مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 14-12-2006, 09:50 PM   #23
ابوغريب
عـضـو
 
صورة ابوغريب الرمزية
 
تاريخ التسجيل: May 2003
البلد: بريدة
المشاركات: 572
تحرير مذاهب الفقهاء في إعفاء اللحية

--------------------------------------------------------------------------------

نتَناوَلُ في هذا المبحث ذِكرَ مذاهِب العُلماءِ في حُكمِ حَلقِ اللحيَهَ خاصَّةً، أما الأخذُ منها دونَ حَلْقِها فسيأَتي تقريرُهُ مِن خِلالِ النصوصِ، مُلْحَقا بذِكرِ القائلينَ بهِ أو المُخالفينَ له، معَ تحريرِ الراجِحِ في فَضلِ خاصّ.
أما كلامُهُم في حَلقِ اللحية، فاعلَم أنه بالاستِقراءِ لمذاهِبِ السَّلَفِ يُمكِنُ تَحريرُ ذلكَ بِما يأتي:
ا- كانَت اللحية عادة جارية في أصحابِ النبي في حياتِهِ وبعدَ موتِهِ، ولا يُعرَفُ أن أحَدا مِنَ الصحابَةِ حَلَقَ لحيتَهُ، ومِثلُهُم التابعُونَ بعدَهُم.
2- لم يتكلَم أَحَد مِنَ الصحابَةِ ولا التابعينَ في حُكمِ حَلقِ اللحية، كَما لم يتكلم أحَدْ بأن الشريعَةَ جاءَت بفَرضِ إعفائها.
ولا يخفى في العِلمِ أن مُجرَدَ اتخاذِهم لها لا يدل على فَرضِها، كما لا يدل على حُرمَةِ حَلقِها، لِما تقدم أن بيناهُ ان اتخاذَهُم لها لم يولَدْ معَ إسْلامِهمْ، إنما كانَ عادة جارية في مجتَمَعِهِمْ قَبْلَ الإسلامِ أبْقَتْها الشريعَةُ ولم تُبطِلْها.
فلو نَسَبَ إتسان لأحَدِ مِنَ الصحابَةِ إنه أوجَبَ إعفاءَ اللحية وحرمَ حَلقَها فعليهِ إثباتُ ذلكَ، ولا سَبيلَ لهُ إليهِ.
كما لا سَبيلَ لمَن يدعي أنهُم أباحوا حَلقَ اللحية ورخصوا فيهِ.
فإِن قالَ قائلْ هُنا: فحلقُها مُحدَث حيثُ لم يَعرِفوهُ.
قُلنا: نعم، هُوَ مُحدَثْ ، لكن المُحدَثَ في أمرِ العاداتِ لا يتناوَلُهُ حُكمُ المُحدَثاتِ في العِباداتِ، والنَّاسُ قد يَصطَلِحونَ على عادةٍ لم تَكُن سالِفَة في عُرفِهم، فتَمضي فيهم حتى تكونَ عُرفا شائِعا، فهذا لا يُتكَرُ لمجردِ كونهِ مِن المُحدَثاتِ، إنَّما يُتكَرُ لكونهِ عُرفا مُخالِفا للأدلةِ الشرعيةِ، فإن لم يُخالِف كانَ على الأصل في العاداتِ، وهُوَ الإباحَةُ.
فحَلقُ اللحية لو أتكِرَ فلا يُتكَرُ مِن جِهَةِ أنه مُحدَث، إنَّما يُتكَرُ لكونِهِ على خِلافِ الأدلةِ الشرعيةِ، وهَل هُوَ كذلكَ؟ هذا يعُودُ بنا إلى التفصيلِ المتقدم في المبحَثِ الأخيرِ مِن الفَصلِ السابِقِ.
وأما الأخذُ مِنَ اللحية فقد تقدم في الآثارِ عَنِ الصَحابَةِ والتَابعينَ أتهُم كانُوا يقعَلونَهُ في النسُكِ أو غيرِهِ مِن غَيرِ نكيرِ يُعرَفُ عَنْ أحَدِ، وستأتي لهُ زيادَةُ تقريرِ.
كما يدل الاستِقراءُ على أن الأمرَ بَقِيَ على ما ذكَرتُ في شَأنِ اللًحيَةِ عَنِ الصَحابَةِ والتابعِينَ عِتدَ مَن جاءَ بعدَهُم مِنَ الفُقهاءِ والأئمة، كالإمامَينِ أبي حنيفَةَ ومالكٍ ، فالشَافِعي، فأحمَدَ، ومَن كانَ في طبقَتِهم مِن إخوانِهم وأقرانِهِمْ.
فلا يُعرَفُ عَن أبي حَنيفَةَ في شيءِ مِن أقوالِهِ المنقولَةِ عِتدَ أصحابهِ أنه تكلَمَ في حُكمِ حَلقِ اللحية، وإنما عَتهُ الكلامُ في الأخذِ مِنْها، ومِثلُهُ المنقولُ عن مالكٍ نَفسِهِ، أما الشَافعِيُّ فقَد ذكَرَ الفَقيهُ نجمُ الدينِ ابنُ الرِّفعَةِ أحَدُ فُقَهاءِ أصحابهِ إنه نَص في كتابِ "الأم " على حُرْمَةِ حَلقِ اللحية، فإِن صح هذا فيكونُ أقدَمَ تصريح يَصِلُ إلينا بتَحريمِ حَلقِ اللحية، وكِبارُ أئمَةِ الشافعية حينَ تعرضوا إلى هذه المسألةِ لا يذكُرونَ إلا كَراهَةَ حَلقِ اللحية، ولو كانَ الشافعيُّ قد نص على التَحريمِ فالمظنونُ أن لا يَفوتَهُم ذكرُهُ، كما سَيأتي عن جَماعَةِ مِنْهُم.
وأقولُ: كِتابُ "الأم " عَنِ الشَافعيً بجُمْلِتِه مَحفوظٌ ، وأوْجَدَنا الاستِقراءُ لهُ من عِبارَةِ الشَافعي ما أبانَ عن رأيِهِ في الأخْذِ مِنَ اللحية في (الطهارَةِ) و (غَسلِ الميتِ) و (الحَج)، وشَيء ذَكَرَه في (جِراحِ العَمْدِ) و (الديات)، وألصَقُ ذلكَ بِما عُزِيَ لابنِ الرفْعَةِ، قول الشافعي في (جِراحِ العَمْدِ): "وَلَو حَلَقَهُ حلاقٌ ، فنبَتَ شعرهُ كَما كانَ أوْ أجْوَدَ، لم يَكُن عليهِ شَيء، والحِلاقُ ليسَ بجِنايَةِ، لأن فيهِ نُسُكا في الرأس، وليسَ فيهِ كَثيرُ ألَم، وهُوَ وإن كانَ في اللحية لا يَجوز، فليسَ فيهِ كَثيرُ ألَيم وَلا ذَهابُ شَعر، لأتَه يُستَخْلَفُ ".
فابنُ الرفعَةِ فيما أحسَبُ أرادَ قولَه: "وَهُوَ وإن كانَ في اللحية لا يَجوزُ"، وليسَ عَنِ الشَّافعي في "الأم " ما هُوَ اْقرَبُ إلى ما ذَكَرَ ابنُ الرقعَةِ من هذا النص، واللّهُ أعلَمُ، وكأن سائرَ الأصحاب مِمَّن تقدم ابنَ الرفعَةِ من مُحققي الشَافعيَّةِ كالرَافعي والنوَوي، لم يرَوْا هذا عَنِ الشافعي نصا في التحريمِ، كَما فَهِمَهُ ابنُ الرفعَةِ.
وأمَا أحمَدُ بنُ حَنبلٍ فإن أصحابهُ حَفِظوا من كَلامِهِ وفِعْلِهِ الأخْذَ مِنَ اللحية، ولم يَذكُروا لهُ شيئا صريحا في حَلْقِها كما سأذكُرُ عِباراتِهِ في ذلكَ في الفَصلِ المخصصِ له، إتما قد يَصيرُ بعْضُهُم مِن بعْدِهِ إلى ما كانَ يختارُهُ من عَدَمِ مُجاوزَةِ القَبْضَةِ في الأخذِ مِنَ اللحية كدَليلِ على مَنْعِهِ الحَلقَ، وهذا تُحْتَمَلُ إضافَتُهُ إليهِ، لكن لا يُمْكِنُ الجَزْمُ بأتهُ كانَ يذهَبُ إلى حُرْمَةِ حَلْقِ اللحية.
ثُم صارَت عِبارَةُ تحريمِ حَلقِ اللحية تُذكَرُ بعدَ الفُقهاءِ الأربعةِ، ومِتهُم مَن يذْكُرُ عِبارَةَ الكَراهَةِ، وهِيَ بمعنى الكَراهَةِ التنزيهيةِ لا التحريميةِ، إلَا أنَّ الحنفية كما نص بعض فقهائهِم إذا أطلَقوا الكَراهَةَ ولم يُبينوها فهِيَ التَحريميةُ ، ورُبما عَبرَ بعضهم بفَرْضِ أو وُجوبِ إعفاءِ اللِّحيَةِ، وبَعضُهم بنَدبِ إعفاءِ اللحيَةِ، فإليكَ تِلكَ العِباراتِ مُلحَقَةَ بتحريرِ دلالَتِها:

ا- عندَ فقهاء الحنفية:
صَرحَ بعض أعيانِهم، كالكاساني (المتوفى سنة: 587 هـ) بأن حَلقَ اللحية من بابِ المُثلَةِ.
وقالَ الكَمالُ ابنُ الهُمامِ (المتوفى سنة: 681 هـ) بعدَ أن ذكَرَ المذهَبَ في الأخذِ مِنَ اللحيَةِ: "يُحمَلُ الإعْفاءُ على إعْفائها مِن أن يأخُذَ غالِبَها أو كُلها، كَما هُوَ فعل مَجوسِ الأعاجِمِ مِن حَلقِ لِحاهُم، كَما يُشاهَدُ في الهُنودِ وبَعضِ أجناسِ الفِرتج، فيَقَعُ بذلكَ الجَمعُ بينَ الرواياتِ، ويؤيدُ إرادَةَ هذا ما في مُسلِمٍ عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عتهُ عَنِ النبيٌ عليهِ الضَلاةُ والسلامُ: (جُزوا الشوارِبَ، وأعْفوا اللحى، خالِفوا المجوسَ) فهذهِ الجُملَةُ واقِعَةْ موقِعَ التعليلِ، وأما الأخذُ منها وهِيَ دونَ ذلكَ كَما يَقعَلُهُ بعض المغاربَةِ ومُخنثَةُ الرجالِ فلم يُبِحْهُ أحَد".
وهذا الكلامُ نَقَلَهُ مَن بعدَ ابنِ الهُمامِ مِنَ الحنفية عتهُ، كما فَعلَ زَينُ الدينِ ابنُ نُجَيْم (المتوفى سنة: 970 هـ) في "البحر الرائق" والعَلاءُ الحَصفَكي (المتوفى سنة: 1088 هـ) في "الدرٌ المُختارِ" والعلامةُ ابنُ عابِدينَ (المتوفى سنة52 هـ) في "حاشيتِهِ".
وَهذا أيضا مِن تحريراتِ ابنِ الهُمامِ في شرح المذهَبِ في مسألةِ الأخْذِ مِنَ اللحية، كَما إنه منصوص عليهِ عتدَهُم عَنِ الإمامِ أبي حنيفةَ وَصاحِبَيهِ، ورأوهُ مشروعا للأثَرِ فيهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ وغيرِهِ، فلما كانَ المذهَبُ كذلكَ في الأخذِ مِنَ اللحية، فكيفَ التوفيقُ بينَهُ وبينَ الأمْرِ بإعفانها الوارِدِ في الأحاديثِ؟ فكانَ ما ذكرتُهُ عَنِ ابنِ الهُمامِ إنما هوَ في هذا، كَما صرًحَ بهِ ابنُ عابِدينَ.
نعم، إنه قالَ في الحَلقِ في آخِرِ الشئ المذكورِ:"لم يُبِحهُ أحَذ"، وَهذا صَوابْ كما قررنا دلالةَ النصوصِ عليهِ، فإن مخالَفَةَ المجوسِ ومَن يوافِقُهُم في حَلقِ اللحية مأمور بِها تميزا للمُسلمِ عَتهُم، وأن مُشابَهَتَهُم في هَذيِهم ذلكَ مكروهَةْ، فإن قصَدَها المسلِمُ بغَيرِ سَبَبٍ صَحيحِ فقد تشبهَ بهم، والتشبهُ مُحرم بهذا الاعتِبارِ.
فَصَدَقَ ابنُ الهُمامِ في أنَّ ذلك الفِعلَ لم يُبِحهُ أحَدٌ ، وعَدَمُ الإباحَةِ لا يعني التَحريمَ، إنما الإباحَةُ واحِد مِنَ الأحكامَ التكليفيةِ الخَمْسَةِ، ومِتها: الكراهَةُ، والتحريمُ، فما الذي أرادَهُ ابنُ الهُمامِ؟ هذا ما يُمكِنُ أن يُفسرَهُ كلامُ غيرِهِ مِن فقَهاءِ المذهَبِ.
لكن صرحَ بالتحريمِ مِنَ الحنفية غيرُهُ، فقالَ الحَصفَكي في "الذر المُختارِ" : "وَلا بأْسَ بنَتفِ الشيبِ، وأَخذِ أطْرافِ اللحية، والسنةُ فيها القَبضَةُ، وفيهِ (أي: المُجتَبى مِن كُتُبِهم): قَطَعَت شعر رأسِها (يعني المرأةَ) أَثِمَت ولُعِنَت، زادَ في البزازية: وإِنْ بإذنِ الزوْجِ) لأنًه لا طاعَةَ لمخلوق في معصيَةِ الخالِقِ، ولِذا يحرُمُ على الرجل قَطعُ لحيتِهِ، وَالمعنى المؤثرُ التشبهُ بالرجالِ ".
قُلتُ: فهذا صَريح في تفسيرِ مذهَبِ مَن تكلمَ حول هذه المسألةِ مِن فُقَهاءِ الحنفية في إنهم يقولونَ بتحريمِ حَفتن اللحية، ولم يتعقب المحققُ ابنُ عابِدينَ هذا الكَلامَ بشيء، مِما يشعر بقرارِهِ، بل إني وجدتُهُ في موضِعِ آخَرَ قالَ في حَلقِ شعرِ الرأس في الحج: (هذا في حَق الرجل، وُيكرَهُ للمرأةِ، لأنهُ مُثلَة في حقها، كحَلقِ الرَّجُلِ لحيتَهُ).
وقالَ: "وفي (المُختَبى) و (اليَنابيع) وغييرهما: لا بأسَ بأخْذِ أطرافِ اللحية إذا طالَت، ولا بِنَتْف الشبب إلا على وجه التزيينِ، وَلا بالأخذِ مِن حاجِبِهِ وشعرِ وجههِ، ما لم يشبة فعل المخنثين، ولا يَحلِق شعر حَلقِهِ، وعَن أبي يوسُفَ: لا بأسَ بهِ ".
فحاصِلُ هذا الذي سُقتُ عَن ابنِ الهمام، وما ذكَرَهُ صاحِبُ "الدر" وابنُ عابدينَ عن غيرِهِ مِن شُروحِ المذهَبِ أو مِن كَلامِ نَفسِهِ، هوَ مذهَبُ الحنفية، وهُوَ تَحريمُهُم حَلقَ اللحية، لِما فيهِ مِنَ التشبهِ بالمَجوسِ، أو النساءِ، أو لأنهُ مُثلَة.

2- عتدَ فقهاء المالكية:
ما اطلَعتُ عليهِ مِنَ النقلِ عَنْ أئمةِ المالكية مِنَ النص الصريحِ عَنْ أئمةِ المذهَبِ في تحريمِ حَلقِ اللحية أقدَمُهُ ما نقلَهُ بعضهُم عَنِ "التمهيدِ": "ويحرُمُ حَلقُ اللحية"، وذِكرُ "التمهيد"ا للمالكية يَعني كِتابَ الحافظِ ابنِ عَبد ِالبَرٌ في شَرحِ "الموطأ"، ولم أجِد فيهِ شَيئا من هذا.
وَصَرحَ بالتحريمِ بعض شُراحِ "الرسالةِ" لابن أبي زَيدٍ ، وبعضُ شُراحِ "مُختصر خَليلِ" مِن مُتأخري المالكيةِ.
وقالَ الشيخُ علي محفوظ: "مَذهَبُ السَّادَةِ المالكية حُرْمَةُ حَلقِ اللحية، وكَذا قَصها إذا كانَ يحصُلُ بهِ مُثلَةْ، وأما إذا طالَتْ قَليلا وكانَ القَص لا يَحصُلُ بهِ مُثلَةْ فهُوَ خِلافُ الأولَى أو مكروه، كَما يُؤخَذُ مِن (شرح الرسالة) لأبي الحَسَنِ، و (حاشيته) للعَلامَةِ العَدوي".
قلتُ: والذي وجدتُهُ من كلامِ أبي الحَسَنِ المالكيٌ شارحِ الرسالةِ المسمَى "كفاية الطَالب " بخُصوصِ حَلقِ اللحية أنه عدها بِدعَةً، وأما العَدوي فقدْ زادَ في "حاشيتِهِ على كفايةِ الطالب" قولَة: "بدعة مُحرمةٌ في اللحية في حق الرجل ".
وقالَ أبو العباس أحمَدُ بنُ عُمَرَ القُرطُبي (المتوفى سنة: 656 هـ): "لا يَجُوزُ حَلقُها، وَلا نَتفُها، وَلا قَصُ الكَثيرِ مِتها، فأما أخذُ ما تَطايرَ متها وَما يُشَوٌهُ وَيدعو إلى الشهرَةَ، طُولًا وعَرضا، فحَسَنْ عتدَ مالك وغيرِه من السلَفِ ".
قلت: هَذا الذي ذكَرتُ عَنِ المالكية يقتَصِرُ عليهِ كثير مِنَ المؤلفينَ في حكمِ "إعفاء اللحية" مِما يُصورُ في أذْهانِ كثير مِنَ الناس أنهُ المذْهَبُ، فيُغَر بمَظِنةِ الاتفاقِ عليهِ عتدَ عُلماءِ المذهَبِ، والإتصافُ في مِثلِ هذا يوجِبُ أن يُذكَرَ الاختِلافُ إن وُجِدَ، والتحقيقُ إنه موجود عنْدَ المالكية في هذه القضيةِ.
قالَ القاضي عِياض (المتوفى سنة: 544 هـ): "وَكُرِهَ قَصها وَحَلقُها وَتَحريقُها، وقَدْ جاءَ الحديثُ بذَم ذلكَ، وسُنةُ الأعاجِمِ حَلقُها وَجَزها وتوفيرُ الشوارِبِ "، حتَّى قالَ: "أما الاخذُ مِن طولِها وَعَرضِها فَحَسَنٌ ، وتُكرَهُ الشهرَةُ في تَعظيمِها وتَخليَتها، كَما تكرَهُ في قَصها وَجَزها".
فهَذا القاضِي عِياض مِمَن إليهِ المنتَهى فىِ مَعرفةِ مذْهَبِ مالك، مَعَ الدرايَةِ بالنقلِ، لم يذكُر في حَلقِ اللحيَةِ غيرَ الكَراهَةِ، وهِيَ عتدَ غيرِ الحنفية كَراهَةُ التنزيهِ لا التحريمِ.
وأحسَبُهُ لاختِلافِ مذهَبِ المالكية في ذلكَ قالَ العلامَةُ محمد بنُ عَبد الباقي الزرْقاني المالكي (المتوفى سنة: 1122 هـ) في "شرح الموطَأ" في شرح روايةِ مالك لحَديثِ ابنِ عُمَرَ: (ان رَسولَ اللّهَ أمَرَ بإحفاءِ الشوارِبِ وإعفاءِ اللحى): "أمَرَ: نَدبا، وقيلَ: وجوباَ".
فهذا يُحصًلُ أن للمالكية وَجْهَينِ في حَلقِ اللحية: الكراهَةَ، والتحريمَ، أو وجهينِ في إعفائها: الندبَ، والوُجوبَ.
واختِلافُهُم يَعودُ إلى دلالةِ صيغَةِ الأمرِ بالإعفاءِ، أو المُخالَفَةِ، فمَن أجراهُ على أصلِ دلالةِ الصيغَةِ قالَ بالوُجوبِ وتحريمِ ضِدهِ، ومَن تأملَ العِلَلَ والقرائِنَ قالَ بالندبِ وكَراهَةِ ضِدهِ، كَما ان المُحرٌمَ منهُم استدل لقولهِ أيضا بأن فيهِ مُثلَة.

3- عِتدَ فُقَهاءِ الشافعية:
مِنَ الأقدَمينَ مِنَ الشافعية مِمن صرحَ بتحريمِ حَلقِ اللحية الفَقيهُ أبو عبد الله الحُسَينُ بن الحَسَنِ الحَليمي (المتوفى سنة: 403 هـ)، فقالَ: "لا يَحِل لأحَدِ أَن يحلِقَ لحيتَهُ وَلا حاجِبَيهِ، وإن كانَ لَهُ أن يَحلِقَ سِبالَهُ، لأن لحَلقِهِ فائدةً، وهِيَ أن لا يَعلَقَ بهِ مِن دَسَمِ الطعامِ ورائحَتِهِ ما يُكرَهُ، بِخِلافِ حَلقِ اللحيَةِ فإنهُ هُجنَة وَشُهرَة وَتَشَبه بالنساءِ، فهُوَ كَجَب الذكَرِ".
أقولُ: كون القول يُذكَرُ عن فقيه مُنتَسِب إلى مذهب من المذاهب الفقهيةِ، لا يَغني أن يكونَ ذلكَ القول هُوَ المذهَبَ، إنما يذكَر على أنه وَجة فيهِ، وَما قالَهُ الحَليمي ليسَ قول المحققينَ مِن فُقهاءِ الشافعيْة، ولِذا قالَ الحافِظُ ابنُ الملقنِ (المتوفى سنة: 854) بعْدَ نَقلِهِ كلامَه: "وما ذكَرَة في حَق اللحيَةِ حَسَنْ، وِإن كانَ المعروفُ في المذهَبِ الكَرا هَةَ".
قلتُ: والقول بالكَراهَةِ هُوَ المعتَمَدُ عتدَ مُحققي المذهَبِ.
وَمِمن صَرحَ بالكَراهَةِ من أعيانِ الشافعية: الخطابي (المتوفى سنة: 388 هـ)، فقالَ: "أما إعفاءُ اللحية، فهُوَ إرسالُها وتوفيرُها، كُرِهَ لَنا أن نَقصها كَفِعلِ بعض الأعاجِمِ، وكانَ زِي آلِ كِسرَى قَص اللحى وتوفيرَ الشوارِبِ، فنَدَبَ النبيُ ِ أمتهُ إلى مُخالفتِهم في الزي والهيئَةِ).
والغزالي (المتوفى سنة: 505 هـ) وبَعدَه النوَوي (المتوفى سنة:676 هـ)، فذكَرا خِصالا مكروهَة فىِ اللحية مِتها بعِبارَةِ النووي: "نَتفُها في أول طُلوعِها وتَخفيفها بالموسى إيثارا للمُرودَةِ واستِصحابا للصبا وحُسنِ الوجه، وهذه الخَصلَةُ مِن أقْبَحِها).
وذكَرَها النوويُ في "شرحِ صحيح مسلم " فجَعَلَها اثنَتي عَشْرَةَ خَصلَة، فكانَتِ الأخيرةُ: "حَلْقَها، إلا إذا نَبَتَتْ للمرأَةِ لحية فيُستَحبُّ حَلْقُها".
وَهذا فيهِ التفريقُ بينَ مُجردِ الحَلْقِ، وبينَ النتفِ أو الحَلقِ لها في أول طلوعِها تَصابِيا، ولا يخفى الفَرقُ بينَهُما جُملَةَ.
وبِناءَ على القول بالكَراهَةِ ذَهَبَ بعض متأخري الشافعيةِ إلى جَوازِ التَعزيرِ بحَلقِ اللحية، وَإن كانَ المذهَبُ على تَركِ التَّعزيرِ بذلكَ حتى على قول مَن يَرى كَراهَةَ حَلقِ اللحية لا تَحريمَهُ.
ونَقَلَ في "شرحِ العُبابِ " مِن كُتُبِ الشافعية عَنِ الشيخَينِ (يعني الرافِعي) (المتوفَّى سنة: 623 هـ) والنووي، قالا: "يُكْرَهُ حَلقُ اللحيَةِ"، وتعقبَهُ صاحِبُ "شرح العُباب" وغيرُهُ باعتِراضِ الفقيهِ نجمِ الدينِ ابنِ الرفعَةِ (المتوفى سنة: 710) بأن الشَافعيَ نَص على التحريمِ في "الأم"، كما ذُكِرَ عن غيرِ واحِدِ مِنْ أعيانِ الشافعية.
قلت: وَالذي أراهُ جَمعا بينَ المشهورِ عَنِ الأصحاب، وَما حَكاهُ ابنُ الرفعَةِ وسَبَقَت حِكايَتُه من نَص الشَافعي، أن في المذهَبِ وجهينِ:
الأول، وهُوَ المنصوصُ عَنِ الشافعيً: أن حلقَ اللحية لا يَجوزُ.
والثاني، وهُوَ اختِيارُ مُحققي الأصحاب: أن حَلقَها مَكروه.

4- عِتدَ فُقَهاءِ الحَنابِلَةِ:
لا يَذْكُرُ نَقَلَةُ مذْهَبِ أحمَدَ أن أحَدا مِن أصحابِهِ وأتباعِهِ قالَ بحُرمَةِ حَلقِ اللحيَةِ، إلى زمَنِ شيخِ الإسلامِ تقي الدينِ ابنِ تيميةَ (المتوفى سنة: 728 هـ)، فإن عامةَ متأخريهم يُعولونَ على اخْتِيارِهِ، وأما المذهَبُ قَبلَهُ فعَلى استِحبابِ إعفاءِ اللحيَةِ.
فهذ قالَ الفَقيِهُ ابنُ مُفلِحٍ (المتوفى سنة: 763 هـ): "وذَكَرَ ابنُ حَزم الإجماعَ أن قَص الشارِبِ وإعفاءَ اللحية فَرض، وأطلَقَ أصحابنا وغيرُهُم الاستِحبابَ، ثم ذكَرَ حديثَ الأمرِ بالمُخالَفَةِ للمشركينَ والمجوسِ وحديثَ زيدِ بنِ أرقَمَ في الأخذِ مِنَ الشارِبِ، وقالَ:"وهذه الصيغَةُ تَقتَضي عِتدَ أصحابنا التحريمَ".
وَقالَ ابنُ مُفلحٍ : "ويُسَن أن يُعفيَ لحيتَه" ولم يُجاوِزْ هذا القَدرَ في حُكمِ الإعفاءِ، وهِيَ عِبارَةُ الاستِحبابِ.
وَظاهِرُ قولهِ المتقدِّمِ: "وأطلَق أصحابُنا وغيرُهُم الاستِحْبابَ" الاستِدراكُ على ابنِ حَزم في ادعاءِ الفَرضيةِ في الأمرينِ: قَصٌ الشارِبِ وإعفاءِ اللحية، نعم، أوردَ النصوصَ الآمِرَةَ بالمُخالَفَة مُلزِما الحنابِلَةَ بِما جَرَوا عليهِ في مذهَبِهم أن هذه الصيغَةَ تَقتَضيهِ، فالجاري على طريقتِهم القول بالتحريمِ، لكنهم معَ ذلكَ لم يقولوا به، إلا ما حَكاهُ عَنْ شيخِهِ شيخِ الإسْلامِ ابنِ تيميةَ إنه قالَ: "ويحرُمُ حَلقُها".
وهذه العِبارَةُ قالَها ابنُ تيميةَ في "الاختِياراتِ"، وَحكاها عنْهُ مَن جاءَ بعدَهُ، منهُم ابنُ مُفلِح، والمَرداوي (المتوفى سنة: 885 هـ) في "الاتصافِ"، ومنصور البَهوتي (المتوفى سنة: 1051 هـ) في "شرحِ المنتهى"، و" الروضِ المُربعِ "، وغيرُهُم.
فحاصِلُ مذهَبِ الحَنابِلَةِ وجهانِ:
الأول: إعفاءُ اللحية مُستَحب، وعليهِ فغايَةُ ما يُقابِلُ ذلكَ: الكَراهَةُ.
والثاني: حَلقُ اللحية مُحرَمْ.

5- عِتدَ ابنِ حَزمٍ (المتوفى سنة: 456 هـ):
قالَ: "وأما فَرضُ قَص الشارِبِ وإعفاءِ اللحية " فساقَ حَديثَ ابنِ عُمَرَ الآمِرَ بالمُخالَفَةِ بالإعفاءِ والإحفاءِ.
وقالَ في "مراتب الإنجماعِ" : "واتفَقُوا ان حَلقَ جميعِ اللحية مُثلَة لا تَجوزُ"، وقالَ: "واتفَقوا ان قَصق الشارِبِ وَقَطعَ الأظفارِ وَحَلقَ العانَةِ وَنَتْفَ الإبِطِ حَسَن، واختَلفوا في حَلقِ الشارِبِ".
وتقدَّمَ عَنِ ابنِ مفلِح حكايَةُ الإجماعِ عَنِ ابنِ حَزم في أن قَص الشَارِبِ وإعفاءَ اللحية فَرضٌ ، ولعلَهُ أخَذَهُ مِن هذا وإن لم يُطابِقهُ.
وعلى هذا مِنَ المُلاحَظَةِ: أن الإجماعَ المُدَعى على فَرضيةِ قَصٌ الشارِبِ مُتَقفق بنَفسِ قول ابنِ حَريم في اتفاقهم على أنه حَسَنٌ ، والوَصفُ بالحُسنِ إنما يُناسبُ المندوبَ لا الفَرضَ، وأكثَرُهُم على أن قَص الشَارِبِ مُسْتَحب، بل قالَ البَغَوي (المتوفى سنة: 516 هـ) في التعليقِ على خِصالِ الفِطرَةِ وفيها قَص الشارِبِ: "وهذه الخِصالُ كلها سُنَن، إلا الخِتانَ فَقَدِ اختَلَفَ أهل العِلمِ بهِ " ، فهذا مُشعِرٌ بالاتفاقِ على سُنيتِهِ، بك صرحَ بذلكَ النووي فقالَ: "وأما قَص الشَارِبِ فمُتفق على إنه سُنةٌ".
فهذا وارِد على ما ذكَرَهُ ابنُ حَزمٍ بالنقْضِ إن صحت دعوَى الإجماعِ عتهُ في الشارِبِ.
وخُذ منه مِثالا على ضَعف الثقَةِ بدَعاوى الإجماعاتِ.
أما ما ادعاهُ ابنُ حَزمِ مِنَ الاتفاقِ على أن حَلقَ جَميعِ اللحية مُثلَة لا تَجوزُ، فصَواب في أن المُثلَةَ لا تَجوزُ، لكن تَسليمُ أن يكونَ حَلقُ اللحية مُثلَة موضِعُ نَظَر، فقَطعُ الشعرِ ليسَ كَقَطعِ العُضوِ، وسيأتي بيانُهُ بأظهَرَ مِما هُنا، والمقصودُ أن دعوَى الاتفاقِ هيَ مِن قَبيلِ عَدَمِ العِلمِ بالمُخالِفِ، وقد ذكَرتُ آنِفا أن السلَفَ لا يَعرِفونَ حَلقَ اللحية ولا يُعرَفُ فِعلُهُ عن أَحَد، وإليهِ يَرجع قول مَن وَصَفَهُ بالمُثلَةِ على ما سأبينُهُ، فحيثُ لم يجِدِ ابنُ حَزْمٍ مَن قالَ بإباحَةِ حَلْقِ اللًحيَةِ مِنَ السلَفِ ومُتقدمي العُلماءِ، جعَلَ ذلكَ منهُم بمَنزلةِ الاتفاقِ على المنعِ، معَ أنه كما قدمتُ لم يأتِ عتهُم القول بتحريمِ حَلقِ اللحية، بل صورَتُهُ مُحدَثَة، فينبغي أن لا يُتسَبَ إلى المتقدمينَ قول بخُصوصِ ذلكَ لم يَقولوهُ، ولا يكفي تصريحُ بعضهم بأن فِعلَهُ مُثلَة أن يكونَ مُثلَة عتدَ جميعِهم.

خلاصة المبحث الثاني
هذه آراءُ المذاهِبِ المشهورةِ في حُكم حَلقِ اللحية، وَحاصِلُها: أنهُ لا يُعرَفُ القول بالإباحَةِ المُطلَقَةِ عِتدَ أَحَدٍ مِنَ العُلَماءِ، إنما في مذاهِبِ أكثَرَهم وجهانِ:
الأول: كراهَةُ حَلقِ اللحية، وُيقابِلُهُ: نَدْبُ إعفائها، وهذا أحَدُ الوجهينِ للمالكية والشافعية والحَنابِلَةِ، وليسَ مِن شواذ مذاهِبِهم.
والثاني: تَحريمُ حَلقِ اللحية، وُيقابِلُهُ: وُجوب إعفأنها، وَهذا مذهَبُ الحَنَفيَّةِ، وهُوَ الوَجْهُ الاَخَرُ للمالكيةِ والشافعية والحَنابِلَةِ.
وقَد عَلِمْتَ بالتَفصيلِ المتقدم أن نِسْبَةَ القوْلِ بالتحريمِ قولا واحدا للمَذاهِبِ الأربعةِ خَطَأ عليها، وأمَا نِسبَتُهُ إلى نَفْس الأئمةِ الأربعَة المجتهدينَ فباطل، وإن صح أن الشافعي قالَ بهِ فلم يأْتِ بمِثلِهِ نَقلْ عَنِ الثلاثَةِ الاَخرينَ.
وإذا اخْتَلَفَت مذاهِبُ الفُقهاءِ وَجَبَ تحكيمُ نُصوصِ الوَحيِ وتَرجيحُ الراجِحِ بحُجتِهِ، لا الرد إلى نَفْسِ الخِلافِ، وهذا هُوَ السبَبُ الذي صيرني أوً لَا إلى جمعِ أدلةِ المسألةِ الثابتَةِ مِن جِهَةِ النَّقلِ، ثم بيانِ دلالتِها، مِما خَلَصتُ منه إلى:
1- أن الشَريعَةَ إنما أمَرَت بإعفاءِ اللحيَةِ كَما أمَرَت بقَص الشَارِبِ، لتَمييزِ شخصيةِ المسلِمِ بعلامةٍ بارزة عن غيرِ المسلِمِ، وتلكَ العلامَةُ لا تُطْلَبُ إلَا حيثُ تكونُ الشخصيةُ الإسلاميةُ مُتمكنَةِ مِن إظهارِ ذلكَ.
2- وحُكمُها إِن طُلِبَت مندوبَة حَسَنَةْ، وتركُها مكروة، ما لم يَقصِدِ المسلمُ التشبهَ بغيرِ المسلمينَ، والقَصدُ فعل القَلبِ، فالتَّشبهُ مُحرمْ.
فإذا تعذرَ التَميزُ أو التَمييزُ بتلكَ العَلامَةِ لم تكُن مطلوبَة، بل قد يطلَبُ خِلافُها، على ما تقدم مِنَ التفصيلِ.
فتأمل مَذاهِبَ الفُقهاءِ في ضَؤءِ ذلكَ.
وأما تَهويلُ بعض الناسِ مِن شأنِ هذه القضيةِ، خصوصا بعض أهل زَمانِنا، كَزَعمِهم أنها علامَةُ الرجولَةِ، وسَمتُ الصالحينَ، وشعارُ الوَقارِ، وأن خِلافَ ذلكَ علامَةُ التأنثِ والتخنثِ، ومسخْ للفِطرَةِ، وسُقوطْ بالمروءَةِ، فهذه ألفاظُ وُغَاظِ سِمَنُها في العِلمِ لا يَعدو مفرَداتِها، إذ لا يُغني في إفادَةِ الحُكمِ الشرعىً أن تُقالَ فيهِ هذهِ العِباراتُ، فالحُكمُ إنَّما يَثبُتُ بأدلتِهِ لا بِما صاغَتْهُ الظنونُ.
وَما يُعَدْ سَمتا للصالحينَ من الصوَرِ والهَيئاتِ يَجِبُ أن يَعودَ تَقديرُهُ إلى دَليلِ الشرعِ، لا إلى ما تواطأت عليهِ الأعرافُ الخاصة، كالَّذي رأيناهُ وَنشأنا عليهِ في بيئاتِ مَن يَتتَسِبُ إلى العلمِ أو التدينِ في بلادِ المسلمينَ، مثلُ اختِصاصِ الشَيخِ وإمامِ المسجِدِ بزِي مِنَ اللباسِ كعِمامَة مخصوصَةِ وجُبة مخصوصَة إِذا رُئيَ أُشيرَ لهُ مِن بُعد وعُرِفَ، يَقولونَ: هذا سَمتُ الصالحينَ، وشعارُ العُلماءِ والمُقدمينَ، وسَبَبُ الوَقارِ والتعظيمِ.
فَكم تُغَر بذلكَ العامهُ؟ وَكَم يُستَغل من طائفَةِ فتتوصلُ بهِ إلى أغراضِها؟ وإن كنتُ أستَثني من ذلكَ آخَرينَ حَسِبوهُ هَدْيا وَسُنةَ، على أني لم أرَ ذلكَ في كِتابِ ولا صَحيحِ سُنةٍ ، وإنما رأيتُ في هَديِ القُدوَةِ الأكبَرِ أن الرجل الغَريبَ كانَ يأتي مجلِسَهُ وهُوَ عليهِ الصلاةُ والسلام جالِس بينَ أصحابهِ لا يُميزُهُ عتهُم لِباس ولا هيئَة، فيقول: (أيكُم مُحمد؟) فيدلونَهُ عليهِ ، وما عُرِفَ فىِ السنةِ اختِصاص المُقدمينَ في العلمِ والدينِ بصُوَرِ وهَيئاتٍ تميًزُهُم عَن سائِرِ المسلمينَ.
وأمَا أن يوصَفَ بالتأنثِ والتخنثِ وسُقوطِ المروءَةِ مَن لم يُعف لحيتهُ حَلَقها أو قَصرَها، فذلكَ من مُبتَذَلِ الكلامِ، بل فاحِشِهِ وقَبيحِهِ، مُنافٍ لعِفةِ اللسانِ، وقد قالَ النبي : "لَيسَ المؤمِنُ بالطغانِ، وَلا اللعَّانِ، وَلا الفاحِشِ، وَلا البَذيءِ" ، وقالَ:"مَن كانَ يؤمنُ باللهِ وَاليوم الآخَرِ فَليَقُل خَيرا أو لِيَصمُتْ"، وقيلَ: مَن عَد كَلامَهُ مِن عَمَلِهِ، قَل كَلامُهُ إلا فيما يَغنيهِ.
والمقصودُ أن هذه العِباراتِ المفخمَةَ لا تَعدو أن تَكونَ مِن فَضْلِ الكَلامِ، لا تُقدًمُ قَليلا أو كثيرا في تَثبيت حُكم، فَضلا عن إفادَتِهِ، وإنما الحُجةُ في الأحكامِ للأدلةِ، وقد ذكَرتُ مِن قَبلُ أن تقريرَ حُكمِ هذه المسألةِ يَرجع إلى أحاديثَ ثلاثه أمَرَت بإعفاءِ اللحيهَ وقَص الشاربِ مُخالَفَة لغيرِ المسلمينَ، فأما التعلقُ بِما سِوى ذلكَ في شأنِ اللحية فليسَ فيهِ شي تصح دلالتُهُ، على ما سأستَقصيهِ في المبحث التالي.
__________________
هلا وغلا :a
ابوغريب غير متصل