[align=justify]نتابع المشوار كما سماه الغالي الصمصام وأشكره على تشجيعه :
افعــل ولا حـــــرج
من مقاصد الحج العظيمة أن يتربى الناس على ترك الترفه والتوسع في المباحات ولذا يتخفف الحاج من ثيابه ، إلا ثياب النسك . وهو تذكير بالفقر المطلق للعبد ، وخروجه من الدنيا كما دخلها أول مرة ، بما يدعوا إلى الإستعداد للقاء الله .
ومن هذا الباب ـ والله أعلم ـ جاء النهي عن التطيب ، والأمر بترك الأظفار والشعر ، وتجنب الوصال الجسدي مع المرأة بالجماع ، وترك دواعيه وأسبابه من عقد النكاح فما بعده ..
ومع هذا جعل الله في الحج سعة لا توجد في غيره من العبادات ، ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله عليه الصلاة والسلام وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه ، فجاءه رجل فقال : لم أشعر ، فحلقت قبل أن أذبح ؟ فقال : " اذبح ولا حـرج " فجاء آخر فقال : لم أشعر ، فنحرت قبل أن أرمي ؟ فقال : " ارم ولا حـرج " فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدّم ولا أُخر إلا قال : " افعل ولا حـرج " .
وهكذا يحسن أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه ، أو في جنس ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم " افعل ولا حـرج " .
وحتى محظورات الحج فيها توسعة ، فحلق الرأس محظور بالكتاب والسنة والإجماع ، وإذا احتاج إليه حلق وفدى ؛ كما في قصة كعب بن عجرة رضي الله عنه .
وثمت أمور يتورع عنها بعض الناس ، وقد يذكرها من الفقهاء من يذكرها بدون دليل ، فالأصل التوسعة على الناس فيها . ومن ذلك : التورع عن الإتسال حال الإحرام :
وقد قال أحد الصحابة : " إني اغتسلت في إحرامي في يوم واحد سبع مرات " .
ومثل ذلك : شم الريحان ، والتختم ، ولبس الهميان ، والتداوي ، ودخول الحمام : قال البخاري في صحيحه : " قال ابن عباس رضي الله عنهما : يشم المحرم الريحان ، وينظر في المرآة ، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن " .وقال أيضاً : " المحرم يشم الريحان ويدخل الحمام " .
والحمام هنا : ليس هو مكان قضاء الحاجة ، بل هو المكان الحار الذي يزيل الوسخ عن البدن بواسطة الحرارة ، كما يعرف اليوم بـ ( الساونا والجاكوزا ) وغيرها .
فالنظافة والجمال وطيب البدن مطالب فاضلة للحاج وغيره ، إلا ما ورد النص بالنهي عنه .
ومن التيسير جواز الأنساك الثلاثة : التمتع والإفراد والقران وهذا إجماع أو شبهه عند أهل العلم .
والمقصود أن في الأمر سعة وعلى المفتي أن يراعي أحوال الحجاج وأن يجعل شعاره كما سبق " افعل ولا حرج " طالما أن في الأمر سعة ورخصة ، كما أن على المفتي أن يدرك اختلاف الناس وتنوع مذاهبهم ، وحملهم على قول واحد متعسر بل متعذر ، وسعة الشريعة لا تحكم بضيق هذا المذهب أو ذاك في بعض الفروع والمسائل .
التيسـيـر في أركــان الحــج
اتفق العلماء على أن للحج ركنين هما : الوقوف بعرفة ، والطواف ، واختلفوا في غيرهما :
1ـ الوقوف بعرفة :
وهو ركن بالإجماع وهذا الركن يحصل أداؤه بلحظة ، ولو دفع قبل الغروب أجزأه عند الأئمة ، خلافاً لمالك ، والدليل حديث عروة بن مضرّس الطائي رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله بالموقف ـ يعني بجمع ـ قلت : جئت يا رسول الله من جبل طيئ ، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ، فقد تم حجه وقضى تفثه "
فهذا دليل على أن الحاج لو دفع قبل الغروب فلا شيء عليه .
2ـ طواف الإفاضة :
والركن الثاني هو طواف الإفاضة ، ويسمى طواف الحج والزيارة ، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة . ويبدأ وقته بعد نصف الليل ( ليلة المزدلفة ) باعتبار المعذورين للدفع منها من الضعفة والنساء ومن في حكمهم أو معهم ، وهل يبدأ بعد الفجر أو بعد نصف الليل ؟ قولان للعلماء والأمر فيها واسع لعدم توفر نص في هذه الجزئية ، ويمكن تأخير الطواف ليكون هو وطواف الوداع شيئاً واحداً ؛ ليخفف المشقة عليهم ، والزحام على إخوانه ، ويسقط طواف الوداع عن الحائض ، وهي رخصة ثابتة في السنة .
وهل تشترط الطهارة للطواف ؟
الجمهور يوجبونها من الحدث الأصغر والأكبر ، وأجاز أبو حنيفة الطواف على غير طهارة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختار ابن تيمية وابن القيم عدم شرطية الطهارة ، وهو ما كان يفتي به الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
وهذا يخفف على الناس في الزحام ، وصعوبة الوصول إلى أماكن الوضوء .
التيسـيـر في الرمـي
ومن التيسير ما يتعلق برمي الجمار ، وهو واجب عند الجمهور .
1ـ التيسير في موضع الرمي :
موضع الرمي : هو مجتمع الحصى الذي تتكون فيه الجمار ، سواء الحوض أو ما يحيط به مما تكون فيه الأحجار ، والحوض لم يكن في عهد النبوة ولا الخلفاء الراشدين .
وهنا يقول الإمام السرخسي الحنفي : " فإن رماها من بعيد ، فلم تقع الحصاة عند الجمرة ، فإن وقعت قريباً منها أجزأه ؛ لأن هذا القدر مما لا يتأتى التحرز عنه ، خصوصاً عند كثرة الزحام ، وإن وقعت بعيداً منها لم يجزه "
وهذا كلام نفيس ؛ خصوصاً في هذه الأيام التي تحول رمي الجمار فيها إلى مشكلة عويصة ، وقلّ عام إلا ويسقط المئات تحت الأقدام صرعى وينقلون جثثاً هامدة !
وهذا عار يلحقنا جميعاً نحن المسلمين ، ويجب علينا أن نجاهد في سبيل تلافيه وتداركه ، ولست أدري كم يلزم أن يموت من المسلمين حتى نستيقظ ونتفطن ونغار على أرواحهم ، فما بال أقوام يغارون على فرعيات جرى الخلف فيها ويغمضون عن كليات جرى الجور عليها .
ومقصد الرمي ظاهر كما قالت عائشة : " إنما جعل الطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله "
فأين من ذكر الله من هو مشغول بنفسه ، وطالب لنجاته في وسط طوفان من الناس ماجوا وهاجوا واختلطوا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والتأكيد في بعض الفروع قد يسبب الوسواس ؛ فيشك الحاج هل رمى ستاً أو سبعاً ، هل سقطت في الحوض أم لا ؟ وقد أخرج النسائي وغيره عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : " رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضنا يقول : رميت بسبع حصيات ، وبعضنا يقول : رميت بست ، فلم يعب بعضهم على بعض " .
2ـ التيسير في وقت الرمي :
للحاج أن يرمي ليلاً ، وهو مذهب ابن عمر ، ومذهب الحنفية ورواية عند المالكية ، وأحد القولين عند الشافعية وبه أفتى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة ابن باز رحمه الله حينما اشتد الزحام على الجمرات ، والدليل على ذلك ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقال : رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال : " لا حرج " .
وله أن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام ، وهو منقول عن ابن عباس وطاوس وعطاء في رواية وطائفة من أهل العلم ومن المعاصرين : الشيخ عبدالله آل محمود ، والشيخ مصطفى الزرقاء ، وشيخنا الشيخ صالح البليهي وقواه السعدي رحمهم الله .واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه الصلاة والسلام " رخص للرعاء أن يرموا بالليل ، وأي ساعة من النهار شاءوا "
وله أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير ، لحديث عاصم بن عدي أن رسول الله أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى ، يرمون يوم النحر ، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ، ثم يرمون يوم النفر .
فيجوز لمن كان في معنى الرعاة ؛ أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق ، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر ، والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء ، وأيام التشريق كاليوم الواحد . وهذا قول الشافعية والحنابلة واختاره الشنقيطي رحمهم الله .
وهكذا التأخير لتجنب الزحام والمشقة والاقتتال ، فهو من أعظم المقاصد الفاضلة المعتبرة .
3ـ التيسير في الإنابة في الرمي :
للضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي ، ولا حرج ، قال ابن المنذر : " كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي ، كان ابن عمر يفعل ذلك ، وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق " .
وأعجب من إخوة غيورين لا يسمحون لنسائهم بالخروج إلى السوق لحاجة ، ثم يصرون على ذهاب النساء إلى المرمى ، حيث تلتصق الأجساد ، وتطير الأغطية ، وتتهاوى الأجساد تحت الأقدام ولا حول ولا قوة إلا بالله .
التيسير في التحلل والمبيت
ومن ذلك : أن التحلل الأول يقع برمي جمرة العقبة ، فإذا رماها يوم العيد حل له كل شيء إلا النساء .
وهذا مذهب مالك وأبي ثور وأبي يوسف وبه قال علقمة وخارجة وعطاء وهو آخر القولين لشيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمهم الله ، واستدلوا بحديث ابن عباس وعائشة ، وإن كان فيهما ضعف ، إلا أنه قد صححهما بعض المعاصرين كالشيخ الألباني رحمه الله ويشهد لهما فتاوى الصحابة .
ومن الرخصة ما يتعلق بالمبيت بمنى :
وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والجمهور يرون وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق على من قدر على ذلك ، ووجد مكاناً يليق بمثله ، لكن دلت الأدلة على سقوط المبيت عمن لم يجب مكاناً يليق به ، وليس عليه شيء ، وله أن يبيت حيث شاء في مكة أو المزدلفة أو العزيزية أو غيرها ، ولا يلزمه المبيت حيث انتهت الخيام بمنى . ومما يدل على ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين قال : " استأذن العباس رسول الله أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية ، فأذن له "
وإذا ثبتت الرخصة في ترك المبيت بمنى لأهل السقاية ، وهم يجدون مكاناً للمبيت بمنى ، فمن باب أولى أن تثبت لمن لم يجد بمنى مكاناً يليق به .
التيسير في الدماء
ومن التيسير : عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء ؛ فإن الفتوى أحياناً تُلزم الحاج بدم كلما ترك واجباً ، بناء على أثر ابن عباس : " من نسي من نسكه شيئا أو تركه ، فليهرق دما "
وهو أثر صحيح ، ولكنه فتوى واجتهاد ، وقد كان كثير من السلف لا يلزمون به ، وقد أسقط الشارع بعض الواجبات كطواف الوداع عن الحائض ، والمبيت بمنى عن الرعاة ، ولم يلزمهم بشيء ، وهذا ثابت معروف بالسنة ، بينما في فعل المحضور ورد حديث كعب بن عجرة في الإذن بحلق الرأس مع الفدية ، ولم يثبت في السنة المرفوعة خبر في إيجاب الدم لترك الواجب ، ويمكن أن يراعى في هذا أحوال الناس .
انتهت هذه المقتطفات والتلخيصات من الكتاب أسأل الله أن ينفع بهذا العمل اليسير ، وعذراً على الإطالة والمقام يستدعي ذلك لأهمية هذه المسائل والله أعلم .[/CENTER]
__________________
قال صلى الله عليه و سلم:(( مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلى العظيم ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاتُهُ )) رواه البخاري .تعارَّ من الليل : أي هبَّ من نومه واستيقظ . النهاية .
|