مدائح الملك عبدالعزيز في صحيفة (أم القرى) (2-2)
د.حسن بن فهد الهويمل
وقصائد المديح تقع في مائة وعشرين صفحة من الكتاب، ومن أبرز سماتها الشكلية والبنائية انتزاع العناوين من النص، وانعدام الوحدة الموضوعية والعضوية، وتوفر الوحدة الموسيقية والنفسية واللغوية، فالوزن والقافية ولغة المكارم ومعالي الأمور هي السمات الأبرز، أما من حيث الموضوعات والمعاني فإن القصائد تركِّز على القيم المعنوية واستثمار سائر القيم الدلالية في الشعر العربي القديم، والتزامها لعمودية القصيدة العربية، وإغراقها في المبالغة والإشادة، واستدعائها لأهم منجزات الملك عبدالعزيز المتمثِّلة بتوحيد البلاد، وإشاعة الأمن والعدل، وخدمة الحجيج، وتعميم التعليم.. والتّفنن في المطالع، وطول النفس الشعري. وتعدد مشارب الشعراء وانتماءاتهم أعطى القصائد قيماً فنية ودلالية خلَّصتها من النمطية والتناظر.. والشعراء الذين فجَّر مواهبهم (الملك عبدالعزيز) أوزاع، فمنهم السعوديون الذين نعموا في ظلاله من أمثال (محمد بن بليهد)، وهو شاعر تقليدي، و(محمد بن عثيمين)، وهو شاعر جزل العبارة قوي السبك محافظ على عمودية القصيدة العربية، و(محمد بن صالح الدويش)، وهو شاعر مقل، و(خالد بن محمد الفرج)، وهو شاعر ملاحم ومطولات أرّخ لأحداث الجزيرة في عهد المؤسس، و(أحمد بن إبراهيم الغزاوي)، ويُسمى حسان جلالة الملك، ويُعد من أكثر الشعراء إشادة بأمجاد المؤسس، و(محمد حسن عواد)، وهو رائد التجديد في المملكة، ولم يكن حفياً بشعر المناسبات، و(سليمان بن عبد الله البطاح)، وهو شاعر مقل، و(حسين سرحان)، ويُعد من فحول الشعراء جزالةً وقوة أسر، و(علي بن محمد السنوسي) من جنوبي البلاد، وهو شاعر تتنازعه المحافظة والتقليد، و(جعفر المدني)، وله أكثر من قصيدة، وآخرون لا يتسع لهم بحث مقتضب.. ومنهم غير سعوديين عرفوا أحوال البلاد من أحاديث حجاج بيت الله الحرام الذين أبدلهم الله من بعد خوفهم أمناً، وممن شهدوها حين وفدوا للحج أو للعمل من أمثال (سليم أبو الأقبال اليعقوبي)، و(محمود شوقي الأيوبي)، وله أكثر من قصيدة في المدائح وشعر المناسبات، و(عبد الله نوري الموصلي)، و(علي أحمد باكثير) وهو من كبار الشعراء، ومن ذوي الاتجاهات الإسلامية، والشعر المسرحي، و(عبد القادر الزهاوي)، و(محمد العباسي السلفي)، وله أكثر من قصيدة، و(يوسف داود قاسم) و(محمد سعيد ماشيج) من (يوغسلافيا) وآخرين.
والمنقب في المعطيات الدلالية عند شعراء المملكة والوافدين عليها يجد أنها تحكي الواقع المعاش، ف(الملك عبدالعزيز) ظل أكثر من ثلاثة عقود يخوض معارك التكوين، وتلك أجواء حرب ونزال، ومن ثم فإن بعض المدائح تكاد تكون من شعر الفروسية والحماسة والبطولة. يقول الشاعر ابن بليهد:
( في دار قوم رميناها بقاصفة
إذا تمزق في أرجائها القتم
أضحت خلاء وأمست بعد ساكنها
قفراً وللبوم في أطلالها نغم)
والشاعر هنا يستمرئ ذاكرته، ويستجدي محفوظه من الشعر العربي القديم، وإلا فالملك عبدالعزيز يستعيد بلاده بأيسر الطرق، ويضم أهله وعشيرته إلى كيانهم الذي فقدوه بعد سقوط الدور الثاني من الحكم السعودي، وليس هو بذلك الغازي الذي يهدم البيوت على أصحابها.. وشعراء الأحياء كافة يستمرئون أخلاف الشعر العربي القديم، ويكاد (شكل القصيدة) العربية القديمة يتجسَّد في شعر (محمد بن عثيمين) من حيث الاستهلال بالغزل، وحسن التّخلص، يقول في إحدى مدائحه:
(أقِلا ملامي فالحديث طويل
ومن عادةٍ ألا يطاع عذول)
ولكي يتخلَّص من الغزل إلى المدح يتخذ ذات الوسائل القديمة، وذلك في قوله:
(فدع ذكر أيام الشباب وطيبه
فما حالة إلا وسوف تحول)
وإذ أخذ بشكل القصيدة العربية، أخذ بالمعاني، فكأنك حين تقرؤه تقرأ ل(أبي تمام) وهو يمدح (المعتصم)، أو تقرأ ل(المتنبي) وهو يشيد بمثله الأعلى (سيف الدولة)، ولولا الارتباط بالزمان والمكان والحدث لما استطعت أن تفرق بين القديم والحديث.. و(ابن عثيمين) بالذات يركِّز على تمسك الممدوح بشعائر الدين وتحكيمه للشريعة واتخاذها شرعةً ومنهاجاً، وهو كغيره لا يكاد ينفك من ذكر الحرب ومتعلقاته، ذلك أن الأجواء المعاشة أجواء حروب. يقول في إحدى مدائحه:
(متى ما تصبِّح دار قومٍ بغارةٍ
ففي دار قومٍ آخرين تقيل)
ولأن (ابن عثيمين) لحق بمثله الأعلى، وقد تجاوز الستين من عمره، فإن شعره ينبض بالحكمة والروية والمناصحة والإشادة بالدين، والحثّ على التمسك به والدعوة إلى الرفق واللين:
(هلموا إلى داعي الهدى وتعاونوا
على البر والتقوى فأنتم أماثله
وقوموا فرادى ثم مثنى وفكروا
تروا أن نصحي لا اغتشاش يداخله)
وللشاعر أكثر من ثلاث وعشرين قصيدة في مدح الملك عبدالعزيز، توسعت في دراستها في كتابي (سعوديات ابن عثيمين).. وقد جُمع شعره بعد وفاته وشُرح غريبه، وهو ألصق الإحيائيين ب(البارودي) في الجزالة والغرابة وقوة الأسر.
أما الشاعر (خالد الفرج) فيختلف عن لداته في المباني والمعاني، إذ كان على صلة وثيقة بالآداب العربية الحديثة، وهو الذي كتب الملاحم التاريخية، ولم ينازعه هذا الاتجاه إلا شاعر الأمة (عبد الله بلخير) الذي فاق أقرانه في المطولات الأندلسية.. ومدائح (الفرج) هي الأخرى تستمد لحمتها وسداها من أجواء الحرب ولمّ الشمل، ولأنه من أصحاب المطولات، فقد يعمد إلى التفصيل، وكأنه يؤرّخ للظواهر والأحداث.. وهو كما أشرت على صلة بالآداب العربية الحديثة في (العراق) بالذات، وهو من الشعراء المتنازع عليهم، ف(الكويتيون) يرونه شاعراً كويتياً، فيما يراه السعوديون سعودياً.. والمتقصي لشعره يلحقه بالسعودية، لأن همّه سعوديٌ، وأغراضه الشعرية مرتبطة بأحداث البلاد، وملاحمه ترصد تاريخ المملكة الحديث، وتواصله مع شعراء الوطن العربي مكَّن شعره من التّخلي عن المطالع الغزلية أو الطللية، وهيأ له الاقتراب من الوحدة العضوية، بل أكاد أجزم أنه من ذوي الاهتمام بقوة المطالع والخواتيم، ولكنه اهتمام لا يربطه بالمطالع القديمة. يقول في إحدى مدائحه:
(إياك نختار فاحم البيت والحرما
وخذ لنصرك منا العهد والقسما)
على أن الحس الإسلامي ينتظم كل القصائد التي مدح بها الشعراء (الملك عبدالعزيز)، بل ينتظم شعر المناسبات كافة، فالأجواء مفعمة بالروح الإسلامية، وما من شاعر إلا وينطلق من القيم الاسلامية.. ولما أن كان الأمنُ مطلباً لكل المكتوين بنار الفتن وأعاصير الفرقة، فقد سيطر على مشاعر الشعراء كافة، وما من شاعر إلا وله إلمام طويل أو قصير بقضايا الأمن. يقول الفرج:
(هذي الجزيرة كان الأمن مضطرباً
فيها وكان لهيب الويل مضطرما)
ويقول ابن عثيمين:
(فقد كان في نجد قبيل ظهوره
من الهرج ما يبكي العيون تفاصله
فما بين مسلوب وما بين سالب
وآخر مقتول وهاذاك قاتله)
وقوله:
(فأمَّنها بالله من أرض جلق
إلى عدن مستسلماً كلُّ مجرم)
والشاعر الفلسطيني (سليم أبو الأقبال اليعقوبي) يشيد بمنهج (الملك عبدالعزيز) وأخلاقياته وطموحاته وتمسكه بالقيم العربية والإسلامية، ويبدي توجعه مما يعانيه الشعب الفلسطيني من قتل وتشريد، وكأني به يذكر (الملك عبدالعزيز) بما آلت إليه أوضاع المشردين والمقيمين على الضيم، ولقد تعمّد التورية لتجسيد معاناته:
(ليت قومي وليتني من رعايا
ه فإنني اليوم رهن القيود
(كتب الذل في فلسطين والشا
م علينا والعربُ غير عبيد)
ويأتي شعر الشاعر (محمود شوقي الأيوبي) حثاً واستنهاضاً وإشادةً وضرباً للأمثال واستدعاء لرموز العالم الإسلامي الذين تجسّدوا في شخص الملك عبدالعزيز، ول(الأيوبي) عناية بالمطالع، ولكنها عناية لا تبلغ شأو (مدرسة الإحياء)، وشعره دون غيره، وبخاصة في أوزانه وقوافيه، وهو ذو نفس طويل، يعتمد التّقصي والتّفصيل واستعادة الأمجاد العربية، وأجود شعره قصيدته (يا حاملاً علم الشريعة)، لأنه يحكي رحلة المسير إلى (الملك عبدالعزيز) عبر غنائية طويلة، يفصل فيها رحلته من بلده إلى (الرياض) مروراً بعدد من القرى والمدن، ولقد اتخذ طريق الموعظة بعد الإشادة:
(صن بيضة الدين الحنيف بعزمة
قصوى فأنت لما تقول فعول)
وقصائد شعراء البلاد العربية تشم فيها تطلعاتهم إلى وحدة الأمة العربية، ولهذا فكل شاعر يود من (الملك عبدالعزيز) مواصلة المسير، لجمع الشمل، وتوحيد الكلمة والصف والهدف.. وكأن تجربته بتوحيد البلاد مشروع لتوحيد الأمة العربية، وهو حلم يساور كل شاعر عربي أو سعودي وقف على منجز (الملك عبدالعزيز) واطَّلع على تفاصيل مشروعه الحضاري. يقول أحمد بن إبراهيم الغزاوي:
(مليك العرب وحِّدها قبيلا
فشعبك للعلا أهدى سبيلا)
ويقول (محمد حسن عواد) وهو من الشعراء النقاد الحاملين على المحافظة: شكلاً ومضموناً، وشعره فكري معضل وموسيقاه منطفئة، ولكنه عميق المعاني بعيد الغور ويشبه شعره شعر العقاد:
(وحَّدتها في الحكم ثم أعدتها
بالاسم واحدة حذار تناقض)
ويقول (سليمان بن عبد الله البطاح):
(هذا مليك العرب جامع شملها
عبدالعزيز محقق الأوطار)
ويقول في قصيدة أخرى:
(وحَّدت مملكة من بعد ما انقسمت
وبعدما كان سُوسُ الخلف قد نخرا)
والشاعر المتمكِّن (علي أحمد باكثير) يتساءل عن تلك الفرقة:
(ألا ليت شعري كيف تنهض يعرب
ومجموعها هذا النسيج المهلهل؟
عباديد شتى انحل عقد وفاقهم
كأنهم سرب النعام المجفل)
وبعد تطواف موجع جسَّد من خلاله حال الأمة العربية عاد ليقول:
(ألا إن ضوءاً في الحجاز فتيله
بنجد تراعيه العيون وتأمل)
وللشاعر (عبد القادر الزهاوي) قصيدة يستلهم فيها معاني المتنبي وأبياته في الميمية التي يمدح بها (سيف الدولة) والتي يقول فيها:
(إذا نظرْت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم)
والزهاوي يقول:
(والدهر كالليث لا تأمن تبسمه
فإنما الليث عند البطش يبتسم)
وهي قصيدة يمجّد فيها معالي الأمور، ويختمها بالتأكيد على أصالة البطولة والكرم للملك عبدالعزيز، وأن بطولته وإقدامه ليسا تصنعاً، وإنما هما سجية وخليقة:
(حاكوك شخصا وما حاكوك منزلة
إن القشاعم تحكي شكلها الرخم)
أما الشاعر (محمد بن أحمد عسل) فقد تجلت الجزالة والغرابة وقوة السبك في قصيدته (حارس البيت خادم الدين)، وقد أمعن في الثناء على خلال الملك وأشاد بأخلاقه ودعاه لنشر العدل ورفع النابهين:
(املأ الأرض باسم ربك عدلا
بعد ظلم بها ونكث العهود)
ويكاد الشعراء كافة أن تكون أخلاقيات الملك وعزماته مدار شعرهم ومدرج إبداعهم، فهو المثل الأعلى بطولاته، وأخلاقه، وتسامحه، وصفحه عمن تصدوا له، بعدما أقدره الله عليهم، كما أشادوا بعدله، ونشره للدين وجمعه لكلمة المسلمين، يقول جعفر المدني:
(والعدل والأمن قد ضاءت شموسهما
بذاك قد شهد القرطاس والقلم)
والمتعقِّب لهذا اللون من الشعر يجده صورة أمينة للشعر العباسي، وبخاصة أن (الملك عبدالعزيز) تمثَّل أخلاقيات الخلفاء، وجنح إلى العفو والوفاق والتسامح، وأثبت للعالم أنه الحاكم الذي يقابل الإساءة بالإحسان، ويغلِّب السلامة، وينشد السلام، وما من معركة حمل عليها مكرهاً إلا وأنهاها بالعفو والتسامح وإعادة كل مسؤول إلى مكانه، متيحاً فرصة المراجعة لكل خصومة، وهذه الأخلاق أمدت الشعراء بشرف المعاني، وكل شاعر توفرت له المادة، ولم يجنح إلى الافتعال والانفعال يجلي شعره، والقيم العالية تفجر مواهب الشعراء.
وشعر المديح الذي وسعته (أم القرى) بوصفه بعض شعر المناسبات يُعد جزءاً مما قِيل في تمجيد القائد المؤسس، ومحور شعر المناسبات كافة وشعر المديح خصوصاً (الدين) و(العدل) و(الأمن) و(الوحدة)، وما فضل من ذلك فهو موجّه للإشادة بأخلاق (الملك عبدالعزيز) من (بطولة) و(كرم) و(تسامح) و(تواضع) و(وفاء) و(صدق) و(تديُّن).. ولأن الشعر ديوان العرب، فإنَّ شعر المناسبات الذي وسعته (جريدة أم القرى) يُعد تاريخاً للجزيرة العربية، فلقد تتبع الأحداث، ورصدها برؤية المبدع وانطباعه لا بدقة المؤرخ وعلميته، ومؤرخو الجزيرة العربية سيجدون في شعر المناسبات مادة تاريخية لسائر الأحداث، وهم قد وجدوا ما يسد خلالاً كثيرة، وما الشعر إلا بعض حيوات الشعراء وممدوحيهم.. والحذَّاق مِنْ النقاد مَنْ يعرفون القدر المتوقع من المبالغات فيطرحونه، والظلم كل الظلم أن نطرح هذا اللون من الشعر بحجة أنه لا يعبِّر عن الذات، ولا يرصد الواقع.
وخلاصة القول: إن هذا اللون من الشعر يعطي مؤشرات عدة من أهمها: ملامح المشروع الحضاري الذي ابتدره الملك عبدالعزيز، والمتمثِّل بتوحيد البلاد، وإشاعة الأمن والاستقرار، وتحكيم الشريعة، والأخذ بأسباب الحضارة، والدخول في المنظومة الدولية، وتمكين الأمة من اللحاق بشعوب العالم المتحضِّرة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|