مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:21 AM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
النقد الثقافي: البديل أو الرديف «12»
د. حسن بن فهد الهويمل


والاتجاهات الحديثة للنقد الأدبي مهايع مهولة، لا يستكنه مبلغها إلا متابع حصيف، حتى لقد قال «بييرمورو» وهو بصدد الحديث عن «التكوينية» و«الأسلوبية» و«الموضوعية» : «مفهوم هذه الكلمات مطاط، وغير واضح، ويدعو للتداخل، حتى في ذهن من أطلقوها أنفسهم»، فكيف بمن تلقاها دون وعي، وأجراها دون فهم، واتخذها كظل شجرة مر بها في سفر؟ وكيف يكون المعولون على هؤلاء؟ لقد أضر بمشاهد النقد من تصدرها وزعم أنه ابن بجدتها، وهو لا يلوي على شيء. وتحولات النقد واتجاهاته لا تسمح بالتلبث الطويل ولكن التحول شيء، ودعوى المشروع والموت شيء آخر، وفي ظل التحول المستمر وصف البعض مشاهد النقد بأنها «تطن طنين خلايا النحل».
ولو أن صاحب المشروع إذ مال إلى جانب من جوانب القول لم يتعد على خيارات الآخرين، ولم يتجن على ثقافة الأمة، بدعوى التشعرن والتفحلن، ولم يكن ذا ادعاء عريض، لما كان في الأمر من بأس، فلقد قلنا من قبله تبعا لغيرنا ب «النقد الإسلامي» ولم ندع المبادرة، ولم نكره الناس على أن يكونوا مثلنا، ولم نتخل عن «النقد الأدبي» فضلا عن إماتته، ولم نقل بأن ميلنا مشروع له ما بعده.
والمقتدرون يجلبون ويجربون، وقد يبتكرون أو يعدلون أو يضيفون إلى ما هو قائم، ولكنهم يعرفون قدر أنفسهم وأقدار مجلوبهم، فلا يدعون، ولا يميتون، ولا يغررون بالذين ينبهرون بالصيغ اللفظية والدعاوي العريضة، لخلو أذهانهم، وقصور هممهم عن المتابعة. والتواصل الاستهلاكي الخنوع بالمشاهد النقدية العربية والغربية لتمكين الذات من الحضور الهامشي البائس لا يخدم أدب الأمة، ولا يصون مثمناتها، وهي التي أمدت الآفاق بصنوف المعارف وعيون الإبداع.
و«النقد الثقافي» بمفهومه الإقليمي أو المصري أو الفرنسي إن هو إلا قطرة من بحر أو بعوضة على رأس جبل، ومدعيه لن يخرق الأرض، ولن يبلغ الجبال طولا. وإشكالية الاهتياج غير الحصيف أنه يقع في واحدية الاهتمام، وحين يحس بالعزلة والانكماش يفر منها إلى النقيض ليعود إليها، ف «البنيوية» مثلا انقطعت للغة، ونفت ما سواها، و«النقد الجمالي» انقطع للفن، ونفى ما سواه، و«النقد الثقافي» رفض الاتجاهين معا، واضعا كل ثقله في الأنساق الثقافية والاجتماعية المتشكلة من الشعر بوصفه الأوحد في التأثير وهو ما لم يقل به أحد من قبل ولن يجرؤ أحد من بعد إلا صاحب المشروع الضجة. والمبهورون بما يقال مما هو مطروح في الطريق، هم الذين لا يقرؤون، ولا يتابعون، ويقفون حيث ثقافة السماع، وإفضاءات الصحف. ولو أنهم حين فوجئوا ب «النقد الثقافي» كانت خلفيتهم الثقافية شاملة وعميقة ومتابعتهم للمستجد متواصلة، لما لعب الذوّاقون بعواطفهم، وما عليهم إلا أن يعودوا إلى كتاب المشروع، وينظروا فيه بعيون واثقة، ونفوس مطمئنة، ثم ليبحثوا عن منهج سليم، أو آلة دقيقة، أو معلومة موثقة، أو مبادرة توسع المدارك، وتثري المعارف.
لقد قرأت الكتاب فلم أخرج إلا بثلاث كلمات يتقلب معهما الكاتب جيئة وذهاباً «التفحلن» و«التشعرن» و«النسقية» وسنفرغ بعد الحديث عن «تهافت النظرية» لتناول «خطيئة التطبيق» معتمدين على الوثائق النصية في شقي الكتاب، وفيما زامنه من كتب أرهصت لهذا المشروع. لقد احتملنا على مضض ضجة الحداثة، وقلنا لعلها تكون تجربة فجة، يعود بعدها التائهون إلى جادة الصواب، واحتملنا بعدها جعجعة البنيوية، وأتحنا لها أكثر من فرصة، أملا في أن يستقر الذواقون، ويعيدوا النظر فيما خلفوه. وها نحن الآن في مغالطات فجة، واحتواء غبي مع «حكاية الحداثة» في محاولة لربطها بالتجديد، ليكون الخصوم تقليديين، ويكون الصراع بين الطرفين صراع مجددين ومقلدين، وهل أحد يقبل بهذا، ويصدق بأن الصراع مع الحداثة الفكرية صراع تجديد وتقليد، وأن المعارك الأدبية التي خاضها في المملكة محمد حسن عواد وحمزة شحاتة رحمهما الله كالمعركة مع الحداثيين، ولعل الهزة العنيفة التي تعرضت لها «حكاية الحداثة» من الأستاذ الدكتور سعد بن عبد العزيز الراشد «الرياض 24/11/1422ه» تحمل الحاكي على مراجعة حكايته، وإذ لم نحتمل «الحداثة» بمفهومها الفكري فإنه لم يكن باستطاعتنا أن نتحمل «النقد الثقافي» بهذا التصور المحدود والإجراء الجائر، مثلما أنه ليس مجديا تخلية المواقع من أشلاء الحداثة ب «حكاية الحداثة». والمغالطة وتلاحق البدائل في المشهد الأدبي، والتقدم به إلى سجلات التاريخ الأدبي بهذه الفوضوية وتلك المغالطات يمس سمعة المعاصرين، ويدين المرحلة التي تشملهم، ولو أن مؤرخاً للحركة الأدبية، تابع في رصده هذه التحولات غير الراشدة وغير الناضجة لما كان في وسعه إلا إدانة هذه المرحلة التي وسعت هذه الفوضى، ولست أقصد بها التعددية المذهبية، فالتنوع والتحول الواعيان بين متعددين يختلف عنه عند واحد جمع اللّه فيه كل المتناقضات.
ومع ما سبق من تحفظات قد تفسر على غير ما نريد فإننا لا نرى بأسا في تشعب الاهتمامات، وتعدد الاتجاهات، وتنامي الظواهر والقضايا الإبداعية والنقدية، والمراوحة بين لغة النص وشكله وفنياته ومضامينه ومكوناته وانعكاساته، لأنها وقائع مألوفة، وغير مثيرة. والنقد وتبدل مناهجه وآلياته أمر قائم ومألوف، لا يثير الانتباه، ولا يستدعي التبني، ولا حفظ الحقوق، ولا تقليد الغرب بمقدمات كتبهم، وتوزيع الشكر بين الزوجة والأولاد والزملاء، من قراء للنص ومساعدين في تحضير المراجع ومراجعة المشروع والمساعدة في الفصيح والعامي، وعقد المنتديات من المحيط الى الخليج، لتمحيص الكتاب، والإضافة إليه، والحذف منه، وتلافي النقص المحتمل قبل أن يستوي على سوقه، مع أن صاحبه لما يزل حديث عهد بمذاهب أخرى.
والكتاب برمته ومن قبله ما يسمى بالإرهاص له «المرأة واللغة» كلام ممطوط، ولغة مترهلة، ولت وعجن مملان على طريقة الذين يتحدثون ولا يقولون شيئا. وكبار الأدباء والمفكرين الذين أنتجوا المشروعات العملاقة وألفوا الكتب والمعاجم والموسوعات، لم يقل أحد منهم: إن المحافل النقدية من المحيط الى الخليج ناقشت مشاريعهم، وآزرت في مراجعتها، وهل كتاب ككتاب «النقد الثقافي» يستحق كل هذا الإيجاف؟ فأين صاحب المشروع من «عبد الرحمن بدوي» و«حسن حنفي» و«زكي نجيب محمود» ومن قبلهما «عباس محمود العقاد»؟ وأين هو من مشروع «عبد الخالق عظيمة» في أساليب القرآن و«فؤاد سزكين» في «التراث» و «شوقي ضيف» في «التاريخ الأدبي» و«ناصر الدين الألباني» في خدمة الحديث، وعشرات من العلماء والمفكرين والأدباء والنقاد ممن كتبوا عن «الفكر العربي» و«العقل العربي» و«النقد الأدبي» و«التاريخ العربي» ك «الجابري» و«العروي» و«جدعان» و«غليون» و«عز الدين إسماعيل» و«صلاح فضل» و«لؤلؤة» الذي كتب وترجم في المصطلح الحديث، و«مطلوب» صاحب معجم البلاغة والنقد القديم، بل أين هو ممن هم دون ذلك بكثير؟. لقد عهدنا من يتحدث عن أشياء: كبيرة أو صغيرة، حسية أو معنوية، كالأزياء والألعاب والمأكولات والمستعملات والعادات، لا يكون أكثر من «كاتب اجتماعي» أو «ناقد اجتماعي» أو «ناقد ثقافي» أو «ناقد واقعي» أو «ناقد أسطوري» أو «ناقد أنثربولوجي»، وكل هذه الاتجاهات قائمة ومتداولة، وليست العودة الى شيء منها بحاجة الى ذلك الحشد البشري «لتدشين» المشروع. لقد ضرب لنا صاحب المشروع «المدشن» مثلا باتخاذ «لعبة البلوت» مجالا لتطبيق «النقد الثقافي» وقد يأخذ بمثلها آخرون، بوصفها تطبيقا للنقد الاجتماعي، مع أن القول عن هذه اللعبة في زمن مدلهم بالمشاكل، مليء بالأحداث الجسام، استهلال فيه تخذيل وإحباط للرفاق. وحين نسلم بأن الحديث عن قانون اللعبة وشرطها وأنواعها خير مثال لمشروع «النقد الثقافي» وقد سلم المشايعون بذلك، فإن «فؤاد عنقاوي» هو الرائد الحقيقي ل «النقد الثقافي»، لأنه أول من ألف عن «لعبة البلوت» كتابا متداولا من عشرات السنين. والبحوث التي أعدها المتخصصون الأكاديميون في أقسام علم الاجتماع في الجامعات المحلية والعربية، وهي بحوث تناولت كل الظواهر الاجتماعية، وكل الأنساق الثقافية، وقامت على منهجية دقيقة، وعولت على معلومات صحيحة، هذه البحوث تخول أصحابها الريادة والتأسيس والانطلاق.
ومصطلح «النقد الثقافي» المتفلت من أي قيد، السابح في كل مجال، المحتمل لكل تصور، المستعير لكل منهج ولكل آلة، يحال الى «اللامحدودية» و«الحد المكسور» كما يقول المصطلحيون لا يكون مصطلحا، ومجالات الثقافة أوسع من الحد، ولم يتفق المعنيون بالثقافة على تحديد لها، يحول دون التسيب وليس مسلما الإطلاق والتأطير في آن، والمشروع لا بد أن يكون مؤطرا معروفا لدى المعنيين، والاشتغال بالثقافة لا يكون محدودا، فالثقافة تحصيل وتعديل وحذق، ومن ثم فهي صفة وليست موصوفا، والمشروع يتطلب التوصيف، وصيرورة «النقد الثقافي» إقليميا الى ما يدين الثقافة من خلال أنساقها القائمة بالفعل أو المختلفة من خلال سوائدها ومسلماتها لا يمكن معها تأطير المصطلح. ومع القبول بأي تعالق منهجي أو آلي لا يتعمد نفي القائم من المناهج والآليات، ولا يدين المرجعية ونصها القطعي الدلالة والثبوت، ولا يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة، تبقى هناك أولويات ومواضعات ومسلمات وقناعات وثوابت ومكتسبات، لا يمكن الخروج عليها، أو المساس بها، ولا نسلم بأنه لا شيء فوق النقد والمساءلة، إلا للفعل البشري، ومن ثم لا بد من التفصيل، ف «الإيمان» يقتضي التسليم للنص التشريعي القطعي الدلالة والثبوت، لأنه المصدر الوحيد، فالعقل وموارده لا يملك قطعية الدلالة النصية، ولا يحسم الخلاف في أمر «الميتافيزيقا». والأنساق ودعوى الفحولة ليست من المقدس، وليست من المغيب، ولكن اختلاقها من المقترفات التي تستدعي المساءلة. والحديث عن الأنساق بوصفها المجال الأوحد للنقد الثقافي، وفق رؤية البعض، يحملنا على تصورها مفهوما على الأقل. فالنسق: هو النظام، والتنسيق التنظيم، والمناطقة يرونه: مجموع القضايا المرتبة في نظام معين بمقدماته ونتائجه، والأنساق أو النسق عند الثقافيين: جملة أفكار متآزرة ومرتبطة، يدعم بعضها بعضا،ومنها يتشكل وعي الأمة وموقفها من الأشياء، و«الذهن النسقاني» هو المتشبث بفكرة سابقة، والنسقي نسبة الى النسق، وقد يطلق النسق على المذاهب،ومن ثم أضيف النسق الى الفلاسفة فقيل «نسق أرسطو»، و«نسق ديكارت»، وقد ينبري من المريدين من يضيف نسقا أو أنساقا الى صاحب المشروع، لتحاز له الأمجاد بحذافيرها، وأوسع من تحدث عن النسق في الموسوعات «محمود زيدان» في «الموسوعة الفلسفية العربية»، ولربما يكون «النقد الثقافي» المحلي مرتبطا ب «الذهن النسقاني». على أن هناك مجموعة من النقاد والمفكرين والساسة، توسلوا بالأنساق، وتذرعوا بها للتخلل برؤيتهم وسط البنى القائمة، فهل يكون «الناقد الثقافي» متعالقا مع هذه المتعاليات، واعيا دوره في مواجهة الثقافة، أم أن القضية مجرد احتماء وراء لافتات المريدين؟
ومأزق المصطلح، وتهافت التنظير، يقعان بين الثبات الوضعي ومحدودية المصطلح أو فضاءاته. ولن نتحدث عن مأزق «المفهومية» القائم على أشده بفعل المشمول الثقافي، فالإدانة ليست في المفهوم، لأن المفهوم يفرضه مصطلح الثقافة قبل أن يتلبس بالنقد. وحين تجتاز الكلمات مدلولها اللغوي الى المدلول المصطلحي، يتطلب الأمر الرجوع الى الكلمتين بوصفهما اللغوي والمصطلحي السابق للمدلول التركيبي ومعرفة المقاصد، ولا سيما إذا كانت الكلمة تستعمل مصطلحا في أكثر من علم أو فن، فجذر «ن س ق» مصطلح: فلسفي، وأدبي، واجتماعي، ومنطقي. بل هو جذر صالح لأي إطلاق، بحيث يمكن وصفه أو إضافته لأي مفهوم قائم أو محتمل القيام. والحاذق هو الذي يسيطر علي مراوغة المصطلح، ويحول بينه وبين التعويم والتوهيم، وذلك من خلال الممارسة التطبيقية على ضوئه. و«النقد الثقافي» كما «الحداثة» لها تشكلها الظرفي والفكري، ولها فوق ذلك أزمتها المفهومية التي تضاف الى اتساع الدلالة والمقتضى بفعل النوايا المبيتة، ولكنها تظل كما هي عند المنشئ، ذات مقتضيات ومقاصد، وقد يلح المستعير في صبغها بالصبغة التي يريد، ولكن استفاضة مفهومها الجديد، وقبول المشاهد الفكرية به، يكون من المستحيل على الذواقين تحويل دلالة المصطلح أو تغيير مفهومه أو استئناف مهماته الجديدة، ذلك أن تحويل دلالة المصطلح تتطلب قدرات وظروفاً ومشاهد استثنائية، ولا أحسبنا بحاجة الى هذه التهويمات، فنحن بإزاء وثائق تطبيقية لا فكاك منها. ويكفي أن نحيل الى معطى «التشعرن» القائم على تأكيد مقولة المستشرقين «بفاعلية» الغرب و«انفعالية» الشرق، وقد ألمح الى ذلك الدكتور «تمام حسان» في مقدمته التي كتبها لمترجمه «الفكر العربي ومكانه من التاريخ» من تأليف «ديلاسي أوليري»، و«النقد الثقافي» يؤكد الانفعالية من حيث لا يحتسب، ومن ثم يخدم الطرف الآخر الذي يوغل بالنيل من الإنسان العربي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل