خسره المنصب وكسب نفسه..!
د. حسن بن فهد الهويمل
أذكر جيداً النصيحة التي تلقيتها من محبِّ عالم مجرِّب، وذلك حين أسندت لي في مطلع شبابي مسؤولية ادارية، تمس حياة شريحة معوزة من المجتمع. وكنت يومها في عنفوان الشباب وميعة الصبا، مقبلا بكليَّتي على الدنيا، ولمَّا تكن لديَّ حسابات المجربين، ولا خوف الورعين، ولا تحفظ الخائفين. والطاقة العارمة حين لا تعقلها التجربة، ولا توجهها المعرفة، ولا يسددها التوقيت والتقدير، تقود الى مهاوي الهلكة.
قال لي ذلك المجرب العارف المخلص: - يا بني هذا الكرسي الذي تجلس عليه، جلس عليه سلفك، وسيعقبك عليه خلفك، وأنت بين يومين: - يوم الجلوس وهالاته وأفواج المهنئين،ويوم التحول وعتمة التهميش وتفرُّق المودعين، ومن الخير لك ان تحسب ليوم التحول حسابه، ولا تُصاب بزهو اليوم الأول، ومهما امتدَّ بك الزمن، فإنك مفارق: ميِّتاً، أو متقاعداً، أو صاعداً لما هو أرفع، فلا تكن الرابعة فتهلك، وبعد المبارحة لن يبقى لك إلا الذكر، فليكن ذكراً جميلاً «فالذكر للإنسان عمر ثان». فالشهادة أو الواسطة تصل بك الى الكرسي، ولكنها لا تضمن لك النجاح ولا النجاة.
ومرت الأيام بحلوها ومرها وإقبالها وإدبارها، وتلك الكلمات تأكل معي وتشرب، وجاء يوم التحول، وتركت الكرسي صُعداً، وخلفني عليه أكثر من واحد، وما ندمت على شيء ندمي على تقصير القادرين على التمام، لقد فعلت ما يطمئن إليه قلبي، ولكن كان بودي لو تزودت من الخير، وما من محسن بعد الفوات إلا تمنى مضاعفة الإحسان، وندم على ما فرط في جنب الله، لقد خرجت راضياً بما قسمه الله لي، شاكراً لأنعمه عليَّ، وما أردت فيما أقدمت عليه أو أحجمت عنه إلا الاصلاح. وأزلية المفارقة تحفز على استباق الخيرات، قبل الفوات، وكيف يغفل من إذا فرَّ من الموت لاقاه. ومن لم يبارح عمله بالرقي أو بالانحدار، بالاضطرار أو بالاختيار بارحه «بالتقاعد». ففي كل عام تخرج أفواج الموظفين بقوة النظام التقاعدي، تترك الأضواء، وتفرغ من السلطة، وينفض من حولها سامر القوم. وتعود الى ديارها وأهلها خالية الوفاض، إلا من الذكر الجميل، أو القبيح، وشيء من مال قليل أو كثير، طيِّب الكسب أو مشوب بالشبهات. ومن لم يطب مطعمه لن تُجاب دعوته، وكل لحم نبت على السحت فالنار أولى به. وهذه الأفواج المتدفقة خارج المسؤولية متفاوتة الأحوال والمآلات: فمنها من خسره المنصب وكسب نفسه، أو خسرها، ومنها من تخلص منه المنصب، وتخلص من أذيته الناس، إذ كان عقبة كأداء أزيلت عن طريق المارة، فكل من سمع بذهابه بادر الى القول:-«مع الذين لا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون». وفي ذلك اليوم الحاسم تجد كل نفس ما عملت محضراً، فإن كان خيراً تمنت لو أنها تزودت منه، وإن كان غير ذلك تمنت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
ولا شك ان طائفة من المبارحين خرجوا من مناصبهم، وهم يضربون كفَّاً بكف، ويتمنون لو أُرجعوا إليها ليعملوا غير الذي كانوا يعملون. ولكن أنَّى لهم ذلك، وقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وآخرون خرجوا، وهم يحمدون الله على أداء الأمانة، والنصح للأمة، وكسب ما بقي من أرذل العمر، وهؤلاء ولدوا يوم أن تركوا أعمالهم بقوة النظام.
وصديقنا الأستاذ أبوعبدالرحمن ابراهيم البليهي مدير عام الشؤون البلدية والقروية نحسبه من هذه الفئة والله حسيبه، لقد تقلب في عدة مناصب حساسة ومغرية لكسب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والسيارات الفارهة والأنعام والحرث والضياع والجاه والأصدقاء، ولكنه زهد بكل ذلك، وولاها ظهره، واتجه صوب الأمانة والنزاهة والاخلاص، فخرج ثرياً بسمعته، نقياً في ملبسه، طيباً في مطعمه، وما شهدنا إلا بما علمنا. وإذا كان قد كسب الأقل من الأصدقاء فإن القالين له سيراجعون أنفسهم ويذكرونه بخير.
لقد شغل رئاسة البلدية في أكثر من موقع، «وختم أعماله بادارة الشؤون البلدية والقروية في القصيم» وكان في كل المواقع مثال الصدق والاخلاص والنزاهة والمثالية والتفاني، وحين خسره المنصب كسب نفسه: قارئاً ومفكراً وكاتباً، تختلف معه أو تتفق، ولكنك لا تجد بداً من أن تجله وتحترمه:- لعمق ثقافته، وثبات موقفه، ونبل غاياته. وحين نؤكد على انه كسب نفسه فإنما نومىء الى انه قارىء خبير، ومفكر عميق التفكير، ومثقف واسع الثقافة، وجاد صارم الجد، لا يفرغ لنفسه، ولا لجيبه، وقد لا يفرغ لأهله ولا لأحد من أصدقائه إلا لكاتب هذا التأبين، وإذ برح مكتبه الصاخب، فإنه سيعود الى مكتبته الهادئة المليئة بآلاف الكتب، والتقاعد الذي يشكل فراغاً قاتلاً للفارغين، حتى قيل:«مُت.. قاعداً» لن يحس به، لأن سعادته تكمن بين دفتي الكتاب، فهو قرينه، ونعم القرين، يخلو به بعيداً عن الأضواء والضوضاء والمتع الزائلة «وخير جليس في الزمان كتاب»، ولقد كلَّت السنتنا وحفيت أقلامنا في سبيل مناصحة طلابنا لجعل القراءة هواية، يسدون بها فراغ التقاعد إذا امتدت بهم الحياة، وهي بلاشك مسؤولية خطيرة.
والأستاذ البليهي الذي وضعت مسؤوليته أوزارها، كان وراء كثير من النجاحات واللمسات الجمالية، وتجلي صدقه وأمانته مكَّن له من قلوب المسؤولين وأصحاب القرارات، فكانت حقائبه تغدو خماصاً وتعود بطاناً لمصلحة العمل، ومع أنه يحمل هم المسؤولية، فقد لقي في سفره المخلص نصباً، انعكس على رؤيته الفكرية، وكاد يصيبه بالإحباط، وكنت ممن يحاول تثبيت فؤاده، كلما اقتربت صمامات الأمان عنده من الانفجار، لقد خرج وفي نفسه غصص من فئات تحارب الخضرة، وتستعدي على التشجير، ولأنه باخع نفسه على آثارهم، فقد استغاث بالمؤسسات وبحملة الأقلام لإنقاذ مشروعه من القتل. ومع تلك التحديات ظل وثيق الصلة بالكتاب، يهوِّن به على نفسه مصائب العمل، فكان قارئاً وكاتبا وراصداً واعياً لكل التحولات، استطاع أن يوائم بين تبعات المسؤولية وأهمية الثقافة. ولم يحرم الادارة من ثقافته وتجاربه، وكتابه «النبع الذي لا ينضب» الذي طبعه «نادي القصيم الأدبي ببريدة» يعد من أهم مراجع قسم الادارة في بعض المراحل الجامعية، فلقد جمع فيه عشرات المقالات التي كتبها متخصصون ومجربون ومخلصون عن الأداء الوظيفي والكفاءة الادارية والعمل المخلص، ولما يزل من خلال مقالاته الصحفية من أبرز الكتاب الذين يعتصرون الأفكار ويختصرون التجارب، ويجوبون مسارح الفكر ومطارح الفلسفة، ولا يتورعون من حز اللحم الى العظم، وجلد الذات حتى الموت والعويل على الواقع المرير.
ولو لم يكتب محذراً من «الجهل» و«التخلف» لكانت سيرته الصارمة الحميدة خير مرشد ومفيد، والمجتمع بأمس الحاجة الى القدوة الصالحة والى الفعل الايجابي، فلقد مللنا التنظير والمثالية الورقية، ولأنه لا يقول إلا ما يعتقد وما يفعل فقد كانت كلماته مؤثرة ومثيرة، لأنها تنكأ الجراح. المسؤولية الرسمية إذ تودعه الى حين فإن المسؤولية الوطنية تأخذه بالأحضان بوصفه من أبرز الكتاب الذين يصدعون بما يعتقدون، وإن لم يتفق معهم أحد، فهو من الذين لا يصانعون في أمور كثيرة، وإذا كنا نودع كفاءة وطنية، فإننا نستقبل كفاءة أخرى، أخذت الراية عن تخصص وخبرة وسمعة طيبة، نستقبل المهندس القدير «أحمد الصالح السلطان» الذي كانت فرحتنا به بحجم فجيعتنا على سلفه، والخيرية قائمة، ومجتمعنا والحمد لله ودود ولود، وعلى الذين من حولهم من أعراب الوظائف ممن لم يكونوا أمثالهم أن يتشبهوا بهم. وفي كل مناسبة أقول، وأتحمل مسؤولية ما أقول: إن المسؤول الأول في المنطقة إذا كان قوياً في أدائه، أمينا في مسؤوليته حفيظاً لمثمنات الأمة، عليما بشؤونها، وكان مع المسؤولية كما وصفه المتنبي:
فكأنها نُتِجَت قياماً تحتهم
وكأنهم ولدوا على صهواتها
نامت الأمة قريرة العين، وذلك ما يبدو لنا، نحسب من نحسن الظن بهم كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، فالله حسيبهم. وفيمن قضى مسؤوليته موعظة أو قدوة لمن ينتظر، وما يُلقَّى الاتعاظ بالمقصرين والاقتداء بالمجلّين إلا ذوو الحظوظ العظيمة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
|