مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:41 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الشاعر المقل الذي صمت..!
د.حسن بن فهد الهويمل


1/ لم تكن القلة أو الكثرة في الإبداع مقياس جودة، ولا مؤشر ضعف، والشعراء المكثرون في التاريخ الأدبي قد لا يحفل بهم النقد بمثل ما يحفل بغيرهم، وحين يمر بهم الدارسون قد لايجدون في شعرهم ما يثير، وليس ضعف المكثرين قاعدة طردية، ولقد عرف من المكثرين في القديم (أبو العتاهية) و(ابن الرومي)، ومن المعاصرين (محمد حسن فقي) و(بهاء الدين الأميري) وإذ تدور حول جودة المكثرين الشكوك، فإن المقلين في معزل عن ذلك. وشعراء القصيدة الواحدة أكثر حضوراً، ومع هذا فليس للمقلين أو المكثرين ارتباط لازب في الجودة أو في الرداءة، بمعنى ان النقاد لايربطون بين الجودة والكثرة أو القلة، ولكن أصحاب القصيدة الواحدة يملؤون النقاد إعجاباً، ولقد عرفت المشاهد النقدية (الشنفرى) بلاميته و(مالك بن الريب) برثاء نفسه، ولقد شغلت (اللامية) النقاد، فيما شغلت رثائية (ابن الريب) لنفسه كافة الدارسين، والشعر يكون تزيداً أو موقفياً.
وهو حين يرتبط بالمواقف يظل في انتظارها، وقد لاتأتي المواقف والتجارب بالقوة الكافية لتفجير الموهبة، ولهذا يتمنع الشاعر، أو يتمنع الشعر على الشاعر، ويروى عن بعض الشعراء الفحول قوله: - لخلع ضرس أهون عليَّ من نظم بيت. يكون ذلك في حالة التمنع. والعملية الإبداعية، أو لحظة المخاض تدخل بالراصدين لها عالم الأسطورة والخرافة. وظاهرة (شياطين الشعر) يحال إليها ما لا يمكن توقعه من روائع الإبداع، فالمتلقي حين يستمع الشعر المتميز، ينتابه شعور غريب، لايستطيع السيطرة عليه، ومن ثم يحيل إلى الشياطين وتنزلاتها، وقد فعل مشركو مكة مثل ذلك، حين سمعوا القرآن، لتصورهم ان الرسول شاعر موهوب، تتنزل عليه الشياطين. والمتذوق للشعر المتمكن من لغته وشرطه الفني ينتابه ما ينتاب العربي السليقي من إعجاب، لايعرف مصدره، ومن ثم تنطلق منه كلمة الإعجاب والإكبار ولقد سمعنا بسجدة الشعر، ومقولة أحد الخبثاء: إن للشعر مثلما للقرآن سجدة، نسب هذا القول (للفرزدق) حين أعجبه الوصف في جلاء السيول للطلول. والذوقية والانطباعية حواضن النقد، والانطباعية الجارفة تحدو إلى التفضيل الملح، حتى إذا تنازع القوم حول أفضلية شاعر على شاعر، رجعوا إلى مدركاتهم، ليلتمسوا الحجة والشاهد، ومن هنا انبثق نقد المعيار والعمود، وظهرت المناهج، وعرفت المصطلحات، ووضع للشعر نظامه وضابطه وأسباب تميزه. وكل ناقد لابد أن تكون لديه حجته حين يفضل شاعراً على شاعر، والنقاد في عناء من هذا التفضيل. فالمفضول وأنصاره يكيدون لمن فضَّل عليهم، وقد وصف (عبدالواحد لؤلؤة) وضع النقاد المحرج، فهم كالنافخين في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، ومن ثم فإن نصيب الناقد ما يتطاير من ذرات تغشى العيون، وتزكم الأنوف، وغيره المستفيد.
وكلما أريد مني أن أتحدث عن شاعر أو أديب أو ناقد أو مفكر في ساعة تكريم أو تأبين، تذكرت الرماد والجذوة، وقبلت قدري صابراً محتسباً، فأنا بين أشياع يودون مني المجاملة، ومستعلمين يودون مني المعرفة، وخصوم يودون مني التحامل والتجريح. وليس بمقدوري أن أكسب إلا فئة واحدة، ولن تعذرني الفئتان الباقيتان، وحتى الذين يرضون مني اليوم، سوف يسخطون مني غداً، وهكذا مصير الناقد يخلق العداوات في جيئته وذهابه، وقول الحق لايترك لصاحبه صديقاً، والناقد كالقاضي بين الخصوم، ولقد قيل لأحد القضاة بعد أن ترك القضاء: -كيف أصبحت؟ قال: - توليت القضاء وليس لي عدو، وتركته وليس لي صديق. غير أن الناقد المتمكن المحترم للمصداقية حين يقول كلمة الحق، ويمتلك آليات النقد، ويعرف جيد الشعر ورديئه، وتكون لديه ذائقة سليمة ودربة مستمرة، ينام قرير العين جذلانا. لأنه يقول كلمته ويمضي، ولايعنيه أن يرضي زيداً أو عمراً، فالمسألة تسجيل للرؤية والموقف. ومن ملك ناصية القول أو آلية النقد فإن عليه أن يقول مايريد لا مايريده الآخرون، ومن أصاخ لرغبات الآخرين، كان كالطبل، يرقب من يضربه، ليحدث صوتاً.
