مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 04-12-2006, 12:35 AM   #251
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الفكر والبيئة.. النقاء والتلوث 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومع الخوف والهلع اللذين يصيبان الانسان من تلوث البيئة، يقوم الى جانبه تلوث آخر، لايقل عنه خطورة، ذلكم هو «تلوث الفكر» وهذا النوع من التلوث يستشري بين العلماء والمفكرين والأدباء ممتداً الى الكافة، بحيث يؤدي الى خلل في وحدة الفكر ووحدة الصف، ومن خلل الوحدتين تنسل الفتن، والأعداء لا يخوضون الحرب المسلحة حتى يوهنوا الخصم بإشاعة الخلاف والفرقة، وتحويل الأمة الى شيع وقبائل، يضرب بعضها رقاب بعض.
وما دون ذلك من التلوث يتمثل في الخلاف حول المرجعيات والمفاهيم، والخلط بين الوسائل والغايات، والمتناكفون حولها لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، ولا بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وما طريقة التفقه، ولا بين ماهو مجال للاجتهاد وما لا يحتمل الا التسليم، وليس من شك ان مثل هذه الظواهر ناتج عن تلوث فكري، لم يحل بالأمة دفعة واحدة، وإنما تسرب عبر الثنيات المهملة كالخدر، على حين غفلة من حراس الثغور، او اشتغال بما دون المهم ويستفحل دخن التلوث حين يؤدي الاختلاف الى العداوة والبغضاء والتنابز بالألقاب، إذ ليس من التلوث الاختلاف ابتداء، وليس منه الجدل في سبيل تحرير المسائل وإحقاق الحق، وليس منه البحث الجاد عن الصواب، وما أجمل مقولة الشافعي: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» ولقد قال زكي مبارك لخصمه اللدود طه حسين «الويل لنا إن لم نختلف» والاختلاف المقبول هو ذلك الاختلاف حول «النص وصحته» «النص ودلالته» و«الدلالة ومقاصد الشريعة» و«تعدد الدلالات وفق الواقع»، أما الاختلاف حول شرعنة الباطل، وتأهيل المنكر، فاختلاف مذموم، ولقد عشت الاختلاف في كل لقاء أحضره، وفي ثنايا كل كتاب أقرؤه، وعبر كل حديث أسمعه، ولما يكن بعضه من الاختلاف المعتبر المتوقع الذي يتعاذر فيه المختلفون.
واستفحال التنازع في المؤتمرات التي أريد منها تقريب وجهات النظر، وتنقية المشاهد من شوائب التلوث الفكري ظاهرة مألوفة، لقد رأيت وسمعت في مؤتمر «العولمة وحوار الحضارات» في القاهرة، وفي ندوة «مشروع النهضة العربية..» في دمشق اللذين حضرتهما مشاركاً مؤشرات التلوث الفكري، فبعض المشاركين لاتحكمهم مرجعية يرضون بالرد إليها، ولا تستوعبهم أيديولوجية يركنون إليها، فكل واحد تعدو عينه الى مرجعية مغايرة، وإلى أيديولوجية مناقضة، فهناك قومي مغرق في القومية، وعلماني متطرف في العلمانية، وإسلامي كما الأعراب الذين قالوا: آمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وإسلامي موغل في الإسلام بدون رفق، ولعل من بين ما سمعت اختلافا مخيفا في وجهات النظر، وآراء متضاربة، لا توحدها مرجعية، ولا يشغلها هم مشترك.
والذين جاؤوا من آفاق العالم العربي للحديث عما يجب اتخاذه من احتياطات، عمقوا الخلاف فيما بينهم، ولما يكن اختلافهم حول مفهوم الظاهرة، وإنما امتد الى المرجعية، وفوق ذلك فقد القى بعض المؤتمرين ملخصات بحوثهم ب«اللغة الانجليزية»، في حين ان المستمعين لا يجيدون إلا العربية، وفي ذلك تهافت مخل بالأهلية على لغة حضارة مغايرة، من أهم أهدافها عولمة العالم: لغة وحضارة، واللغة وعاء الفكر، وعنوان الحضارة، والتخلي عنها في لحظات البحث في مشروعيتها مؤذن بفساد كبير.
وكل الذين يدافعون عن الفكر الأصيل، ويؤكدون على الخصوصية العربية، وما لها من موروث عريق، يحاولون صد هذا الطوفان، ومع ما لهؤلاء من دور فعال فإن الخطورة تكمن في طوائف تقمصت هم الاستشراق.. والاستشراق قضية عويصة في ذاتها، فضلاً عن مقاصدها.
وتلوث الفكر المتعمد والمبيت والقصدي لايقل خطورة عن تلوث البيئة الاضطراري واللاقصدي، فهذا يفسد المادة، وذلك يفسد الروح، والحياة الدنيا طريق للحياة الأبدية، وتلوث الفكر نتيجة تفكير ومكيدة مدبرة يؤزه حقد دفين، والمتماكرون أذكياء، ومتفانون في خدمة مصالحهم العاجلة، ولكل تنظيم وسائله وسبله المتعددة، ولا يمكن تحديد مصادره، ثم هو باقٍ ما بقيت تشكلاته.
ولكيلا نديم الإحالة على المكروالتآمر، ولكيلا نمعن في جلد الذات وعمليات الإسقاط نجد ان طائفة من المفكرين تحيد بهم أفكارهم وتصوراتهم ابتداء عن جادة الصواب، ويبلغ بهم الإعجاب بالرأي حداً يفوق عبادة الهوى، والإسلام ذم من اتخذ إلاهه هواه، ومرد ذلك سوء الفهم، او التعويل المطلق على العقل، واستدبار النص، وما نسلت النحل والملل إلا من لعبة «النص والعقل» أيهما الحاكم والمحكوم، وما حدود كل منهما، ولسنا بصدد تحرير الموقف من «النص والعقل» فذلك له مجاله الذي نود تقصيه في موقف آخر، وعلينا أن نتلمس مصادر تلوث الفكر المتعددة والمتنوعة، ولا شك أن «الكلمة» حجر الزاوية في النقاء والتلوث، والفائزون من يهدون إلى الطيب من القول.
والكلمة هي الوسيلة الأهم، لأنها تسهل في تشكل الفكر وصياغة الذهن، وحين تصاغ الذهنية العامة على عين الجهلة وأنصاف المتعلمين والحاقدين الماكرين يصعب تصحيح ما فسد، وقنوات التواصل تعددت وتنوعت، ومن أخطرها القنوات الفضائية، والشبكة العنكبوتية، ومراكز المعلومات، وفيوض المطبوعات، وسرعة الاتصالات، وسهولتها، والخلطة المستحكمة، ورقة الدين، و«الرأي العام» أصبح فريسة للإعلام الموجه وللمتفلتين من جماعة المسلمين، وحين يتشكل وعي «الرأي العام» على عين الأعداء يصعب اختراقه واستمالته وإقناعه في سبيل تشكيل جبهة داخلية متماسكة، تحمي الساقة، وتمكن القيادات الفكرية من النظر إلى الأمام.
والأمة الإسلامية واجهت حروباً شرسة من أخطرها «حرب الكلمة»، فالمبشرون والمستشرقون والمستغربون والمتعالمون المتصدرون للفتوى المتزاحمون على القيادات المعرفية كل أولئك يمارسون مكيدتهم أو جهلهم أو تعالمهم تحت نوايا ورغبات مختلفة، ولكن النتيجة واحدة، والإعلام المتوغل ناقل سريع لهذه الأدواء، ولم يكن الإعلام وحده في المعركة، فالأدب المؤدلج جنح الى الالتزام الفكري، والممعنون في الأدلجة غير مؤصلين، والروائيون الماجنون المنحرفون المتمردون على شرط الفن وضوابط اللغة وأطُر الاخلاق، يفسدون الذوق واللسان والسلوك، والنقاد الصامتون أو المؤازرون يواطئون على الرذيلة باسم حرية الفن، والجميع لا يعرفون حدود ما أنزل الله ومن ثم يلوثون الفكر ويدمرون الأخلاقيات، وما فتئ أعداء الإسلام يتحرفون للوقيعة، ويمارسون مختلف الأعمال لتزييف الوعي، وتشكيل الذهن الإسلامي على مرادهم، ليكون منفلتاً، يشرعن لكل شيء، ويلتمس العذر لكل منحرف، أو يكون متشدداً يحرم كل شيء، ويكفر كل مخالف، وهذا التلويث المتعمد، زرع الشقاق، وأشاع الخلاف، وعدد الولاءات والانتماءات، وأذهب ريح الأمة، وجعل أهلها شيعاً تتناحر حول القضايا المصيرية، مثلما تتجادل حول أتفه الأمور، ولتلويث الفكر مجالاته المتعددة، ويأتي في مقدمتها التعصب للرأي والإعجاب به، والانتصار للذات، والتأكيد على المذهبية والحزبية، وخلق مناخات للصراع، وتكريس الرغبة في التشرذم والتجزيئية، وتصنيم الحدود الإقليمية، وتقديس العادات والتقاليد، وتأصيلها، والتأكيد على أهمية المحافظة عليها، واعتبارها جزءاً من حياة الأمة، وإثارة الشكوك حول الرموز الدينية، والدخول في مأزق المفاضلة في الأفعال الإجرائية لا في الأهداف والمقاصد، وطرح عدد من المصطلحات الغربية بمفاهيمها ومقتضياتها، أو بمفاهيم مستحدثة، بدعوى إفراغها من محتوياتها، والخلط بين مفهوم التجديد والحداثة الفكرية، والالتفاف الغبي على المفاهيم، وتسجيل مواقف الارتياب على حساب الفكر الاسلامي المستنير، واجترار الاخطاء الاجرائية بوصفها أخطاء مبادئ، وليست اخطاء منتمين للمبادئ، وإثارة الجدل حول ظواهر وقضايا بينة العوار ك«العلمانية» او «الحداثة» او «العولمة» او «الحاكمية» وغيرها، ومحاولة زرع الخلاف حولها بتعدد مقتضياتها، فالعلمانية مثلاً تطرح على أنها «عزل الدين عن الدولة» أو «عزل الحياة عن الدين» وقد يقال إنها «الدولة المدنية» في إزاء «الدولة الدينية» وضرب المثل مع الفارق، فالغرب متقدم بالعلمنة في إزاء دين محرف، والشرق متخلف في إزاء دين غير محكَّم، وهكذا يختلف الناس حول دينهم، ثم يختلفون حول مجلوبهم، وإذا اختلفوا حول الثوابت فسدت الحياة الدنيا، وهذا الجانب من أخطر جوانب التلوث، وتأتي قضايا كثيرة يختلف الناس حولها، ولا يردون خلافهم إلى مرجعية متفق عليها، تفض النزاع، وتحق الحق، والمشاهد الفكرية تعج بعشرات القضايا «كالمرأة» و«الحرية» و«الاقتصاد» و«المناهج» وسائر الأنظمة، وما من أحد يرد إلى الله والرسول.
وإذا كانت الدول المتحضرة تخسر المليارات في سبيل حماية البيئة من التلوث الحسي فإن واجب الدول الإسلامية التأكيد على أهمية الفكر وحمايته من التلوث العقدي، وأهمية المجتمع وحمايته من الفساد الأخلاقي، وأهمية ذلك مرتبطة بما يترتب عليه من نتائج، لقد كان الخلاف سابقاً بين فئات من الناس لا تملك التغيير، أو قل خلافات العلماء والنخب داخل دوائرهم العلمية البعيدة عن الرأي العام، أما الآن فإن الخلاف يمتد إلى مؤسسات لها سلطة التغيير، وإلى شرائح من المجتمع لا تعي ما يقال، ولا تعي خطورة ما يقال، وهي قادرة على سماع ما يقال، والأخذ به دون فهم دقيق، ودون قدرة على استبانة المرجعية، وهذا الخلاف في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر قد يدفع الى مواجهة مخلة بالأمن، واختلال الوحدة الفكرية لا يقل خطورة عن خلل الوحدة الإقليمية، والتناوش الفكري والطائفي من أخطر القضايا، وأي دولة لا تضمن صفاء جبهتها الداخلية، لا تستطيع الفعل الإيجابي.
إن على الدول الإسلامية أن تحسب للتلوث الفكري حسابه، وألا تحيل الصراعات القائمة على أشدها إلى حرية الرأي وحرية التعبير، دون ضوابط، ودون فهم لمقتضيات الحرية لأن مردود هذا الخلل لا يقف عند حد الانحراف الشخصي، بل يتعداه إلى إحداث فوضى فكرية تمزق وحدة الأمة وتلاحمها، وتزرع بذور البغضاء، وتتيح فرصة للمفسدين ليندسوا بين المختلفين الناصحين المتعاذرين، وينفثوا سمومهم، والذين يعولون في لغطهم على «الحرية» ثم لا يفهمونها يبلغون حدَّ الفوضوية، والحرية هي النظام والانضباط، وتفويض حمايتها الى سلطة قوية تقمع الظلوم الجهول، وتأطر السغية، ومن أخطر حالات التلوث الفكري أن نفهم الأشياء على غير وجهها الشرعي، وإشكالية الاختلاف في المفاهيم مصدر مزعج من مصادر التلوث الفكري، وقد يعتمد المستفيدون من خلاف الأطراف الإيغال في مسائل الخلاف وتضخيمها، والخلط بين الوسائل والغايات، وتشجيع تعدد المرجعيات، وضرب المؤسسات الدينية، والتشكيك في علماء الأمة، والنيل الصريح من كفاءتهم وأمانتهم واستمرار النيل منهم، وليس ببعيد ان يكون تلوث الفكر نتيجة مكيدة حاذقة على خلاف تلوث البيئة، وقد يكون لرموز الفكر يد في ذلك، وأساطين الفكر الحديث لهم مشاريعهم الفكرية المخالفة لمقتضيات الإسلام، ومذاهبهم لاتندرج تحت مفهوم الخلاف المعتبر، ولا يشرعن لها حق الاجتهاد، إذ هي مذاهب غربية، ليست من الحضارة العربية والإسلامية في شيء، وتلوث الفكر يتلون كالحرباء، وتتعدد مواقعه، والمتابعون ببصر وبصيرة، يدركون مواطن الريبة، ويعرفون مرضى القلوب من لحن القول.
والسعيد من وظف قلمه ولسانه لخدمة العقيدة الناصعة والمحجة البيضاء، ولزم الجماعة حتى وإن بدا له ان القاصية من الغنم على الأفضل، وهو على الفاضل.
والأمة التي تعيش تحت مظلة وحدةٍ فكرية متناغمة، تسمو بنفسها فوق النزهات والنزاعات، ومتى اختلت الوحدة الفكرية في الأمة، دب الخلاف، واستفحل الشقاق، وتمزقت الأمة، ومن أوجب الواجبات على قادة الفكر في أي مجتمع أن يجنبوا «الرأي العام» مثل هذا الاختلاف في وحدة الفكر، وأن يحاولوا التسامي فوق الخلافات الجزئية لدرء الفتن «والفتنة أشد من القتل»، وقادة الفكر ليسوا بأقل خطراً من قادة الجيش، ولهذا فإن اختلافهم مؤذن بفساد كبير، والمؤسف أن العامة تستعذب الاختلاف، وتدفع إليه، وتعلي من شأن المتنازعين، وتتهافت على المثيرين، وعشاق الأضواء كالممثلين يتلمسون الرغبات ولا ينشدون الحق.
ومن أخطر ظواهر التلوث ان تختلط الأمور بحيث لانفرق بين الاختلاف المشروع والخلاف المحظور، إن هناك من يطالب بالفوضوية باسم حرية الرأي وحرية التعبير، بحيث لا تكون حدود ولا قيود، ولا أطر على الحق، وكل من حرَّم فهو عندهم ضد الحرية، وكل من أباح فهو العالم النحرير، ولهذا ارتفعت أسهم التمشيخ القنواتي، وفات البعض ان الدين مجموعة من الأوامر والنواهي والعزائم، وأن الصبر على الأقدار كالصبر عن الشهوات المحرمة، والصبر على الأوامر العازمة، لقد عايشنا خطابات لا ترى الحظر ولا الأمر، فكل ما حلَّ باليد حلال، وكل فعل ممكن مباح، وتلك حياة بهيمية، لا يستقيم أمر الأمة معها.
ومن ظواهر التلوث تقحم البعض منابر الخطابة، ومجالات الافتاء، ومواقع «الإنترنت»، والسعي الدؤوب في سبيل البحث عن آراء شاذة أو مخالفة للسائد، والقول بها، بدعوى «نحن رجال وهم رجال»، ولم يفكر أولئك أن من مقاصد الإسلام لزوم الجماعة، وإن كانت مع المفضول، ذلك أن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، ومن الخير الأخذ بالمفضول، حفاظاً على وحدة الكلمة، وتجنيباً للأمة عن مزالق الهوى والأثرة، وإن كان ثمة صيرورة إلى الأفضل فليكن عن طريق مؤسسات علمية ومجمعات فقهية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل