صناعة الإرهاب .. بين المناهج الدراسية واللعب السياسية (1/2)
د.حسن بن فهد الهويمل
بعد سقوط المعادل الشيوعي، نجمت معضلة (القطب الواحد)،بكل ما يحمله من تسلط واستبداد وبكل ما يرافقه من انعدام لمبدأ التدافع الحافظ للتوازن والتداول. ولما جاءت (دراما) السقوط مفاجئة، وغير متوقعة، ربكت المعادل الذي لم يهيئ نفسه لمهمات (القطب الواحد) وارتبك تبعاً لذلك العالم الثالث بوصفه الغنيمة المتنازع عليها، والمجال الرحب للعب السياسية، والحرب الباردة، والحقل المناسب لتجارب الإمكانيات والمكتشفات وتسويق الصناعات واستغلال الخيرات. هذا العالم المغلوب على أمره، كان يجد في صراع الأقطاب متنفسا للحرية، واستغلالاً للحظات التنازع على الغنيمة، ولما يكن التكتل الأوروبي قد فرغ من رسم سياسته، فحساباته مرتبطة باستمرار القطبين.
الانهيار المفاجئ وغير المتوقع للاتحاد السوفييتي، حرض الولايات المتحدة الأمريكية على سد الفراغ السلطوي والنهوض بمتطلباته، ولم تكن أمريكا من الغباء بحيث تفوت الفرصة، وإنما التفت على الإرث بأسلوب ذكي وسريع، وقطعت قول كل خطيب بتصدرها العالم بوصفها الأقدر على قيادته: تقنيا وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، ولما لم تجد في طريقها من يحول بينها وبين ما تشتهي بعد خلو الجو من المنغصات الشيوعية، فقد بدت هواجسها تدور حول الخصم القادم، وتحرك عقلها الباطن باتجاه التراكم التاريخي.
لقد قفزت نظراتها إلى نجاحات الإسلام في تجربته العالمية، وفتوحاته المظفرة، وسرعة الاستجابة له، ودخول الناس فيه أفواجاً، واستحضرت ويلات الحروب الصليبية وتكسر أمواج الغزو الصليبي أمام صمود المسلمين وقوة إيمانهم، واستذكرت تجربة الصراع المرير عبر أحقاب التاريخ، ولم تفكر في الوحدة الأوروبية، فهي معها في خندق واحد، وإن اختلفت المصالح، لقد نظر الأمريكان إلى العالم الإسلامي نظرة ارتياب، ووجدوا فيه المعادل المنتظر، مما حفزهم على تصعيد الصراع معه على كل المستويات: الإعلامية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، حتى لقد تجاوز الصراع إمكانية الاحتمال، حيث دخل في حرب مدمرة، وغير معلنة، تمثلت بالتدخل السافر، والوقيعة المكشوفة، وإثارة النعرات الطائفية والإقليمية، وتزويد الضعيف حتى يقوى ثم الانقلاب إلى خصمه، مما أدى إلى زرع الخوف، واستنزاف الطاقات، وشغل العالم عن التفكير في صناعة نفسه. ولاشك ان استخدام المكر تارة والقوة تارة أخرى، وتصفية الطرف الآخر الذي لايملك سلاحا متكافئاً هو ذروة الإرهاب وسنامه.
والغرب يبرر المواجهة مع العالم الثالث بما يمارسه من إرهاب، ولايفرق بينه وبين المقاومة المشروعة لاستعادة الحق السليب من أرض مغتصبة واقتصاد منهوب وحرية غائبة. فهو حين يمتد بسلاحه إلى آفاق المعمورة يصف فعله التسلطي بمواجهة الإرهاب، وبحرصه على إقرار السلام، وحفظ التوازن، وإعادة الحقوق الإنسانية. فيما يرى العالم الثالث ان ممارسة القمع، والتسلط، والإذلال، ومصادرة حقوق الإنسان، والمنع من التوفر على قوة الردع هو الإرهاب، ذلك ان الإرهاب ليس قصرا على ازهاق الأرواح كما يفسره الغرب.
ولأن أمريكا تتصور أنها قادرة على قطع شأفة القوة المنافسة، فإنها بحاجة إلى تدمير القيم المعنوية والمقومات الحضارية لطمس المعالم ومسخ الذات. ولتحقيق هذا الحلم فتحت جبهة جديدة على (المناهج الدراسية) بوصفها المنتج لقيم الحضارة والمشكلة لوعي الأمة، والمحددة لمسارها ولموقفها من الأشياء، معتبرة إياها بهذه المهمات محرضة على الإرهاب، وصانعة للإرهابيين، فكان ان وجهت إعلامها ضد (المملكة العربية السعودية)، بوصفها قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، والمحكمة للشريعة والمظهرة للدين، ومتى خضدت الشوكة سهل عليها القضاء على ماسواها، وساعدها على ترويج هذه الشائعة انتماء بعض المتهمين بحوادث الإرهاب إلى المملكة بالجنسية أو بالدراسة، مع ان كل مايشاع كذب لا يحتمل الصدق، وليس صدقا لايحتمل الكذب. والضالعون في تدمير المنشآت والمصالح الأمريكية من مختلف الجنسيات والأعراق كانوا معها في مواجهة الشيوعية، فهي التي صنعتهم، وشكلت وعيهم، وحين تخلت عنهم، وسعت لتصفيتهم، لم يقبلوا بالموت المجاني، وإنما أخذوا ثمن حياتهم بالمواجهة وفق الإمكانيات. والقول بأن المناهج تصنع الإرهاب قول مغالط، والصهيونية المسيطرة على المال والإعلام في أمريكا هي التي تصنع تلك المفاهيم، وفات اللوبي الصهيوني الناشط في ترويج هذه الشائعات ان الإرهاب الحقيقي إنما ينسل من اللعب السياسية التي تصنع في الغرب، وتنفذ في بقاع كثيرة من العالم الثالث. وصناعة اللعب يضطر الصانع إلى الممارسة (التكتيكية) بحيث يتقلب في اعطاف المبادئ، تتناقض خطاباته، وتتعدد أحلافه، وتختلف مصالحه، وقد أشارت (تاتشر) ذات مرة إلى ان الصداقات لاتدوم، لأنها محكومة بالمصالح، والمصلحيون يتلونون كما (الحرباء) حتى لاينكشف أمرهم ولايبطل كيدهم.
واللعبة السياسية لايدق خفاؤها حتى ترتبط شكلا وأسلوبا بالمنفذ، وصانعها يحاول قدر المستطاع إخفاء وجوده والحيلولة دون ظهور أي مؤشرات على تورطه. وبراعته تتجلى في بعده عن مسرح اللعبة، وهذا الفعل يضطره إلى القبول بأيديولوجية مناقضة لأيديولوجيته، وتجهيز خطاب إعلامي مغاير لخطابه المعلن، ولربما يكون ناتج هذه المغايرة مخلا بتوازن القوى، الأمر الذي يضطر صانع اللعبة إلى تخلية الموقع من مخلفاتها، وقد تكون عملية التخلية بحاجة إلى لعبة أخرى لإبطال مفعولها، وقد يكون منفذ اللعبة ذكيا، بحيث يستغل الظروف، لكي يصنع آلية اكبر من طاقة صانع اللعبة، وليس شرطاً ان يكون اللاعب واحدا إذ ربما تتداخل اللعب، بحيث لايستطيع المتابع التفريق بين ماهو فعل اضطراري نابع من الحاجة، وماهو لعبة صنعها الأقوياء ونفذها الضعفاء، لحفظ توازن، أو لتأديب متمرد، أو لهبوط بمستوى اقتصادي، أو تفكيك لوحدة قوية، واللعب تكون كونية، وتكون اقليمية، تكون طويلة الأجل أو قصيرته، وقد تكون متبادلة بين طرفين كما الجاسوس المزدوج، وقد يكون حتف الصانع فيها.
ولعلنا نستعرض قضايانا العربية، فيما بين العرب، وفيما بينهم وبين غيرهم، وفيما بينهم وبين اسرائيل بالذات، فالمستويات الثلاثة تشكل سلسلة من اللعب بكل أنواعها، ومقاصد اللاعبين في ان تبقى الأمة العربية في مستوى عسكري واقتصادي لايخل بتوازن القوى في المنطقة، ولايجعل اسرائيل في وضع لاتملك معه قمع أي محاولة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية تمس أمنها أو تهدد وجودها، وأحداث المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية مليئة بالعبر، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكل حدث تستطيع ان تقرأه على عدد من المستويات.
وحين يضطر صانع اللعبة إلى إعادة الأمور إلى مجاريها، يحس المنفذ لها بالغبن والقهر، ذلك انه أضاع جهده ووقته وماله، تحت تأثير الكذب والخداع، ثم لم يجن من دوره الذي قام به إلا خيبة الأمل، وهنا يفقد صوابه، ويحس أنه بحاجة إلى استعادة كرامته، وإذ لايقدر على المنابذة على سواء، يتخذ الإرهاب سبيلا للنيل ممن غرر به، واستغل سذاجته.
واللعب القاصمة تصنع ابتداء في أوكار لاترعى في اللاعب إلاًّ ولا ذمَّة ويكون اختيار المنفذ وفق الموقع الجغرافي المناسب والأعماق السكانية والاقتصادية والحضارية المناسبة، وقد يكون الحدث قائماً وصالحا لكي يحول إلى لعبة، والمتابعون الأذكياء يعرفون اللعب بسيماها، ويعرفون اللحظة التي يدخل فيها الحدث مجال اللعبة، ويعرفون اللاعب الذكي واللاعب الغبي. وحين تشارف اللعبة على النهاية، تقترب شفراتها من الانكشاف، بحيث لايجد صانعها بداً من الانسحاب تاركا اللاعب الغبي يجمع أشلاءه ويراجع حساباته، ولحظة التنوير هي التي تصنع الإرهاب، لأن اللاعب الذي أضاع مقدراته وجد نفسه على المسرح وحده، فيما هرب الصانع بالغنيمة، وهنا يتحول اللاعب المخدوع إلى كتلة من الحقد، يحفزه للأخذ بالثأر، ولأنه لايقدر على إعلان الحرب لفقده الندية فإنه يلجأ إلى العنف والإرهاب ومطاردة الهارب الذي تركه في منتصف الطريق في عقر داره. ذلك وجه من وجوه صناعة الإرهاب، ولو ان المناهج لها دور في صناعة الإرهاب لتحولت الأمة كلها إلى عصابات، والجريمة المنظمة منتج غربي، وليست من الإسلام في شيء، والمناهج مطالبة بالتأصيل، وتحرير المسائل، وتشكيل الأمة على هدي من نصها المقدس.
أما الوجه الآخر من وجوه صناعة الإرهاب، فهو تسلط الأقوياء على الضعفاء: شعوباً أو دولاً أو جماعات أو أفراداً، فالمقهور حين يتجاوز القهر معه حد الاحتمال، ينفجر في وجه من قهره، ذلك ان الحياة قيم وفلسفة ومعنى، وحين تفقد قيمها ومعانيها يكون الانتحار الفردي أو الثورة الجماعية، فالصبر له حدود والاحتمال له نهاية، والتدخل السافر في أمور الدول الضعيفة وقضاياها وفرض الحلول المناسبة للمتسلط تؤدي في النهاية إلى مواجهة دامية تجسد مقولة:
(عليَّ وعلى أعدائي). والعالم الثالث مسرح القهر والتسلط، ومع ذلك لم تمتد يده إلى مصالح الأقوياء، ولا إلى أراضيهم ولكنه كبت وغلت يده، وحيل بينه وبين حقوقه المشروعة. ان هناك وجودا تسلطياً من الغرب، ودعماً لحكام متسلطين، وهناك نزاعات إقليمية وطائفية، يحركها الغرب، ويمولها، ويسهم في إشعالها، فيما لم يحاول العالم الثالث التدخل في شؤون الكبار، وهو غير قادر على ذلك، ان الظلم، والقهر، والكبت، وسلب الحريات، ودعم الحكام المتسلطين، واستنزاف الخيرات، وإحداث العداوات بين الأشقاء، ونصر جانب على آخر مدعاة إلى الكره والحقد الذي يترجمه المقهور بالتفجير والمظاهرات وضرب المصالح.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|