مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:34 AM   #250
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الفكر والبيئة بين النقاء والتلوث 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل


أذكر أنني قرأت أمشاجاً من كتاب «التلوث مشكلة العصر»، وتجرعت مع غيري مرارات التلوث، في أعقاب تفجير حقول النفط الكويتي، وفي زمن الطفرة الزراعية. وكتبت عن خطورة ذلك، وضل عني الكتاب والمقال، ولما تزل تجتال المشاهد أنواع أخرى، تلوثت منها الآفاق، والتاثت فيها الألسن، وارتابت معها الأفكار. وإذا كانت الأوبئة تنسل من المستنقعات وعوادم المعدات، فإن الفتن العمياء توقظها لوثة الأفكار وعنت السياسة. ومتى فسد الفكر، وتلوثت البيئة، شقي الناس، ومع كل أنواع التلوث، يظل حقلان هما الأخطر: تلوث البيئة، وتلوث الفكر. ولقد استذكرت النوعين ساعة كنت في مطار الملك خالد الدولي في طريقي الى القاهرة، لحضورمؤتمر «العولمة وحوار الحضارات» المنفذ «بجامعة عين شمس» في مستهل شهر صفر 1423هـ، إذ لقيت في أبهائه لفيفاً من المتخصصين السعوديين بصحة البيئة، وهم في طريقهم الى القاهرة لحضور مؤتمر آخر، يتعلق بتلوث البيئة، فيما كنت مع أربعة من المفكرين والاجتماعيين والأدباء والاعلاميين نحزم أمتعتنا لحضور مؤتمر يتعلق بتلوث الفكر. وكانت بعض المؤسسات في المملكة قد تبنت من قبل مثل هذه الندوات «فمكتبة الملك عبدالعزيز» و«رابطة العالم الاسلامي» قد فرغتا للتو من تنفيذ ندوات مماثلة، وقلت في نفسي: إن وراء هذا الاحساس أكثر من تساؤل، فتعاقب المهرجانات والمؤتمرات والندوات، وتتابع الكتب، مؤشر اهتمام وخوف، يسبق المخاضات التي لها ما بعدها، وفوق ذلك فقد تحرفت دول عربية واسلامية لانشاء مراكز لدراسة الحضارات المعاصرة، إذ أنشىء مركز في «طهران» وآخر في «جامعة عين شمس»، وعلمت ان مؤسسات علمية في المملكة بصدد انشاء مركز مماثل، تتعقب من خلاله كل المؤتمرات والندوات والكتب والمحاضرات التي تجعل من «العولمة» أو «حوار الحضارات» أو «النظام العالمي الجديد» مجالا لفعلها، وفي ذلك خير كثير. وقادة الفكر عندنا خير معوان لحماية البلاد من دخن الأفكار المنحرفة، ولا خوف من فلول الحداثة وذيول الماركسية وسدنة التغريب، وسائر التبعيين الذين يحلو لهم وضع العصي في العجلات وتعكير صفو الوحدة الفكرية التي تنعم فيها البلاد، ويحس بدفئها العباد، ومع ما هم عليه من شغب مفتعل فإن عودتهم مأمولة، فهم أبناء فطرة لا يبعدون النجعة.
لقد كان هذا التحرك الاستثنائي المثير عبر كل المشاهد العربية سببا مباشرا في استدعاء تلك القضية الأهم، وهي «تلوث الفكر» وأهمية حمايته، و«تلوث البيئة» وأهمية تنقيتها، ولاسيما في زمن الانفتاح والصناعة. الانفتاح المعرفي والاعلامي والمعلوماتي، والتسابق القنواتي، والمتاجرة بالامكانيات. وليس «التلوث البيئي» بأحسن حال من «التلوث الفكري»، والحديث عنهما مطلب رئيس في ظل التحولات الصناعية والزراعية والكثافة السكانية في عواصم الجذب، واستشراء قنوات الفضاء، وتسابقها في الجذب والاغراء والتغرير، وسهولة الدخول على المواقع عبر الشبكات العنكبوتية، وامكانية الوقوف على كل ما انتجه الفكر الفلسفي المادي.
والخبراء الغربيون ورجال الأعمال منهم، ممن يمرون بالمنشآت الزراعية في المملكة زمن الطفرة لتقوية العلاقات مع الشركات الزراعية والأفراد، يفزعهم الاستعمال غير المرشد لسائر المركبات الكيماوية، سواء منها ما يتعلق بالتقوية أو بالمكافحة، فلقد ملئت المحلات بالمبيدات والكيماويات المركزة التركيب، وتهافت المزارعون عليها، بدون وعي لأضرارها، وبدون معرفة لاستعمالها، ولقد كنا نحس بظاهرة التلوث، حين تنطلق بنا السيارات باتجاه الشمال، إذ نشم روائح ملوثة، تزكم الأنوف، وتسيل الدموع. وأصحاب المشاريع الحيوية يمنون بأوبئة، تجتاح مشاريعهم، ثم لا تبقي، ولا تذر، وبخاصة مشاريع الدواجن. فأين منها حفظة التوازن، وجهات الاختصاص، الذين يحمون الأجواء والتربة من فساد كبير؟ وأين منا المرشدون الذين يعلِّمون المزارع، ويوعّونه، ويحذّرونه؟ لقد خلت الأجواء للاعلان التجاري، وضل عن الجميع ما هم بحاجة اليه.
ومشكلة التلوث البيئي من أكبر المشاكل التي يواجهها العصر، ومن أكثرها خطراً على مستقبل الحياة في الأرض، ولعلنا على علم بالمؤتمرات المتلاحقة حول «الثقب» الذي أحدثته نفايات الأرض في طبقة الأوزون، وما يمكن ان يتركه من آثار سيئة، تطال كل جوانب الحياة، وإذ لا أكون مع المبالغين في التهويل والهلع، أجد في الأمر شيئا، لا يصل حد التهويل الذي نسمع به. وعلينا ان نفرق بين «التخويف» و«التحذير» و«المكائد»، فالتسليم لكل ناعق مضيعة للمثمنات، وتعطيل للامكانيات. وسائر المشاهد لا تخلو من لاعبين أذكياء يخوفون أولياءهم، ويصدونهم عن الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي، وعلينا ان نعيد النظر في كل ما يطرحه الغرب، فلربما يكون طرحه من باب المكيدة الحاذقة، وبخاصة ما نسمعه عن «حرب المياه»، وتعمده ارباك المشاريع الزراعية، حتى لقد خوت المزارع على عروشها، ونجمت مشكلة تصدير فائض المعدات الزراعية، وبيعها بثمن بخس، واجهاض تجربة مثيرة، وفقنا بها على مشارف الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي.
ومشكلة التلوث فتحت شهية عصر القطب الواحد وغطرسة القوة وحمى الأمركة وصبغة الغرب، ومن لم يستجب سيم سوء العذاب، حتى لقد فرضت ضريبة تعسفية على دول النفط لمكافحة التلوث، فيما لم تفكر الدول الصناعية في التعويل على دراسات متخصصة لتطوير أجهزة العوادم. و«النفطويون» لا يملكون أكثر من ترويج البترول الخام، وعلى الذين يتولون التكرير التحرف لمزيد من التقنية. وحسم التلوث لا يتم إلا بالتعاون الصادق بين الأطراف، لتكون «التقنية» و«التنقية» صنوان، وكم نتمنى لوان دول العالم كافة استدبروا المكائد والابتزاز، وفكروا جيدا في عمل مشترك للتخفيف من حدة التلوث الذي خلف أوبئة وأمراضاً مستعصية.
ومع الاشفاق الكاذب، ودموع التماسيح، اكتشف العالم فضيحة الدول الغنية التي تستأجر شواطىء الدول الفقيرة المتخلفة، لطمر النفايات النووية. والدول التي تلوح بورقة الدفاع عن حقوق الانسان والمرأة والاسكان، لتخيف الناشزين عن عصمتها والمتلملمين تحت وطأتها، هي الساعية مع سبق الاصرار لحرمان هذا الانسان من أبسط حقوقه، وهي الصانعة للارهاب والمصدرة للتلوث، وهذا التناقض الصارخ، لا يمكن تبريره على أي شكل من الأشكال، والتقدم الصناعي الذي حقق مزيدا من الرفاهية للانسان، ومكنه من التواصل، يعد من أكبر أسباب التلوث الطبيعي، فالمصانع والمعدات ووسائل النقل البري والبحري والجوي تنفث غازات ضارة، تلوث البر والبحر والجو، اضافة الى مخلفات المصانع وسائر الكيماويات الزراعية وأدوية المكافحة. والتلوث حين يمتد الى البحار، يميت أحياءها، ويلوث ماءها وشواطئها، وأهمية البحار الاقليمية زادت بعد مشاريع التحلية والسياحة.
والدول التي لم تستكمل البنية التحتية، وبخاصة ما يتعلق بالصرف الصحي، تتعرض لأضرار مادية وصحية، وتدمير لما نفذ من بنية تحتية، لأن طفح المياه في المنخفضات وفيض المياه من البيارات وتسرب المياه من الشبكات الضعيفة يقضي على سائر التمديدات والخطوط والطرق، مع ما يتركه من تلوث بيئي ونزف للثروة الماية، وقد شوهدت آثار ذلك في بعض مناطق المملكة، وبدأت التحركات الجادة لمواجهة الأضرار في وقت مبكر، ولكننا لم نستكمل ذلك، لا على مستوى تصريف المياه المستعملة، ولا على مستوى مياه الأمطار، ولم نستكمل مشاريع المعالجة الصحية، وتدفق مياه المجاري في المنخفضات تصرف بدائي، واستخدامه زراعيا دون تنقية مضر بصحة الانسان والحيوان، والتلوث مؤذن باختلال التوازن بين عناصر البيئة المختلفة.
والتوازن بين عناصر البيئة أصبح يشكل قضية جديدة، لم يلتفت اليها العالم، إلا بعد استفحال التلوث، وتعدد مصادره ومجالاته، كتلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون، وتلوثه بالشوائب، وتلوث الماء، والتلوث النووي، المتمثل بالتجارب النووية أو بالتوسع في استعمال محطات الطاقة النووية وتسربها، وبالنفايات النووية، وما يترتب على الاستخدام النووي السلمي من حوادث ونفايات وتلوث حراري. ومن عجائب العصر ما عرف بالأمطار الحمضية، وأثرها على النبات والانسان والحيوان. وتلوث آخر منشؤه الكثافة السكانية. والذين يعيشون في الحواضر المكتظة بالسكان، ويقيمون في العمائر الشاهقة، يعانون من أمراض «الربو» و«الحساسية» و« الأمراض الجلدية»، ومع ما يعانيه سكان العواصم والمدن الصناعية فإن الانفاق على مكافحة التلوث لا يكاد يذكر، وفوق ذلك نجد عدم الالتزام بالاتفاقات العالمية لمكافحة التلوث، كما ان أساليب التوعية بدائية وثانوية، وليس هناك مؤسسات مستقلة للرصد والدراسة والتوعية والمكافحة. ومن ظواهر التلوث عرفت الهجرة واللجوء، إذ هناك اثنان وعشرون مليون لاجىء بسبب التلوث. ومع ان العواصم العربية تعرضت لاشكاليات الكثافة السكانية بسبب تكديس المنشآت والمصانع ومجالات العمل والدراسة المغرية على الهجرة، فإننا لم نستفد من ذلك، ومدينة «الرياض» مقبلة على كثافة سكانية مهيأة لتلوث بيئي، وكان بالامكان تلافي ذلك، لو اتعظنا بغيرنا، ولم نجعل «الرياض» مثابة لكل شيء.
ومع ضعف المقاومة والتوعية تتعدد مصادر التلوث وأسبابه، ولم تعد الصناعة وحدها مصدرا من مصادره، فهناك النفايات التقليدية والنووية، والحروب الجرثومية، ومياه الصرف الصحي، والمستنقعات، والطفح، والسيول، والأوبئة، والضوضاء، والكثافة السكانية، والأخطر من كل ذلك معامل وزارات الدفاع الغربية الساعية لتطوير أسلحة الدمار الجرثومية، حتى لقد اتهمت البنتاجون بتسرب فيروس «الايدز»، والعالم الثالث لم يتخلص بعد من مصادر التلوث التقليدي كالمستنقعات. والبلاد مرت بحالات من عقابيل التلوث التقليدي، ظهرت في «جازان» وفي «سواحل الخليج» وبخاصة بعد الحربين الخليجيتين، وفي مدن الجذب ك«الرياض» و«جدة». ومكافحة التلوث لا تتم إلا بتضافر الجهود واخلاص النوايا، وأحسب ان العالم بعد لم يخلص النية، ولم يصدق عزمه على تجنيب كوكبنا الأرضي من نكبة مدمرة، بسبب التلوث الناتج عن الاهمال أو التعمد. وإذا كنا نؤازر العالم في الحد من التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل فإن عليه تعميم المتابعة والعدل بين الظماء، وذلك بالحد من التسلح عند الجميع، أما ان تمارس الضغوط والعقوبات الذكية والغبية على طائفة دون أخرى، فذلك الظلم الذي لا يطاق، والجور الذي لا يحتمل، والظلم هو الحاضن المخصب للعنف والارهاب، وإذ لا نجد بداً من القبول بالحد من التسلح، نود ان يمتد الى العصابات الصهيونية، التي تعيث في الأرض فساداً، وتتلقى الدعم السخي من حماة العدل والحقوق والديمقراطية، وعلى عالمنا الموصوف بالتخلف والانفجار السكاني والفقر ان يكل أمر مكافحة التلوث لمؤسسات قوية، تستشرف المستقبل، وتخطط له، وتواجه الواقع المرير، وتحسن اشكالياته.
إن العالم النامي والنائم يتعرض لحملة بشعة تضعه تحت طائلة الأوبئة والتضليل، فلا هو قادر على الرؤية السليمة بسبب التضليل، ولا هو قادر على ايقاف التدهور البيئي بسبب الاستغلال البشع، وسيبقى ضحية التضليل والاستغلال حتى يأذن الله بيقظة قادته ووعي نخبه واستجابة كافته وعدل الأقوياء في الأرض.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل