينذر أو مضل يستدرج، والخلاص في التوفر على المستجيب للذوائق والحاجات وفق قدر من الشروط والضوابط المعتبرة. ولقد كانت لي وقفات توفيقية لعقلنة المواقف، وتحامي الإلغاء والأثرة.
والحديث عن محتويات (جريدة أم القرى) بعد أن دخل ماضيها المجيد في ذمة التاريخ قول ثقيل وشاق، ولكنه بتضافر الجهود أصبح في متناول اليد، ولقد عرفتها معرفتي بما عاصرت من صحف، وكان ذلك عبر مصدرين رئيسين:
المصدر الأول: ما أنجزه الأستاذ الدكتور (منصور بن إبراهيم الحازمي)، وهو جهد كشّافي (ببليوجرافي) يضع مواد الجريدة بين يدي القارئ، بحيث يلم المتابع من خلال هذه الفهرسة باهتماماتها وبكتّابها وبمبدعيها وبسائر قضاياها. وفي ذلك رصد إحصائي دقيق.
أما المصدر الآخر: فكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى)، ولقد كان لي شرف الإسهام في إنجازه، وقصتي مع الكتاب ظريفة وطريفة، فلقد بُعثت لي مخطوطته في مجلدين ضخمين للتحكيم، وحين أبديت ملاحظاتي، أوصيت بأن يكتب المقدمات ثلاثة من المتخصصين في التاريخ والأدب والإعلام، رغب الناشر اختصار ذلك كله بواحد، فكنت هو، حيث طُلب مني النهوض بالمهمة الثلاثية، فكان أن راجعت مادة الكتاب، وأعددت كافة مقدماته: التاريخية والأدبية والإعلامية.
ومرت السنوات، لأعود إلى الموضوع مرة ثانية, وذلك حين حُكّمت في كتاب (الاتجاهات الموضوعية والفنية في كتاب: الملك عبدالعزيز في عيون شعراء صحيفة أم القرى) وأحسبه عملاً أكاديمياً، تناول النصوص التي اشتمل عليها الكتاب عبر دراسة مسحية شاملة، وطبعيٌّ - والحالة كذلك - أن تتجدد الرغبة في العودة إلى ذلك المصدر الثر، لأعيد قراءة موضوع واحد من موضوعات شتى وسعها الكتاب، وهو موضوع (المدائح) التي أبدعها شعراء الآفاق العربية وخصوا بها (الملك عبدالعزيز) رحمه الله، لا يحرك مشاعرهم إلا الحب والإعجاب والإكبار.
وقصائد المناسبات تتنازعها قيم تاريخية وسياسية واجتماعية ودينية، وهي بلا شك (ديوان ذلك كله)، والشعر كما يقال (ديوان العرب) يرصد أحداثهم، ويهذب أخلاقهم، ويثري معارفهم، ويصقل مواهبهم. وليست العبرة في خصوص السبب، ولكنها في عموم الدلالة، وتألق العمل، وبراعة الشاعر، وقدرته على شد الانتباه، وإثارة المشاعر. وهل يجرؤ عاقل على التفريط بمدائح (أبي تمام) للمعتصم، أو بمدائح (البحتري) للمتوكل، أو بمدائح (المتنبي) ل(سيف الدولة)؟ وهل أحد ينكر ما تنطوي عليه تلك الإبداعات من ثروات: لغوية وفنية ودلالية؟ وأذكر أن إحدى الدارسات في (جامعة الملك سعود) أفاضت في دراستها ل(سيفيات المتنبي)، وخرجت بنتائج مثرية. وتلك الدراسة القيمة أوحت لي بعنوان دراسة جاءت في سياق الاحتفاء بالمئوية، عنونتها ب: (سعوديات ابن عثيمين) نشرت أولاً في (مجلة الدارة)، ثم ألقيت ثانياً في (نادي أبها الثقافي) وصدرت فيما بعد في كتاب متداول. وأياً ما كانت دوافع القصائد فهي منْجم ينطوي على قيم ثمينة، لا يجليها لوقتها إلا النقاد المقتدرون الذين يتجاوزون حدود المناسبة إلى تداعياتها، على سنن (البنيويين) الذين يميتون متعلقات النص ليفرغوا لذاته.
ولقد أحسست وأنا أقرأ شعر (العصر الذهبي) أن المادحين والممدوحين قضوا نحبهم، ولم ينتظر إلا ذلك الشعر الزاخر بالقيم الفنية والدلالية. ولعلنا نستذكر مقولة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لأبناء (هرم بن سنان): ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. والمدّاحون متفاوتون، فمنهم من هو أهل لحثو التراب في وجهه، ومنهم من يستحق (بردة الرسول) صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل.
واستعادة المدائح منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث تثري المتلقي لغةً وأدباً ومعاني. فأين نحن من (زهير بن أبي سلمى)، و(حسان بن ثابت) وأصحاب النقائض و(المتنبي) ومن خلف من بعدهم؟. صحيح أن الشعر الذاتي أصدق قيلاً، لأنه يجسد الهموم ولا يستجدي الموسورين، غير أن الشعر الغيري ألصق بالموضوعية، وأغنى بالمعاني، وأثرى بالتجارب. وللمتابع أن يوازن بين شعر (عمر بن أبي ربيعة) بوصفه شاعراً ذاتياً، فرغ لنفسه، ولم يفرغ لجيبه، كما يقول (طه حسين)، وشعر سائر الشعراء الذين في ظلال القصور، ثم لينظر أيها أزكى قولاً، ولسنا مع هذا ننكر الكذب والمبالغة. ولأن متعلقات الشعر الغيري موضوعية فإن دراستنا ستُعوّل على القيم الدلالية.
وقبل أن نباشر النص الشعري نود أن نلمح إلى ظروف تشكله وبيئاته لتجهيز أرضية الانطلاق، إذ ما من شعرٍ إلا وله مكوناته المرتبطة بذات الشاعر، أو بالبيئة التي تحيط به، أو بالأحداث الجسام التي أثارت كوامن الشعراء. والشعر النابع من قعر الواقع يعطي مؤشرات قوية، تبدو معها ملامح البيئة بمختلف وجوهها، وخطوات التشكل لكيان (المملكة العربية السعودية) تكمن في منطلقات الشعراء، وكيف لا ينطوي الشعر على ظروف المرحلة وخطواتها، وهو لسان الأمة أو العشيرة.
لقد كانت أقاليم البلاد خارج متن التاريخ أشلاء قبلية وإقليمية وطائفية مرتهنة للجفاف والتصحر والجهل والأوبئة والحروب، يكاد قوت الكفاف يكون عزيز المنال، لا تمتد إليه الأيدي إلا بالأسنة والرماح، وكل قاصد لبيت الله معرض للسلب والنهب. ولما أن قيض الله لهذا الواقع المؤلم من يجمع كلمة أهله، ويوحد صفوفهم، ويحدد أهدافهم، ويقيم الأمن في الحواضر والبوادي، جاء الشعر ممجداً للمؤسس، مذكراً بأفضاله، محذراً من مناوأته، موازناً بين أمسه ويومه، متفائلاً بغده.
والمدائح في ظل هذه المنجزات والمعجزات لا يكون افتراء على الناس، ولا تزييفاً للواقع، ولا تزلفاً عند الممدوح، ويكفي تلك القصائد تألقاً أنها تروي حكاية التكوين والبناء. وتجربة (الملك عبدالعزيز) رحمه الله ثرية بجلائل الأعمال والأحداث الجسام. والشعراء الذين مثلوا بين يديه، واتخذوا من فِعاله المجيدة مادة شعرهم، أطالوا الحديث عما حققه للمشاعر والوهاد والنجاد من أمن واستقرار ورخاء. وبخاصة مسالك الحج التي ملئت بقطاع الطرق، وهذا التأمين لمنافذ الحج ومسالكه وحده كاف ليكون مادة ثرة للشعراء المادحين. فكيف إذا كانت منجزات (الملك عبدالعزيز) أوسع وأكثر، لقد تخطى بالمجتمع الرعوي المتموج إلى مجتمع مدني مستقر، وفر له كل متطلبات التحضر، وتخطى بالبلاد إلى عتبات التاريخ. ومجتمع بدوي أمي رعوي قبلي صحراوي من الصعب صهره ودمجه وتحويله إلى مجتمع مدني آخذ بأسباب الحضارة. لقد وسع شعر (المدائح) طائفة من ملامح المجتمع وتحولاته السريعة، وكاد يكون هذا الشعر المادح مصدراً من مصادر التاريخ الحديث لقلب الجزيرة العربية. والقارئ لما تحت السطور يستبين ما يعتمل في نفوس الشعراء من إعجاب وإكبار لقائد استطاع أن يختصر معركة التكوين، وأن يبسط الفعل في معركة البناء، وكيف لا يكون مثار الإعجاب والإكبار وهو الذي وطّد الأركان، واستل السخائم، وألّف بين القلوب، وأشاع متطلبات الحياة السوية، ووضع أسس المجتمع المدني، وجاء بشعبة من البدو فوطنهم بالهجر وأمدهم بما يحييهم من تعليم ومشافٍ وزراعة وصناعة، وأعلن اسم (المملكة العربية السعودية) دولة فاعلة في الأسرة الدولية.
و(جريدة أم القرى) التي واكبت هذا الحراك الحضاري رصدت كل التحولات المجتمعية، واستقبلت ما قيل في (الملك عبدالعزيز) من مدائح وما قيل في سائر المناسبات من شعر راصد لكل التفاصيل على مدى ثلاثين عاماً، وهذا الكم الوفير من الشعر يعد سجلاً حافلاً لمجمل الأحداث المصيرية التي تهم المواطن العربي فضلاً عن المواطن السعودي. ف(الملك عبدالعزيز) يشكل تحولاً جذرياً في التاريخ العربي الحديث، والشعر الذي رصد الأحداث، وكاد يفصل الحديث فيها جدير بأن تعاد قراءته وفق آليات ومناهج حديثة، للوقوف على المنعطفات التاريخية المهمة. وفي ظل الحراك الحضاري أبدع الشعراء قصائدهم متفاعلين مع مناسبات عدة ك(الحج) وغيره ولاسيما أن (الملك عبدالعزيز) يقود قوافل الحجيج، ويشرف على راحتهم، ويحتفي بالوفود من ساسة وعلماء ومفكرين وأدباء. ومناسبة الحج من أوسع المناسبات، أقبل شعراؤها من كل آفاق الوطن العربي. وقصائد المدح المعنية بالدراسة لا ترتبط بسبب، إنها نظرة إعجاب وإكبار، ومع ذلك فقد نيفت على ستين مطولة، وهي جزء ضئيل من شعر المناسبات، ولقد اتسعت لمختلف المعاني، وتقصت أخلاقيات (الملك عبدالعزيز) وألمحت إلى شيء من منجزاته في المشاعر، وما هيأه لوفود بيت الله الحرام، وما وفره من أمن نفسي في طرق الحج، وأمن غذائي في فجاج مكة، وأمن صحي في المشاعر، فضلاً عن سائر منجزاته في مختلف وجوه الحياة التي رصدها شعر المناسبات.
وإذ تجلت وحدة الأمة في شعيرة الحج، وأسهم شعراء الآفاق العربية في تجسيد المشاعر والطموحات فإن شعر المناسبات الوطنية كمناسبة (الجلوس) و(البيعة) و(العام الهجري)، و(افتتاح المشروعات) والمناسبات الاجتماعية والتعليمية والانتصارات الحربية والمؤتمرات والمهرجان والأسفار والرحلات والحوادث والأحداث كاد يختص بها شعراء المملكة. وكل ما نشر في (جريدة أم القرى) مما له صلة بمنجزات (الملك عبدالعزيز) يعد من المدح والتمجيد والاعتراف بالفضل لذويه، وتقصي شعر المناسبات يبعد علينا الشقة. ومن المتعذر والاعتراف بالفضل لذويه، وتقصي شعر المناسبات يبعد علينا الشقة. ومن المتعذر التفريق بين (المدائح) وشعر (المناسبات)، ف(الملك عبدالعزيز) ممدوح بكل لسان، وفي كل مناسبة، ذلك أنه يكاد يكون المثل الأعلى لكل من نشد وحدة الأمة العربية، وتطلع إلى المجتمع المدني، مجتمع المؤسسات والخدمات، و(الملك عبدالعزيز) كاد يسبق ظله في سبيل إنجاز متطلبات الحياة الكريمة. والذين تراءوه في عيون الشعراء، وقفوا على مئات المطولات التي رصدت منجزاته، ومن المتعذر اقتفاء أثر الشعراء الذين فجرت مواهبهم عبقريته، ولكن الإشارة قد تغني عن التقصي، وكم نحن بحاجة إلى من يتعقب هذا اللون من الشعر، ويضعه بين يدي القراء، إذ كل القيم في جوف هذا اللون من الشعر.
والمنقب في مشمولات كتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) لا يستطيع أن يفرز قصائده موضوعياً على الأقل، ذلك أنها جميعاً تتخذ من منجزات (الملك عبدالعزيز) وأخلاقياته مجالاً لسبحاتها، وحين تستثير تلك المنجزات كوامن الشعراء يكون (الملك عبدالعزيز) المصدر والمورد، وقيمة المدائح أنها تنطلق من المنجزات، ولا ترتبط بالذات، فهي سجلٌ حافلٌ لجلائل الأعمال، ومن ذا الذي يجهل معركتي: (التكوين) و(البناء) اللتين امتدتا أكثر من نصف قرن، وحققتا وحدة ومدنية غير مسبوقتين في ظل الظروف التي عاشتها البلاد قبل استعادة ملك الآباء والأجداد، وأثناء ذلك، ومتى عرف المتعقب شح الواردات، وتزامُن معركة البناء مع الحرب العالمية الثانية تبين ما يعانيه المؤسس من ظروف عصيبة.
وطوفان الشعر يحمل على الخلوص من شعر المناسبات الذي وسعته (جريدة أم القرى) وقصر الحديث عن المدائح المباشرة، لاستبانة رؤية الشعراء لهذا المثل الأعلى. والمدائح التي استخلصت من الجريدة تجاوزت ستين قصيدة، هي بعض ما رفع لمقامه دون أي مناسبة.
لقد أوحى لي التقسيم الموضوعي لكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) الفرق الدقيق بين شعر (المدائح) وشعر (المناسبات)، وكدت أربط ذلك بالفرق بين شعر (الغزل) و(النسيب). ومن النقاد من يجعل النسيب ما يتعلق بالتوله والبكاء ومناجاة الأطلال، فيما يجعل الغزل في الحديث عن ذات المرأة ومفاتنها، أو قل النسيب يرتبط بالعلاقات المعنوية والغزل يرتبط بالعلاقات الحسية. والتفريق بين شعر المديح وشعر المناسبات مرتبط بالمثير، فإذا حفزت المناسبة الشاعر إلى القول كان النص مضافاً إليها، وإذا حفزه الإعجاب بذات الممدوح، كان النص ألصق بالمديح. والموضوعان متداخلان، لا يكاد الناقد يفصل بينهما.
وعلى كل الأحوال فإن الشاعر هو الذي يعتق شعره أو يوبقه، فإذا اتخذ من المناسبة أو من الممدوح منطلقاً إنسانياً حضارياً كان شعره مهيأً للشيوع والخلود، وإن ظل مرتهناً للممدوح أو للمناسبة، انطفأ بانطفاء المناسبة أو بموت الممدوح. ولعلنا نضرب الأمثال بشعر (المتنبي) الذي لا يخرج بمجمله عن المدح، ومع ذلك خلد شعره، وشاع، وظل يجمجم عما في نفوس الناس، ولم يضِره ان كان مادحاً مبالغاً بالمدح، فهو يركب المناسبة، ويحكمها، ولا تحكمه، وينطلق منها ولا ينطلق بها، ويسخرها لحمل همومه، وتطلعاته، ومناشداته الصريحة أو المبطنة لقائد فذ حقق لأمته جلائل الأعمال.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|