تفكيك الفعل الأمريكي ..!
د.حسن بن فهد الهويمل
1 - لم نصف دور أمريكا بالموقف، وإنما تجاوزنا به إلى الفعل، والدولة الشريكة في الأحداث لها: موقف، وفعل. وأمريكا ضالعة في صناعة الفعل، أو في الرعاية له، أو في الموقف منه، أو في ممارسة الفعل: منفردة أو شريكة.
والمطابخ السياسية العريقة تقد القمص على قدر الأبدان، فلا مجال للارتجال ولا للمجازفة ولا للقرارات الفردية ولا للتصرفات الانفعالية، وليس فيما نقول تزكية، ولكنه تحريض على المواجهة بالمثل، وأمريكا صاحبة القدح المعلّى في تعدد المكاييل والموازين والتناقض الصارخ. والتخطي بالتفكيك من الموقف إلى الفعل له دلالته، إذ ربما يكون الموقف مؤيداً لطائفة على أخرى، أو محايداً، ثم لا يكون لحالتيه التأثير الذي نعيشه مع الفعل الأمريكي، ولو نظرنا إلى مواقف الدول الأوروبية على سبيل المثال، لوجدناها كما نومة الذئب الذي:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى الأعادي فهو يقظان نائمُ
فالأوروبيون ينظرون بعين حذرة وجلة إلى الحق، وبالأخرى إلى المصالح المشتركة مع الخصم، إذ ليس هناك فعل أو موقف إلا بثمن، والأقل الأقل من يأخذ بالحق الإنساني، وبالعدالة المطلقة، وحق الشعوب في تقرير المصير.
ومثلما أن لأمريكا مصالح في أوروبا، فإن للأوروبيين مصالح دون تلك في أمريكا وفي الوطن العربي، ولهم قضاياهم ومشاكلهم التي تتطلب حبلاً من الله أو حبلاً من أمريكا، لإنجازها أو تذليل عقباتها، وأمريكا بما تملكه من أذرعة طويلة قادرة على إجهاض المواقف وتقويض الأفعال، يحسب لها القاصي والداني كل الحساب، وليس من المصلحة لأي طرف نسف قنوات الاتصال معها، ما أمكن ذلك.
2- وموضعة الفعل الأمريكي وتفكيكه، يتطلبان إمكانيات استثنائية، إذ ليس من السّهل على المتخصص في السياسة والمشتغل فيها وصانع أحداثها أن يراهن على تمكنه من قراءة السياسة الأمريكية قراءة سليمة، فكيف بالذين لم يتخصصوا، ولم يشتغلوا، وكل ما لديهم لايتجاوز المتابعة الإعلامية، والقليل من القراءة الاستعراضية للدراسات والمذكرات والمقالات المتسطحة والمتناقضة إلى حد الفوضى وبما أن المسموع والمرئي والمقروء عبر الوسائل الإعلامية قد يكون جزءاً من اللعبة السياسية إذ لا يفيض إلا بما يخدمها، وقد يتعمد التضليل، ورد الفعل لا يتجاوز التدفق العاطفي الفارغ من المعلومات والحقائق، بحيث لا يتجاوز الهجاء المقذع أو التبرير الواهي. ولقد كدت أذهل حين قرأت عملين للكاتب السياسي الشهير «محمد حسنين هيكل» يتحدثان عن مرحلة سياسية واحدة شرق أوسطية: أحدهما يعتمد على الخبرة السياسية، فيما يعتمد الآخر على الوثائق السرية المفرج عنها بعد أمة، مع أن الإفراج لا يمتد إلى الوثائق التي تضر بالمصالح القومية، وقد تكون الوثائق مزورة أو مسلوكة في اللعب الذكية، وأحسب أنه لو ألف كتاباً ثالثاً لناقض ما سالف.
والحديث في السياسة عن السياسة يقترب من قراءة الكف والتنجيم والضرب بالودع، تنبؤات ورهانات تقترب من الصواب، ولكنها لا تكون عينه، ولو أن الكتاب السياسيين أعادوا قراءة ما كتبوا بعد انكشاف اللعب، لتمنوا أنهم لم يقولوا ما قالوا، ومع هذا فإن القول في السياسة يوفر للكاتب فضاءات واسعة، ذلك أنها في النهاية «فن الممكن». والكتبة لا يلتفتون إلى الوراء ليعرفوا كم حققوا من الصواب، وكم هي مسافة الإيغال في الخطأ، ولم أنهم فعلوا ذلك لخجلوا من أنفسهم.
وصناع القرار، والمنفذون له، والمتداولون للقضايا السياسية عبر المؤتمرات واللقاءات يخرجون إلى الناس بوجوه باسمة، وأعصاب باردة، فيما يعيش الأبعدون عن صنع القرار وعن المؤتمرين في أقصى حالات التوتر والانفعال والاستياء، وقد تصل بهم الحال إلى الاشتباك بالأيدي، وتبادل الشتائم والاتهام بالعمالة، ذلك أن المشتغلين والمؤتمرين يعرفون بعض الحقيقة، فيما يعرف سواهم نقيضها، مع الجهل التام بمجريات الأحداث التي تمسهم في الصميم، ومن هنا نشأت المعارضة والخطاب التشنجي.
ولأن القول في السياسة لا يحيل إلى مرجعية وثوقية، ولأن بوادر الأحداث لا تعبر بالضرورة عن طبيعتها فإنه من الصعوبة بمكان كشف المتقولين كل الأقاويل على السياسة والمتهمين في تشكيل الوعي الزائف والمحرضين للرأي العام على المواجهة. ومع هذا فالسياسة مغرية على الحديث وعلى السماع، بل تكاد تكون فاكهة المجالس، والمؤكد أن الشعب المسيَّس لا يقل خطورة عن الشعب المعسكر، ولما كانت أجواء السياسة مشحونة بالأحداث الجسام، كان على حملة الكلمة دقة التحري، وتلافي التهييج، وتحامي تصعيد الاحتقان.
3 - والحديث عن الفعل الأمريكي كما التواصل السياسي معها محفوف بالمخاطر التي تمس المصلحة والسمعة معاً، ذلك أنها متوغلة في الخصوصيات، ضالعة في صنع اللعب الموجعة، منحازة لألدِّ الأعداء، والناس بقدر ما هم متوغلون معها فإنهم معادون لها، وتلك معادلة صعبة، قل أن يحسب لها أدنى حساب، وخطابهم إزاءها خطاب عاطفي متأجج، لا تحكمه دراية ولا روية، ومع كل ذلك فإن الجميع يمرون بها في غدوهم ورواحهم، شاؤوا أم أبوا، والحتمية تفرض التفكير الجاد لعبور هذا المنعطف الإلزامي. وكأن أبا الطيب المتنبي يعيش بيننا، يتجرع مرارة الذل الذي نتجرعه، ويعاني المهانة التي نتعرض لها، ويتلوى من التوجع الذي نغالبه، وليس من شك أنه بكبريائه وإبائه وقلة حيلته وهوانه على الناس، مر بما نمر به، وعانى ما نعانيه، وأسقط في يده مثلما أسقط في أيدينا، وذلك حين قال:
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يَرَى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
وأمريكا التي نزعت قناعها، وكشرت عن أنيابها، وكشفت عن ساقيها، وتقاسمت مع «شارون» آلة الحرب المزدوجة:
حرب الأسلحة الذكية.
وحرب السياسة القوية.
أعطته أحدث المعدات، وتولت كبر الحرب السياسية في كل المحافل مع حفظ ساقته «بالفيتو» و«التجويع» و«تسييس الإعانات والقروض» و«تحريك الملفات» التي لا يود المستضعفون تحريكها، وهي رائدة لمقدمته بكل ما تملك.
وتظل بكل هذا الانحياز الدولة الوحيدة التي بيدها مقاليد الأمور، ومفاتيح الأعمال، وحل الإشكال، فهي راعية السلام، واللاعب الأهم في كل الأحداث، وصوبها تتجه المناشدات والمظاهرات والنداءات، طائفة تطالب بالمقاطعة لها، وأخرى تطالب بالضغط عليها، وثالثة تصيب الأقربين، وتتهمهم بالعمالة والمواطأة، ورابعة تحدو قومها لاتخاذ أي موقف، يحفزها لكي تحق الحق، وتقمع الظلم، وتوفر الحقوق الإنسانية التي قالت في سبيلها الكثير، وكل الزعماء المثقلون بهموم أمتهم، يعولون عليها، ويتمنون أن يكون فعلها في سبيل الحق، ولو بكلمة واحدة، تحاج لها أمام الناقمين عليها من أصدقاء صدقوا معها، ومتعاملين شرفاء، وفوا بالعهود والمواثيق، ومنحوها دعمهم وتأييدهم في مواقف كثيرة، وصدقوها وهي كذوب.
4 - وأمريكا التي تهتف الجماهير بسقوطها، تظل الأكثر تأثيراً في الأحداث المصيرية، والأكثر حضوراً بأشيائها مع ألد خصومها. ومتى امتلك المعنيون سبيلاً إليها فإن من واجبهم سلوكه، فالحرب العسكرية غير ممكنة في ظل الظروف والإمكانيات القائمة، ولم يبق إلا الحرب «الدبلوماسية» على سبيل «التكتيك» لا على سبيل «الاستراتيجية»، إذ الجهاد فريضة إسلامية، وإذا كان «الأمير عبد الله» يخوضها عبر جولتين: «المبادرة» و«الزيارة» فإن من واجب الأمة كافة أن تشد أزره، وأن تدعو لمساعيه بالسداد والتوفيق، إذ ليس بالإمكان إلا ما كان، ومن يملك خطاباً آخر، أهدى وأجدى فليأت به، فالوضع العربي كافة والفلسطيني خاصة في حالة لا تتطلب المزيد، والمؤتمرون يلتقون في خيمة بين الصفين على أشلاء القتلى لحقن الدماء وفك الاشتباك. والمتجهون إليها، لا يقرون مواقفها، ولا يباركون خطواتها، ولا يمنحون انحيازها مشروعية، ولكنهم يبذلون أقصى حد من العمل لإيقاف هذا الفعل الذي لا يليق بدولة بوزنها، تفرط بسمعتها وبأصدقائها في سبيل شرذمة قليلة، لا ترقب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة.
ودولة بحجم أمريكا وباقتدارها وبإحكامها اللعب السياسية وصناعة الكذب تستطيع أن تكون «سلفية» و«شارونية» في آن، وهي قد فعلت حين أحكمت قبضتها على الإتحاد السوفييتي في أفغانستان، لقد وطأت أكنافها لكل الإسلاميين، تمدهم بالسلاح والمال والمعلومات، وتحجب عنهم المواقف المناوئة، حتى إذا سقط الاتحاد، نسلت من اللعبة موجهة فوهات البنادق إلى الذين التقت معهم في مصالحها. وحين انجلى الغبار وبان الفرس من الحمار، لم يتحمل المجاهدون فداحة اللعب، فكانت كارثة الحادي عشر من سبتمبر بداية لاستهداف مصالحها، وهنا تحول الغول من «السلفية» إلى «الشارونية»، وظهرت مصطلحات «الإرهاب» و«محور الشر»، وكلتا السمتين «السلفية» و«الشارونية» لا تخرجان عن اللعب السياسية، فنحن نستفظع «التَّشَوْرن» بمثل ما استفظع الاتحاد السوفييتي «التَّسَوْلف».
وركوب الموجة حين تكون باتجاه الهدف غنيمة باردة إذ ليس من بأس على راكبها. وعلينا تحت هذه الظروف أن نعمل على توازي الخطوط لا على تقاطعها، فنحن بوضعنا القائم غير قادرين على طرح خطابات مستقلة.
وتبقى أمريكا هي أمريكا تتلمظ، وتخلل أسنانها لفريسة أخرى، وفعلها كالأيام التي يداولها اللّه بين الناس فيوم لك ويوم عليك، والذكي من امتلك مرونة التحرك حتى يستقل برأيه وقراره:
فإما سلام الشجعان.
وإما حرب الأقوياء.
«وليسوا بغير صليل السيوف
يجيبون صوتاً لنا أوصدى»
لقد جاوزوا المدى
ولو كنا قادرين:
لحقَّ الجهاد
وحق الفداء.
ولكن ليس بأيدينا إلا حرب الدبلوماسية، فلنتفق على أسلوبها، بانتظار ما لا يأتي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|