أيها الخليجيون خذوا حذركم من العمالة..!
د. حسن بن فهد الهويمل
كل أسواق الجذب في العالم تمر بمخاضات موجعة، وهي إذ تكون مضطرة أو ملزمة باستيعاب العبوات الناسفة من العمالة المتفاوتة، يكون من واجبها أن تتحسس مواقع أقدامها، وأن يكون لديها الاستعداد التام لرفع درجة الحذر والحيطة، وتوجيه كل طاقاتها لرصد رياح التغييرالناتجة من تقاطر الوافدين الذين لا ينظرون إلا بعين الكسب: مشروعاً كان أو غير مشروع، وما يتركونه من آثار سيئة على كل المستويات.
وحين ينعم الله على الأمة بالمال الوفير، والأمن الوارف، والخطط التنموية الطموحة، يتهافت عليها العاملون والمستثمرون، وتمارس معها الضغوط لتسهم في فك اختناقات البطالة عند الآخر، وقد تستدرج بالإغراء تارة، وبالترغيب أو الترهيب تارات أخرى، وتكون عشق الملايين من الناس ومهوى أفئدتهم. وإذا كان المعسرون يعانون الأمرين في سبيل الحصول على لقمة العيش، فإن الموسرين يعانون مثل ذلك في سبيل ترشيد المسار، وتحامي الانزلاق في مهاوي الترف واللامبالاة. وضريبة الغنى كضريبة الفقر، والمسألة في النهاية معادلة صعبة أو تعادلية متوازنة، فلكل وضع مشاكله، وأسلوب مواجهته، ومن ظن أن الموسرين على شيء من الراحة والاسترخاء، فقد وهم، فالحياة كلها كبد ومغالبة، وللأغنياء مثلما للفقراء همومهم وتطلعاتهم.
وقدر (الخليج العربي) أنه منطقة جذب، يتهافت عليه أفواج من الناس المختلفين في لغاتهم وأعراقهم ودياناتهم وعاداتهم وأخلاقياتهم، يستنزفون الخيرات، ويضيقون فرص العمل على أبناء الوطن، ويتركون آثاراً سيئة لا يعرف مداها إلا المكتوون بها، ومع أن تلك الظاهرة عبوة موقوتة فإن الناس ألفوها، وعايشوها، ولم يأخذوا حذرهم منها، والراصدون لآثارها من رجال الأمن والتربية والاقتصاد يكتمون بعض ما يعرفون خوفاً من إزعاج الناس، ولو أنهم أظهروا ما عرفوا من إشكاليات العمالة، ثم وضعوه بين أيدي الكافة بكل بشاعته، لأخذ الناس حذرهم، واكتفوا بالأقل من العاملين، والدليل على ذلك أن المكتوين بويلات البعض منهم صرفوا أنظارهم عن الاستقدام أو الاستعانة فضلاً عن التوسع.
لقد كانت لي إلمامات خليجية، تقف بي على متجر هنا، أو فندق هناك، أو منتزه هنالك، وفي كل موقع أشعر أني غريب الوجه واليد واللسان، حتى لكأني في ملاعب الجنة التي قال عنها (المتنبي):- (لو سار فيها سليمان لسار بترجمان). مع أن الله علمه منطق الطير، وهذه الغربة لا شك أنها موغلة الأثر في الأسر الخليجية، ولا سيما الأطفال، والتلقين في الصغر كالنقش على الحجر، فما يتلقفه الصغار من لغة أو عادة يتأصل في وجدانهم، وكأنهم ورثوه من الآباء والأجداد. وإذا تركت العمالة أيسر ما عندها من سلبيات، ورحلت، تحولت ظواهرنا الاجتماعية إلى خليط عجيب، لا تعرف له أصلاً ولا فصلاً، وتلك رزية لا قبل لنا باحتمالها، ولو كانت تلك المؤثرات عربية لما كان في الأمر من بأس، ولكنها أخلاط متناقضة، وعجمة مستحكمة، ومما يؤسف له أن العمالة ربما تجمع بين العجمة واختلاف الدين والتخلف بكل وجوهه، والطفل المولود على الفطرة يجد المربية والسائق والخادمة الذين قد لا يهودون ولا ينصرون، ولكنهم ينسون الأطفال ما تعودوه من آبائهم وأمهاتهم، وإن لم يتهودوا ويتنصروا فإنهم بلا شك سيتأثرون بمن لا يذكرون الله ولا قليلاً، ومن ثم تتحول البيئة إلى بيئة موبوءة، وهذابحد ذاته كاف لإطفاء المشاعر وتبليد الحواس، وكيف تتأتى لنا التربية السليمة والآباء والأمهات لا يلمون بأطفالهم إلا قليلاً، وما أجمل مقولة شوقي عن غفلة الآباء وانشغال الأمهات:-
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همِّ الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أماً تخلَّت أو أباً مشغولاً
ولو أن هذه الإشكاليات جلبتها المؤسسات الحكومية لسمعنا تشنجاً وعويلاً، أما وقد كان المواطن هو الفاعل مع سبق الإصرار فإننا لا نسمع عنها إلا همساً، والأسرة الخليجية مهددة من «الخادمة» و«السائق» و«عامل النظافة» و«المسوِّق» وهذا الحصار المحكم الذي صنعناه بأيدينا لا يمكن أن يمر بسلام، ولو أن جهات الأمن كشفت عما تضبطه من سوءات وإساءات تمس كل جوانب الحياة لعاش الإنسان الخليجي في خوف لا قبل له باحتماله، وكيف تطمئن نفوس واعية والبلاد يسرح فيها ويمرح أكثر من ستة ملايين وافد، تختلف مستوياتهم ولغاتهم وعقائدهم وعاداتهم، منهم المرضى، ومنهم المجرمون، ومنهم المشعوذون، ومنهم الناصحون الساعون في فجاج الأرض لطلب الرزق الحلال، فيما يقابلهم من المواطنين العاميون، والمعسرون، والمستغلون، والمتحايلون، والمهملون والمغفلون والقابلون للاستغلال، هذه التركيبة العجيبة لا يمكن أن تأتي معطياتها سليمة كما يتوقعها المتفائلون. ومما يضاعف الإشكالية المتسللون من الحدود والمتخلفون من الحج والعمرة والهاربون من كفلائهم والمتسترون على كل هذه المخالفات من المواطنين الذين يواطئون على الخطيئة.
والعدد المخيف يتزايد يوماً بعد يوم، والإشكالية أن الجهات الأمنية والمواطنين على الخطيئة في سباق (مرثوني) فكلما أحكمت الجهات الأمنية ضوابطها، خرق المتحايلون على النظام خرقاً يتسع على الراقع، حتى إذا بدا عواره تداركه واضع النظام. ومع تزايد العمالة، وتشعب إشكالياتها فإن المملكة تعد من أعلى دول العالم في نسبة المواليد، ومن أعلاها نسبة في فئة الشباب المحتاجين للعمل أو المقبلين عليه، وظاهرة البطالة بادية للعيان بنوعيها: البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة. ومما يؤزم البطالة انعدام عنصر المنافسة، فالوافد يجد نفسه ميسور الحال بأقل الأجور، فيما لايكفي ما يتقاضاه لسد قيمة المحروقات أو أجور المكالمات للشاب السعودي، وهذا الفارق يحفز صاحب العمل على التمسك بالعمالة بقوة النظام أو بالتحايل.
ومما يضاعف الإشكالية أن العمالة الوافدة يستدعيها من لا يحسن إدارتها، أو من لا يستطيع الوفاء بحقوقها، حتى إذا وقعت الواقعة بسبب الجهل أو العجز تسربت العمالة من بين أيدي الكفلاء بالتواطؤ أو بالحيلة، وحين لا تجد الكسب المشروع، التمسته في الكسب غير المشروع، فتكون السرقات والاختلاسات والسحر والشعوذة والتطيب الشعبي وصناعة الخمور والقمار والدعارة، ويكفي ما نواجه به من أخبار مفزعة عن تصاعد نسبة الهروب، وبخاصة عند فئة الخادمات، وما نسمع به من عثور عن طريق الرصد أو بالصدفة على أوكار الخطيئة المتعددة. وقد تضيق السبل بالعمالة، أو يقسوا الكفلاء على المكفولين، فيكون الغدر القاسي الذي قد يقع على الأطفال الأبرياء. وكل هذه الظواهر لو عرفها الناس لما فُزِّع عن قلوبهم، ولكن الجهات الأمنية تتكتم خوف الإزعاج، وما كان من مصلحة المواطن أن ترأف الدولة بمشاعره، حتى يقع في الكارثة من حيث لا يدري ، إن على أجهزة الأمن أن تكشف عن كل هنات العمالة، وأن تضع المواطن في الصورة، ليأخذ حذره، ويقلل من فرص الاحتيال على النظام ، وتسريب المكفولين للعمل غير المشروع.
وإذا كانت المملكة بسبب عمقها الجغرافي، وكثافتها السكانية، قد احتملت شيئاً من هذه السلبيات، واستوعبت الكثير منها، فإن بقية دول الخليج نالها من هذه التركيبة الغريبة ما لا يمكن احتماله، وهي مقبلة على مؤثرات لغوية وسلوكية، قد تطمس الهوية، وتقلب التركيبة السكانية رأساً على عقب.
وتلك الظواهر لم تكن وقفاً على الخليج فلقد مرت بها دول كثيرة واتخذت من الاحتياط ما خفف الآثار السيئة، وعلينا أن نستفيد من تجارب الآخرين ، نجد ذلك في أمريكا الشمالية والجنوبية قبل قرن من الزمن، حيث كانت مواطن جذب واغراء فيما كان المشرق العربي إذ ذاك موطن طرد، فكان أن نشأت ظاهرة (المهجرين العرب ) حيث كان لتكتلهم وتعلقهم بلغتهم وآدابهم نتائج إيجابية، بحيث نشأ ما عرف ب (الأدب المهجري)، وذلك على مستوى المهاجرين من الشام. أما في (نجد) التي يقول أهلها عنها: إنها تلد ولا تغذي، فقد عرفت ظاهرة (العقيلات) وهم رجال عصاميون من حواضر نجد، خرجوا للتجارة والعمل، وعاد من عاد بعد الاستقرار والرخاء ، وبقي منهم خلق كثير، وقد شكلوا فيما بعد تاريخاً استهوى طائفة من المؤرخين، وسيقت عن بعضهم حكايات بطولية، ووسع الشعر العامي طائفة من حكاياتهم، وانتهت ظواهر (المهجرين) و(العقيلات) لتحل محلها ظواهر أدهى وأمر، هي ظاهرة (هجرة الأدمغة) و(الكفاءات العلمية) لتوفر المناخات العلمية والتقدير المادي.
إضافة إلى ظاهرة اللاجئين الذين لم يحتملوا جور الحكام، ولم يطيقوا شظف العيش، لقد فاضت الملاجئ بالحزبيين والخارجين والمناوئين والهاربين، وكل ذلك ناتج قلق سياسي واضطرابات أمنية وضلوع في اللعب السياسية، وكل هذه الظواهر جعلت الكافة من الخليجيين يعولون على غير العرب في سد حاجتهم في الأيدي العاملة، الأمر الذي أخل في تركيبتهم السكانية، وأفسد عليهم لغتهم، وستظل العمالة مصدر إزعاج وبؤرة عادات سيئة وعاميات غير مستقرة وبطالة مؤثرة على القيم المادية والمعنوية، وواجب الخليجيين تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
والأمة أحوج ما تكون إلى (عوربة) العمالة بعد تسويات سهلة، فالأقربون أولى بالمعروف.
وأحوج ما تكون إلى الفصل بين العمالة والعلاقات السياسية ورياح التغيير.
وأحوج ما تكون إلى مراعاة الحاجة، بحيث لا تنظر إلى تخفيف حدة البطالة عند الآخر، والأجدى لها أن يكون بحث شؤون العمالة اقتصادياً صرفاً، يدار وفق الحاجة، من حيث الكم، ومن حيث النوع، ومن حيث نسبة العمالة إلى نسبة السكان، وعبر مؤسسات متخصصة بشؤون القوى البشرية، لا مؤسسات مهتمة بالأمور السياسية.
ونحن في المملكة أحوج ما نكون إلى تجميع شتيت المسؤولية، إذ أن وزارة الداخلية، ووزارة العمل، ووزارة الخدمة المدنية، تقتسم المسؤولية، وقد لا تتبادل الخبرات والمعلومات، وحين توحد جهة الاختصاص، وتسلخ الإدارات من تلك الجهات لتجتمع في دائرة واحدة، تكون الأقدر على التقدير والتقويم والتدبير والتطوير والرصد الدقيق.كما أننا أحوج ما نكون إلى حماية السواعد الشابة التي زوحمت في عقر دارها، ومورس معها الإغراق بأرخص الأسعار، وتتم الحماية بمضاعفة الضرائب مع استثناء المؤسسات الإنتاجية كالزراعة، وبتمويل مراكز التدريب من تلك الضرائب التصاعدية، والإغراء على التدريب، وذلك بصرف مكافآت مغرية للمتدربين على المهن التي تتطلب مهارات، وتمكين المتدربين بعد استكمال تعلمهم من فرص العمل، وذلك بمنح قروض ميسرة، بدعم من البنوك، وفي سبيل تحسين الأوضاع لابد من تجميع الوحدات الصغيرة من الورش بمجمعات مشتركة تستفيد من التأمين والخدمات الصحية والقروض وغيرها. أما عن العمالة المنزلية فيحسن إنشاء شركات نقل لخدمة الأسر التي تحتاج إلى خدمات النقل، وتحويل كفالة الخادمات إلى شركات بدل كفالة العوائل، على أن يكون عملهن باليوم أو بالشهر أو بالسنة، وفق ساعات العمل المطلوبة بحيث يسهل الاستبدال عند سوء الفهم، وفوق كل ذلك لابد من متابعة وإحصاء ودراسة وتقويم مستمر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|