لقد كان قدري دائماً ان أُدعى للحديث عن شاعر أو مفكر أو أديب في مناسبة التكريم أو التأبين، وقد يمثل الشاعر أو المفكر أو الأديب أمامي، ثم لا يحس أحد منهم أنه انتقل من الذاتية إلى الموضوعية، وأنه حين (يتموضع) ينفصل من ذاته ومشاعره، ويكون ازدواجياً: ذاتاً يقرؤها الآخرون بوصفها موضوعاً، وأخرى تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق. ولو أن الشعراء والأدباء والمفكرين (المتموضعين) أحسوا أنهم بالتموضع لم يعودوا كالأناسي، لأراحوا واستراحوا، ووفروا على الدارسين كلمات المجاملة والثناء الزائف، وسائر القضايا لاتتحرر بالمجاملة وتبادل الأنخاب.
***
2/ (وحديثي) عن الشاعر المجدد إلى حد التمرد والانقطاع والنثرية (عبدالرحمن بن محمد المنصور) المولود في مدينة الزلفي عام 1345 والمبارح لأرضه ودياره في زمن الطفولة سعياً وراء طلب العلم في الحجاز ثم في مصر حديث يعود بلبوس آخر. فلقد درسته قبل ربع قرن في رسالة أكاديمية، تقدمت بها إلى (كلية اللغة العربية) في (جامعة الأزهر)، وكان عنوان الرسالة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، وكنت يومها صارم الحدية، لا أرى إلا الأنموذج العربي الخالص العروبة، وشاباً يتوقد حماساً وإصراراً وعناداً، ومبتدءاً ينقصه الشيء الكثير، وقلت ما قلت، ثم دفعت بالرسالة إلى المطابع على ماهي عليه من قطعيات، لا تقبل الخيارات، وخرجت إلى الناس بكل ما فيها، ووجدها المكتوون من مواقفي الأدبية فرصة للنيل من إمكانياتي والسخرية بي انتصاراً لأنفسهم، ولو أنني فعلت مع نفسي مايفعلونه معي لوقفت على ثغرات كثيرة في الرسالة لم يقفوا عليها، فالطالب المبتدئ حين يقول كلمته تظل وثيقة رصدية لمرحلة من حياته، تقف حيث هي، ولكنه لايقف، ولقد أشفقت على بؤس هؤلاء لتصورهم انني لما أزل حيث كنت قبل ثلاثين سنة، وها أنذا أعود إلى الشاعر بعد ما نلت منه ومن لداته أمثال (محمد عامر الرميح) وتأتي عودتي بعد ما تغيرت البلاد ومن عليها، وتبدلت الرؤى والتصورات، وأصبحنا غيرنا بالأمس، والذين يقرؤون رأيي فيه اليوم ورأيي فيه بالأمس سيجدون التغير والتبدل. وقد لايحسنون الظن، ولكن عليهم ان يعرفوا ان الإنسان الطلعة يعيش حيوات تتبدل ساعة بعد أخرى، ولكنه يظل على مبادئه الثابتة، ومواقفه العامة التي تحفظ قيمه وخصوصيته وهاجسه.
والشاعر (عبدالرحمن المنصور) كما قلت شع نجمه شاعراً ملء السمع والبصر، ثم خبت أنواره، وطوى كشحه، واستدبر الكلمة المبدعة الجميلة، ولم أسمع منه ولا عنه إلا الأقل. وكم كنا نود لو أنه واصل عطاءه، فلقد كان من النوابغ، وممن سبقوا زمنهم في رمزيتهم وواقعيتهم وتمردهم ويأسهم وقنوطهم وضجرهم ومللهم من الحياة:
(دربُنا مظلمٌ وشحته الأماني بثوب الرياء.
فبدى مشرقا وهو ليل دجى.
وبدا داجيا وهو شمس الضحى.
دربنا مظلم).
خرج من نجد طلباً للعلم، وقد تركت أحوالها المتردية إذ ذاك آثاراً مؤلمة جسدها في تأوهات شاكية باكية:-
(العيشُ والمحراث والفأسُ الثليم
والأرض نزرعها ويحصدها الغريم.
وكآبة خرساء.. تقضمنا على مر السنين).
وقصد الحجاز وتخرج في معاهدها ثم قصد مصر وتخرج في جامعاتها، ولم يعد إلى نجد يوم أن عاد يحمل المؤهل الجامعي، بل جذبته منابع النفط واستهوته مسارح الكسب والعمل، ولعله لم يشهد ما حفلت به (نجد) من رخاء واستقرار، وما أفاء الله به عليها من علم ومدنية وحضارة. وتوقفه عن الإبداع حال دون تسجيل التحولات التي مرت بها بلاده. وهو كما قلت شاعر مقل، ومجدد بادر إلى حالة من الانقطاع، بحيث تجاوز المرحلة التي عاشها، فكان كما (المتنبي) غريب الوجه واليد واللسان، فلم يحفل به المشهد الأدبي، ولم تصخ له الأذن التي ألفت الإنشاد، عاش في مصر شاباً يتلهف إلى المعرفة أدرك عصر العمالقة والمدارس الأدبية، ووعى زمن التحولات الفنية والدلالية وشهد المعارك الأدبية، وأصاخ بوعي لكل المستجدات، وسايرها بثقة واقتدار، وامتلك الجرأة على كسر عمودية الشعر متجاوزاً سوائد الفن واللغة والدلالة، وقد يكون تجاوزه الجريء الذي لانمضي معه فيه إلى نهايته سبباً مهماً من أسباب عزوفه. فالمشهد الأدبي حين لايحفل بالنوابغ تنطفئ في أعماقهم شعلة الإبداع، والذين تتاح لهم فرصة استعراض النماذج الشعرية والدراسات الأدبية التي واكبت انطلاقته المبكرة سيخرجون بانطباع جديد، قد يختلفون مع بعضهم، والاختلاف حول الشاعر أو المفكر من الظواهر الصحية، وحسناً ان يكون الشاعر مثار خلاف، فالمشاهد لاتحيا إلا بالجدل والمعارك الأدبية، والمبدعون لايكرسهم إلا الاختلاف حول اهليتهم.
والأمل كبير أن يحدث هذا الكتاب التوثيقي ضجة حول الشاعر وشاعريته، فنحن أحوج ما نكون إلى استعادة شعرائنا الهاربين، وأحوج مانكون إلى المراجعات المعرفية التي تبحث عن الحق، ولا تهتم بالانتصار.
لن أتحدث عن شاعرية الشاعر، ولا عن قضاياه الفنية والدلالية واللغوية فمجال ذلك متن الكتاب، والدارسون والنقاد اكتنفوه من كل جانب، وتحدثوا عن شاعريته المبكرة ومذهبه الشعري، وتأثره بشعراء مصر والشام وإضافته للتحولات الفكرية والسياسية، وتعالقه الواعي بالمستجدات، ومع اكتفائي بما يقال فإنني أود الإشارة إلى ظاهرة يمتلكها الشاعر، وهي جديرة بأن تستعاد، تلكم هي تجديده الشكلي للقصيدة، وانفتاح النص عنده، فهو قد ناهز النثرية، وأوغل في الرمزية، الأمر الذي سيجعل الناس في خلاف شديد حول مشروعية المناهزة والإيغال. وشوارد الشعراء هي التي تذكي الخلاف. قيل عنه إنه واقعي والواقعية في زمن المد الاشتراكي تحال إليه، وهي من قبل تحال إلى الواقعية الاجتماعية، وتداول الواقعية في ذلك الوقت حساس ومثير، وأحسب أن واقعيته اجتماعية، وقيل عنه أنه رمزي ورمزيته كما رمزية (محمد عامر الرميح) تتعالق مع المدرسة الرمزية الألمانية التي وجدت ملاذها في بيروت عند (البيير أديب) ومجلته (الأديب)، وقيل عنه إنه يستلهم شعر (نازك الملائكة) صاحبة المشروع العروضي الذي استبدل العمودية بالتفعيلة، مع عدم التزامه بشرطها العروضي الذي أثار حفيظة (محمد النويهي) وسيقال عنه أشياء كثيرة بعد صدور هذا الكتاب، ولكنه سيبقى شاعراً لاغبار على شاعريته. والمؤسف أنه حين عاد من بعثته أخذ بلسانه يجره إلى الصمت، مثلما أخذ موسى بلحية أخيه وبرأسه يجرهما إليه. وليته أطلق للسانه العنان، ليصدع بروائع الشعر وجميل القول.
إنه شاعر خسرته المشاهد المحلية والعربية، وخسر نفسه، حين جمد الكلمة على شفتيه وهي بعد لم تأخذ وضعها الطبيعي، وما كان له أن يقسو على موهبته، فيعطلها، ولا على المشهد الشعري فيحرمه من خير كثير، وما حصل حصل، والتاريخ وحده كفيل بأن يقول الحق، فهو الحكم العدل. بقي أن نشكر الذين ذكروه بعد ما نسيه الأقربون، واستعادوه بعد ان طواه النسيان. واستعادة الرواد على أي شكل تمكين للدارسين والنقاد، كي يجربوا آلياتهم، ويعيدوا قراءة من صمت المشاهد عنهم بعدما اقترفوا جريرة الصمت الاختياري.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل