المجلة العربية
الإبداع الأمي وقلب الحقائق
إن الذين تطربهم عامية نجد ويشدهم شعراؤها من أمثال «العوني» و«ابن لعبون» و«السبيل»، و«القاضي»، و«راشد الخلاوي»، وابن «غازل»، و«الحكمي» من شعراء الجنوب، ولا يعرفون شيئاً من مطولاتهم بل ولا يحفلون بشيء من شعرهم، ذلك أن شعراء جازان العاميين لهم ذائقتهم، ولهم عاميتهم ولهم فوق ذلك تاريخهم المعاصر، وأمجاده الخاصة، وابطالهم ضمن هذا التاريخ الحديث مما لم يكن مذكوراً في الإبداع الحجازي أو النجدي. وكل إقليم ملتف حول لهجته وعاداته.
وإحياء العامية تأكيد لهذه التعدديات اللغوية والتاريخية والقومية ومؤذن بتفكك الأقاليم والدولة الإقليمية الواحدة فضلاً عن تفكك الأمة وذهاب ريحها والشواهد حاضرة، فنحن لا نرجم في الغيب لقد كان الناس في صدر الإسلام أمة واحدة أكرمهم أتقاهم وحين قامت الدولة الأموية على العصبية، عاد الناس يفتشون عن أصولهم ويحيون عصبياتهم ويلتفون حول شعرائهم. وإذ يفترق شعراء العامية وقراؤهم ولا يطرب أحد منهم للآخر، نجد أن شعراء الفصحى في نجد وجازان والحجاز بل وفي الوطن العربي كله لا يفترقون في شيء يتفاعل بعضهم مع بعض، ويطرب بعضهم لبعض، ويفهم بعضهم بعضاً وإذا اختلفوا احتكموا إلى التراث وضوابطه النحوية والصرفية واللغوية والصفحات الأدبية تحفل بشعراء نجد والجنوب على حد سواء في حين أن الصفحات الشعبية لا تتسع إلا لشعراء المنطقة الواحدة، وعلى المترددين أن يبحثوا خلال عام أو عامين في صفحة شعبية في المنطقة الوسطى عن شاعر شعبي حجازي أو جازاني هل يجدون له أثراً، ثم ليسألوا قارئاً من الشمال أو الجنوب عما يعرفه عن شاعر عامي يملء نفس النجدي إعجاباً وإكباراً، هل يعرف شيئاً مما يقول؟ ثم اسألوا هؤلاء وأولئك عن شاعر عربي من الشمال أو الجنوب أو اقرؤوا له قصيدة عربية ستجدونه يطرب له، ويتفاعل معه ويفهم ما يقول. لا لأنه من الشمال أو الجنوب ولكن لأنه شاعر عربي فصيح، ولو أشكل عليه شيء ما يقرأ وجد المرجعية النحوية أو الصرفية أو اللغوية التي تجلي له المعنى وتحل له الأشكال وليس واجداً عند إشكالية الإبداع الأمي ما يسعفه. ولهذا فإن الذين يدرسون الشعر العامي ويؤلفون فيه لا يحفلون إلا بعاميتهم الإقليمية الضيقة. فهذا أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعبدالله بن خميس ومحمد بن أحمد العقيلي ومن بعدهم الدكتوران سعد البازعي وسعد الصويان كل منهم اقتصر على شعراء منطقته لا يفهم غيرها ولا يطرب لغيرها، وحين ينهض أحد الثلاثة ومن بعدهم لدراسة الشعر العربي الفصيح لا يفرق بين نجدي، وجازاني، وحجازي، ذلك أن لغتهم واحدة هي اللغة العربية وأدبهم واحد هو الأدب العربي وأنت حين تقرأ الأمثال العامية في نجد أو الأساطير الشعبية أو شيم العرب المعاصرين لا تجد إلا أمثالاً وأساطير وحكايات إقليمية لا يهتم بها إلا أبناء الإقليم وحدهم دون سواهم. وهاكم مؤلفات ابن خميس التي خدم فيها عامية نجد من أربعين عاماً أو تزيد هل تجدون فيها شاعراً من شعراء العامية في الجزيرة العربية مما هو خارج نجد فضلاً عن أن تجدوا فيها شاعراً عامياً من مصر أو من السودان، ألا يكون مثل هذا العمل مؤذناً بتفرق الأمة وتنافسها على شعرائها العاميين؟ لقد أشعل المستشرقون والمناديب جذوة العامية والإقليمية ووكلوا أمرها إلى أبناء البلاد يتنازعون حولها ويوغلون في النيل من الغيورين على وحدة الأمة وسلامة لغتها وهأنذا أنافح عن اللغة العربية وآدابها ألاقي من العنت والسب والاستهجان والتجري مالا يلاقيه دعاة القومية والحداثة حتى دعيت وعلى صفحات جرائدنا إلى «التعقل» وكأنني بدعوتي للفصيح لست بعاقل وقيل عني بأني ألقي الكلام على عواهنه، وأنني لا أعرف الشعر العامي، ولو عرفته لتغيّر رأيي، وماذا في العامي من صعوبة على الأميين بحيث يصعب على مشتغل بالأدب وفنونه منذ أربعين سنة.
| \ |
ومن حقنا وقد أوذينا أن نتساءل عن أي مزية لهذا اللون من الإبداع إذا كان محصوراً في أقاليمه لا يفهمه إلا ذووه؟ ولا يتذوقه إلا ذووه وهل نحن بحاجة إلى تكريس الإقليمية وحصر كل جماعة في عاميتها؟ لقد خاض الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ معركة التكوين الإقليمي وحقق وحدة استثنائية رائعة بكل المقاييس وخاض أبناؤه معركة البناء الحضاري والفكري، ومن واجبنا أن نحول دون أي شائبة تعكر صفو هذا التلاحم الإقليمي والفكري، إنني أتوقع قيام تساؤل عن تهويل الأمر، والحق أن النتائج العكسية لا يلمسها الناس في لحظتهم، والتحولات الاجتماعية واللغوية لا تتم بيوم أو سنة، إن العواقب الوخيمة آتية ولو بعد حين، وفساد اللسان في صدر الإسلام لم يداهم الأمة بيوم أو بعض يوم. لقد نما كالأعشاب الضارة حتى غلب وعسر القضاء عليه، ولو أنهم اجتثوه من بداياته لكان خيراً لهم.
إننا حين نتيح لهذا اللون من الإبداع ولذويه مجالاً لا يستحقانه فإنما نفعل ذلك لعجز المبدعين بلغته عن ممارسة الإبداع في اللغة العربية ونحن حين لا نتيح لهذا اللون إلا مجال الإبداع، فإنما ليخلو المجال الطبيعي للغة العربية فهي وعاء الإسلام وهي الرابطة التي تتسع لكل العرب في كل فجاج الأرض فضلاً عن أبناء المملكة المترامية الأطراف. وهي وسيلة التواصل الحقيقية وهي وعاء الحضارة ولغة التراث وهي الذكر لنا الذي أشار إليه القرآن الكريم في سياق المنة والتفضل. إن العامية عاجزة عن إيجاد تواصل يتسع لأقاليم الدولة الواحدة فضلاً عن إيجاد تفاعلل بين أفراد الأمة الواحدة ثم هي بعد كل هذه الحفاوة والاحتفالية لم تكن وعاء حضارة ولا أنه علم، ولا أدب ولا تملك أدنى قدرة على التخطي للآخر، ذلك أن قارئها لا تسعفه المعاجم ولا الآليات لتقويض أي جملة فيها أنه معها يعيش في مغارة أو مفازة.
| \ |
لقد نادى بعض الأكاديميين بضرورة إيجاد أقسام للشعر العامي وللأدب العامي كما يسمونه، وللغة العامية في كلياتنا أسوة بمثيلاتها في العالم، ونسوا أن هذه الدعوة تكريس للإقليمية من جهة، وإثارة للشحناء والفرقة من جهة ثانية، فالدارس الحجازي لا يريد إلا عاميته ولا يريد إلا شعراء هذه العامية وهو معذور في ذلك إذ لا يفهم ولا يستسيغ إلا هذه اللهجة التي تلقاها من أبويه ومن محيطه وشب عليها، والدارس النجدي لن يحفل إلا بالشعراء الشعبيين من نجد وبعامية نجد، وهو معذور كذلك وبالتالي فإنه سيقوم بتدريس هذا اللون من الشعر وهذه الطائفة من الشعراء المنتمين لإقليميته وقل مثل ذلك عن بقية المناطق التي فيها جامعات، هذا على مستوى الدولة الواحدة وكم يكون الخطر على مستوى العالم العربي. لقد بدأ الملك عبدالعزيز بمشروع التوحيد من الرياض عام 1319هـ ولا أقول من نجد فضلاً عن أن أقول من الجزيرة العربية. انطلق من «الرياض» مستعيناً بسمعته الطيبة، وعراقة مجده، ومشروعية فعله، ومع هذا تصدى له بعض أمراء الأقاليم وزعماء القبائل من نجد ومن غيرها، وآزر الشعراء العاميون في نجد وفي غيرها ذويهم، وسجل كل شاعر أمجاد قومه، ونال من خصومه، ومنهم الملك عبدالعزيز في بداية التوحيد، وحقق الله لهذه البلاد وحدة أساسها الدين ووعاؤها العربية الفصحى، وبدونهما يختل هذا المشروع ولو ظفر دعاة العامية بإدخالها للجامعات فأي شعر نقبل؟ وأي أمجاد نسجل، وأي لهجة نعتمد؟ ومن أي تاريخ ننطلق؟
والذين ينادون بوضع أقسام لهذا اللون من الشعر لا يحسبون للعواقب حسابها ولا يقدرون الأضرار الناجمة عن مثل ذلك. هذه الدعوة الفجة المرتجلة هي التي آثارتني وحفزتني على التصدي مهما كان الثمن وأحمد الله أن أولياء الأمور وكبار المسؤولين لم يلتفتوا إلى مثل هذه الدعوات الفجة ولم يعيروها أي اهتمام وقد لمست ذلك من بعضهم، بل أحسست باستنكارهم واستغرابهم.
| \ |
ومع شديد الأسف، فإن موقفي من هذه الدعوة المشبوهة حمل البعض على تحريفه بحيث جعله موقفاً ضد وجود الشعر العامي وجود ضرورة لا وجود اختيار بل أقول وجود غلبة وتسلط حرصاً من أولئك على تأليب الرأي العام وعجزاً منهم عن مواجهة الحق الأبلج، بحيث تصور هذا البعض واهماً أو متوهماً أنني ضد الشعر العامي، وجوداً، وأنني أطالب بمنع الشعراء العاميين من قول الشعر وبكم أفواههم وبسلبهم حقهم وذلك محض افتراء وتقول إنني أقول وأكرر القول وأقرر دونما أي تحفظ أن الاشتغال بهذا الشعر تأليفاً ودراسة وتقعيداً وتدريساً على أي مستوى دراسي وتحت أي ظرف لا يخدم اللغة العربية ولا يحقق أدنى فائدة للأمة وفيه ضرر على وحدة الأمة واستفادتها. الأمة بحاجة إلى وحدة اللغة ولا يمكن أن تتحد الأمة إلا على لغة القرآن، والأمة بحاجة إلى القضاء على الازدواج اللغوي، بحيث يكون هناك لغة خاصة، وأخرى عامة.
إننا حين نقبل مكرهين وعاجزين بلهجة عامية للمحادثة والمشافهة فإننا لا نريد لهذا الإكراه والعجز أن يمتدا لينالا من لغة القرآن ومن وحدة الإمة وإذ لا نقدر على تمثل هذه اللغة الفصيحة في محادثتنا فلا أقل من أن نبقي على البقية الباقية منها في كتاباتنا وتدويننا وتأليفنا وتدريسنا ونقدنا. والذي ينادون بإدخال هذا اللون من الشعر في الجامعات والأندية الأدبية أسوة بوسائل الإعلام الأخرى يتذرعون بحجج أوهى من بيت العنكبوت وتبريرات ضعيفة ليست بمستوى المناقشة وإذا لا يكون الخوف من الطرح الإعلامي الشفهي فإنه يكمن في أمور منها:
أولاً: إدانة المرحلة تاريخياً لتفكيرها بمثل هذا المشاريع.
ثانياً: استدراج بعض النخب لتأييد مثل هذه الرغبات عبر استطلاع للرأي واستغلاله بطريقة غير مشروعة.
ثالثاً: سكوت النخب الرافضة لمثل هذه المحاولات وتغليبهم للسلامة على حساب تاريخ مرحلتهم أو تناول الموضوع بطريقة ضعيفة وغير واعية.
| \ |
إن الرافضين للعامية في قلوبهم يجب عليهم أن يقولوا رأيهم بألسنتهم، وتغليب جانب السلامة ضعف وضرر ومداهنة لا تليق، إنني أسمع وأرى من يأنس بكتابات الرفض والمواجهة، وإذا قيل لهم:
ــ تكلموا اسمعوا رأيكم تذرعوا بأعذار واهية لا تنجيهم من الخطيئة والتواطؤ. إن التاريخ لا يرحم وقد يأتي يوم يكثر فيه سواد الفصيح فتعاد قراءة المرحلة ثم لا يكون لأولئك أي دور في خدمة قضاياهم المصيرية كمناصرة اللغة العربية فيحاسبون على ذلك مما يؤثر على سمعتهم وذكرهم.
وإذا كانوا يواجهون بسفاهات من القول من بعض العوام وصغار الكتبة والمتحدثين فإن هذا ابتلاء وامتحان، ولا يليق بمثلهم أن يخلوا الساحة لمثل أولئك.
كما أن مجاملة كبار الكتاب، والأدباء، وعلية القوم، لا تكون على حساب القضايا المهمة والذين يحتفون بالشعر العامي أو يقولونه أو يكافئون عليه لا ينطوون على كره للفصيح، ولا يقبلون المساس بلغة الأمة ولا يفكرون بمثل ما يكفر به من يدعون إلى إيجاد أقسام للعامية في جامعاتنا، ولو كان أحد منهم على شيء من ذلك لوجب علينا مناصحته لأن من واجبه علينا أن لا نسايره على الخطأ وقد حظيت بشيء من التناوش الشفهي مع بعض أولئك فأحسست أنهم مع الحق حتى قال قائلهم: «إنني لا أهتم بالشعر الشعبي، ولكنه يهتم بي فأين أصحاب الفصيح ليأخذوا حقهم كغيرهم».
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|