حكم إعفاء اللحية في دلالة النصوص الثابتة
--------------------------------------------------------------------------------
أولا: دلالة النصوص الواردة في صفة لحية النبي
الأحاديثُ الوارِدَةُ في صِفَةِ رَسُولِ اللهَ الخَلقيةِ وَصَفَت لحيَتَهُ بأنها:
ا- كَثة.
والمعنى: كَثيرةُ الشعر بكَثرَةِ أصولِها مَعَ قِصَير فيها وجُعودَة.
قالَ أبو عُبَيد القاسِمُ بنُ سَلام في شرح هذه اللفظَةِ: "الكُثوثَةُ: أن تكونَ اللحية غَيرَ دَقيقَةٍ وَلا طَويلَةِ، ولكِن فيها كَثاثَةَ مِن غِيرِ عِظَمِ وَلا طُولٍ " (المعجم الكبير للطبراني).
وقالَ ابنُ أبي ثابِتٍ اللغوي: "يقالُ للحية إذا قَصُرَ شعرها وَكَثُرَ: أنها لَكَثةْ".
وفي "القاموسِ " (مادة "كثث"):، كَثت اللحية كَثاثَة وكُثوثَةَ وكَثَثاً: كَثُرَت أصولُها، وَكَثُفَتْ، وَ قَصُرَتْ، وَجَعِدَتْ ".
2- كَثيرةُ الشَعرِ.
وهذه الصًفةُ تناسَبَتْ معَ الوَصفِ السابِقِ كما تقدم في معناهُ.
3- ضَخمَة.
والضخامَةُ: العِظمُ. قالَ ابنُ فارِسٍ في (مقاييس اللغة): "الضادُ والخاءُ والميمُ أصل صحيح يدل على عِظَم في الشيءِ".
وهذا دال على أن لحية التَبي كانَت عَظيمَةَ، لكن العِظَمَ معنى مجمَلْ يحتاجُ إلى تفسيرِ، وأحسن ما يُفيدُ حقيقَتَهُ إعادَةُ إجمالِهِ لما تضمنَتِ الأوصافُ الأخرى مِنَ الدلالةِ الواضِحَةِ.
4- حَسَنَةْ.
والحسنُ جمالُ الهَيئَةِ والصورَةِ، وجائز أن يكونَ ذلكَ في خَلقِها ونَباتِها، كما يجوزُ أن يكونَ مِن جِهَةِ عنايَتِهِ بِها، والمعنَيانِ مُجتَمِعانِ مُتصوَرانِ في صِفَةِ النبي .
فأما حُسنُهُ الخَلقي فقد دلت عليهِ نُصوصْ صَحيحَة، منها حديثُ البَراءِ بنِ عازِبٍ ، رَضِيَ اللهُ عَتهُ، قالَ: كانَ رَسُولُ اللّهَ أَحْسَنَ الناسِ وجهاً.
وفي روايةِ: سُئِلَ البَراءُ: أكانَ وجه النبي مِثلَ السَّيفِ؟ قالَ: بَل مِثْلَ القَمَرِ (حديث صحيح).
وعَنْ جابِرِ بنِ سَمُرَةَ قالَ: كانَ رَسولُ اللهَ قد شمط مقدم رَأسِهِ ولحيتِهِ، وكانَ إذا ادهَنَ لَم يَتبَين، وإذا شَعِثَ رَأسه (تفرق شعره و انتشر) تبيْن، وكان كَثيرَ شعر اللحية. فقالَ رَجُلٌ : وجههُ مِثلُ السيفِ؟ قال: لا، بك كان مِثلَ الشمسِ والقَمَرِ، وكانَ مستَديرا، ورأيتُ الخاتَمَ عِتدَ كَتِفِهِ مِثل بيضة الحَمامَةِ يُشبِهُ جَسَدَهُ (حديث صحيح).
فهذا حُسنُ صِفَتِهِ الخَلقيةِ ، أما اعتِناؤهُ بهَيئَتِهِ وإكْرامُهُ لشعرهِ فهُوَ الآمِرُ لأمتِهِ بذلكَ، وما كانَ كذلكَ فهُوَ أولى الناسِ بهِ.
وذلكَ كما ثَبَتَ عَنْ أبي هُرَيرَةَ، أن رَسولَ اللّهَ قالَ: "مَن كانَ لَهُ شعر فَلْيُكرِمْهُ".
5- وكانَت لحيتُهُ تملأ ما بينَ صُدغَيهِ حتى تكادَ تَمْلأ نَحرَهُ.
الصدغانِ في مَعناهُما أقوال:
(1) هما الموضِعانِ من جانِبَي الرأس حيثُ يلتَقي شَعْرُ الرَأسِ وشعرُ اللحية.
(2) هُما ما بينَ لِحاظَي العَينَينِ إلى أصلِ الأذُنِ.
(3) هُما ما انحَدَرَ مِنَ الرأس من جانِبَي الوجه إلى موضِعِ الماضغِ الذي يتحركُ إذا مَضَغَ الإتسانُ.
(4) مَوْصِلُ ما بينَ اللحية والرأس إلى أسفَلَ من القَرنَيْنِ، والقَرنانِ حَرفا جانِبَي الرأس.
وَهذه المعاني غيرُ مُتخالفةِ، فأتمها آخِرُها، وما قَبْلَهُ من بابِ تسميَةِ الجُزْءِ باسمِ الكُل، أو تكونُ جميعا من بابِ المُشتَرَكِ الذي يُعينُ المُرادُ بهِ بالقَرينَةِ.
وما جاءَ في صِفَةِ لحية النبي أنها كانَت تَملأ ما بينَ صُدغَيهِ حتى تكادَ تملأ نَحرَهُ مُفسَّرٌ بنَفْسِهِ، وأن الصدغينِ فيهِ جانِبا الوَجْهِ إلى أسفَلَ مِنْ حرفي جانِبَي الرأس، وفيهِ كثافَةُ الشعر مِن أسفل جانِبَيِ الرأس، ثم تَتزِلُ طولًا حتَى تكادَ تَملأ منهُ النحرَ، والنحرُ موضِعُ القِلادَةِ حيثُ تكونُ الثُّغرَةُ أسفل الرََّقَبَةِ وفوقَ الصدرِ.
فالبينيةُ الممتلِئَةُ إنما هي ما بينَ الجانِبَينِ من أسفل حيثُ تنحَدِر اللحية مِنَ الوجه.
وهذه هي ضَخامَةُ لحيَةِ النبي ، وهوَ الذي كانَ يُهيئُ لمَن خَلفَهُ في الصلاةِ أن يَعْلَمَ بحرَكَتِها أنه يقرَا في السريةِ حيثُ كانَت لضَخامَتِها ومَلئِها ما بينَ الصُّدْغينِ يراها مَن خَلْفَهُ مِنَ الجانِبَينِ.
وحيثُ إنها تكادُ تملا نَحرَهُ فيهِ إشارَة إلى طولِ المتحدرِ منها بِمِقْدارِ دونَ بُلوغِ الصَّدرِ، فإنها لو بَلَغَتِ الصدرَ لَغَطتِ النحرَ، وهِيَ لم تكُن تملأ النحرَ إنما تُقارِبُ، وكانَ ذلكَ الطولُ كافِيا لإمكانِ الأخذِ بها أو القَبضِ عليها عتدَ الاهتِمامِ، كما أن ذلكَ الطولَ معَ الكثاثَةِ يُناسِبُ تخليلَها عتدَ الوُضوءِ.
هذه صِفَةُ لحية النبيً التي ثَبَتَت بذِكرها الأخبارُ.
ولفا كانَ نَباتُ اللحية أمرا فِطرِيا خَلقيا يَستَوي فيهِ جِتسُ الرًجالِ، لم يَكُن يصلُحُ أن يُعَد مُجردُ أن النبي كانَت لهُ لحية دَليلا على أنها مِن شَعائِرِ الدينِ.
نعم، في إبقاءِ النبي لها دليلْ على أنها جائِزَة حَسَنَة، فإنَّه لا يَفعلُ القَبيحَ، وهذه قاعِدة في الأفعالِ والتروكِ الجِبِلِّيةِ مِمَا لا يتصِلُ بخِطابِ التكليفِ، فإن أدنى دَرجاتِهِ إباحَةُ ذلكَ الفِعلِ أو التركِ لمُجردِ أن النبي فَعَلَهُ أو تَرَكَهُ، إذْ لو كانَ فيهِ محذور لفعَلَ خِلافَهُ. كَذلكَ، كانَتِ اللحية عادَةَ جارِية في الناسِ قَبْلَ الإسلامِ، واستَمرت بعدَهُ، ولم يكُن وجودُها بمُجزدِهِ دَليلا على إسلامِ صاحِبِها، فَضلًا عَنْ أن تكونَ دَليلا على تقواهُ وصَلاحِهِ.
فَقَد قالَ اللهُ تعالى مِن قَبْلُ عَن هارونَ عليهِ السلامُ في قولهِ لأخيهِ موسى عليهِ السلامُ: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي..) طه: 94،
فهذا رَسولَ مِن رُسُلِ اللهِ كانَت لهُ لحية.
وعَن أَنَسِ بنِ مالكِ، رَضِيَ اللّهُ عتهُ، قالَ: قالَ النبي يومَ بَدر: "مَن يَتظُرُ ما فَعَلَ أبو جَهلِ؟ " فاتطَلَقَ ابنُ مَسعودٍ فوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابنا عَفْراءَ حتى بَرَدَ، فأَخَذَ بِلحيتِهِ، فقالَ: أَنتَ! أبا جَهلِ، قالَ: وهَل فَوقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَومُه أو قالَ قَتَلتُمُوهُ؟ (حديث صحيح).
فهذا عَدُو اللّهِ أبو جَهل كانَت لَهُ لحية. وفي حَديثِ أُم سَلَمَةَ في قِصَةِ الهِجرَةِ إلى الحَبَشَةِ حينَ قرا جعفرُ بنُ أبي طالِبِ صَدرا مِن سُورةِ مريم على النجاشِيِّ، قالَتْ: فبَكى وَاللهِ النجاشِي حتَى أَخْضَلَ لحيتَهُ .
فهذا النجاشِي مَلِكُ الحَبَشَةِ كانَ نصرانِيا، وكانَت لَهُ لِحْيَةٌ .
وعَنْ جابِرِ بنِ عبد الله، قالَ: أُتِيَ بأَبي قُحافَةَ يومَ فَتْحِ مكَّةَ ورَأْسُهُ ولحيتُهُ كالثغامَةِ بَياضا، فقالَ رَسُولُ اللّهَ ِ: "غَيروا هذا بِشَيءٍ واجْتَنِبُوا السو ادَ ".
فهذا أبو قُحافَةَ والِدُ أبي بكْرٍ الصًدًيقِ أُتِيَ بهِ ليُسْلِمَ يومَ الفَتْحِ وهوَ على تلكَ الصًفَةِ، فكانَ ذا لحية في الجاهليةِ والإسْلامِ.
وهذه أمثلة تَحكِي واقِعَ الناسِ يومَئذٍ ، كانَت اللحيةُ عنْدَ الرجالِ عادةً جارية وحالَا مُتبَعا، عتدَ مُسلِمِهم وكافِرِهم، سِوى ما سيأتي ذكرُهُ عَنِ المجوسِ فإنَّهم رُبما كانُوا يَحْلِقونَها عادةَ لَهم.
فهذا المقدارُ مِما يتصلُ باللحية لا يَدل على اعْتبارها منْ شعائر الدِّينِ.
فإنْ قيلَ: نَعَمْ كانَت كذلكَ، لكن جاءَت شَريعَة الاسلام بنقْل تلْكَ العادَةِ إلى شَعيرةٍ بأمرِ رَسُولِ اللهَ بِها.
قلت: موضِعُ تقريرِ ذلكَ الكلامُ على النوعِ الثاني من الأحاديث الثابتَةِ في اللًحيةِ مِنَ السننِ القوليةِ، وسيأتي بيانُ وُجوه دلالاتها، لكنْ المقامَ هُنا في تحريرِ دلالةِ الصفَةِ النبويةِ، فإنه قَد ظَهر انها كانت من بابِ العادَةِ، وأنه لا يُعرَفُ رجُلٌ دخَلَ الإسلامَ على عَهد النبي كان يَحلِقُ لحيتَهُ، فلمَا أسلَمَ أعفاها، وإنما كانَت عادةَ المسلمين وغيرهم، ولم تكُن بمُجرَدِها علامةً على إسلامِ ولا تَقوَى ولا دين.
نَعَمْ، استَفَدنا مِن صِفَةِ لحية النبي أدنى ما يكون من المشروعيةِ، وهُوَ إباحَةُ اتخاذِ اللحية لا غَير، أما ما يزيد على الإباحةِ فهذا مِما يُطْلَبُ مِن أدلةِ أُخْرى، فتأمل ما سيأتي في المحور الثاني.
__________________
هلا وغلا :a
|