مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 21-12-2006, 02:48 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
منخنقات: المعية.. والضدية وتفخيخ الأسئلة..!
د. حسن بن فهد الهويمل


عندما تتأزم الأمور، وتزلق المشاهد، يرتبك خطاب النخب والمتنخوبين والعلماء والمتعالمين، وتدخل الأمة في نفق الشك وجنون الارتياب، وتستفحل ظاهرة الأسئلة المريبة، أسئلة الاستكشاف والتصنيف، لا أسئلة الاستعلام والتعلم، ومثل ذلك عرض لمرض، ومؤشر على خلل في البنية الفكرية واستفحال للمراء العقيم باسم الجدل والمنطق. والخلي من هذه الريب تنتابه غفلة المؤمن، فلا يقيم وزنا للتحفظات ولا للمراجعات، قبل التفوه بأي اجابة، ومن ثم يبادر السائل بالجواب. والجواب الآمن يتعرض لأكثر من علامة استفهام، ويؤخذ بأكثر من مدخل، ويخضع لأكثر من تفسير. ومثلما يختل الأمن النفسي، يختل الأمن الفكري، مما يدفع بالمفكر الى كتم تفكيره ومسايرة الآخرين حبا للسلامة وايثارا للعافية، اذ هناك فتن يجسدها «الهرج» وأخرى تتبدى في «التهريج» واللسان آلية الحرب الباردة المحفزة والمنشطة لخلايا الحرب الساخنة. والمشاهد العربية تتصدع عن أسئلة مفخخة، تستدرج الشجي والخلي. وحين يعيش العالم والأديب والمفكر في حالة من الخوف والترقب، يتصوح نبت المعارف، ثم لا يكون عالم بصير، ولا ناصح خبير، ولا قدوة حسنة. ووابل الأسئلة التربصية تعمق الخيفة والتردد، وتحبس القول السديد في الحناجر. والرقابة غير المشروعة، وغير المؤسساتية، وغير المنظورة رقابة غوغائية، وهي أخطر على الفكر من أي رقابة، يتحرك ذووها وفق أصول وضوابط وصلاحيات مستمدة من شرعية السلطة، ومتطلبات الحرية المنضبطة. وحماية الأجواء الفكرية من التلوث أهم من حماية البيئة.
وكم يتعرض المثقفون وأنصافهم والفارغون لأسئلة لا تخطر على بال، يبده احدهم بها متوتر او متربص او متعصب، لا يطلب علما، وانما يسبر حالا، ويكشف عن انتماء، وقد لا تتاح للمكره على الاجابة فرصة التأمل، ولا مندوحة التعويل على مقولة العالم المتضلع: «فيها قولان»، ولا الركون الى نصف العلم «لا أدري»، فالسائل يريد صريح العبارة، ومحدودية الموقف، ليشكل رؤيته عن المسؤول، ويصوغ اسلوب التعامل معه وسمة الموقف منه.
فعندما يقول لك قائل: هل أنت مع امريكا او ضدها؟. أو يقول لك آخر: هل أنت مع الارهاب أو ضده؟ وهل أنت مع ضرب القاعدة او ضرب العراق؟
وحين يستوضح ثالث عن موقفك من الحزب القائم في الاذهان، او الحرب المتدخلة في الأوطان، أو المذهب الشائع على كل لسان، أو التيار السياسي الثائر على كل سائد، أو المعتقد الديني الخارج عن الاجماع والاجتماع، او المنحى الفكري العابث بكل مسلمة، او العالم الناقم البرم، او المعارض المتشنج، او التصريح السياسي، أو الفتوى القنواتية، او التغيير في المناهج، او حتى عن الكتاب الذي لم يقرأه، أو المقولة التي لم يفهمها، أو الفتيا المتداولة في الأوراق، او الموقع المعلوماتي الزاخر بالبهتان، أو ما شئت من فيوض القلم واللسان.
ويتقاطر آخرون بطرح ثنائي يدور حول «المعية أؤ الضدية» تحس أمام كل ذلك بأنك مستهدف، وانك تقترب من مأسدة مخيفة، تتحول معها سمعتك الى حديث مجالس ومادة مواقع، واستنطاقك يلوي على مشروع تصنيفي تصفوي، يدخل بك الى الفئوية لتكون مع السائل أو ضده، محرما عليك الوسطية، او الحيادية، او التوقف، حتى الاستبانة والتثبت، وهما منهج اسلامي {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إن جّاءّكٍمً فّاسٌقِ بٌنّبّأُ فّّتّبّيَّنٍوا}.
وهناك تكون عدوا لدودا لمن يكره الحزبي المعين أو المعارض المعروف او يحبه، أو يكره «أمريكا» أو يعذّر لها، أؤ يأخذ بتلك المقولة، أو بتلك الفتيا، أو يتبع ذلك العالم أو ذاك الحركي، او يخالفهما. واشكاليتك تتضاعف حينما لا تكون مهتما بهذه المواقف المتشنجة، أو حينما تكون ممن خاف الفتنة فاعتزل المشاهد وما فيها من أشياء وأناسي، واهتم بخويصة نفسه.
والتصنيف واستمراء الأعراض لا يصدران الا من مبتدىء او عاطفي لا يؤمن بالتعددية المعتبرة، أو من متسطح لا يعرف دواخل الامور وقوانين اللعب، او ممن تحقر صلاتك الى صلاته وصيامك الى صيامه، ولكنه يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ودم المسلم المعصوم عنده أهون من اراقة الماء العكر.
ومن شاء ان يطمئن قلبه فليدخل على «المواقع الانترنتية» ليرى ماهو أسوأ من مذبحة «قانا» أو «حلبجة» مما يبعث على الاستياء والخوف، فمثل هذا الصنيع ناتج أخلاقيات خطيرة نُشىء عليها خليون، كانوا من قبل شبابا على فطرة الله التي فطر الناس عليها يكتظ بهم الشارع العربي من المحيط الى الخليج.
واشكالية المشاهد في فترات التوتر والاهتياج انها تعيش صرعة التصنيف، فكل متكلم أو كاتب لابد أن يكون منتميا لطائفة فكرية أو دينية أو سياسية، سبقت تسميتها، وفرغ الفضوليون من تصنيفها، وليس لأحد بعد هذا حق الاجتهاد أو الاختيار. والمسألة اما ان تكون: معي او تكون ضدي على الطريقة «البوشية».
ولكن ان تستعرض المسميات الفكرية والسياسية والدينية في سائر المشاهد العربية، من مثل «القومية» و«العلمانية» و«القطبية» و«الاخوانية» و«السرورية» و«العقلانية» و«الحداثية» و«الليبرالية» و«الحبشية» و«الجامية» و«الراديكالية» وما لا نهاية له من تلك المسميات التي فرقت كلمة الأمة، وجعلت أهلها شيعا يضرب بعضهم سمعة بعض، وقد يتطور الخلاف ليكون الضرب في الرقاب. وما عرفنا ذلك في طفولتنا، ولا في شبابنا، ولا في كهولتنا، ولما فوجئنا وفجعنا به، لم يكن في مقدورنا، وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيبا ان نأخذ بحجز المتدافعين، ونردهم الى جادة الصواب.
ولو نظرنا في صراعات تلك الطوائف، وتصفياتها للسمعة، وتراشقها ببذيء الكلام، وساقط القول، لهالنا الامر. وما من احد من هؤلاء واولئك الا هو هارب من النار، ولكنه ركب رأسه، واعجب برأيه، وجعل اصابعه في أذنيه، واستغشى ثيابه، وأصر، واستكبر استكبارا، فوقع في الهلكة. والذين يرسخون مفهوم «الحدية» و«الثنائية» يقترفون خطيئة كبرى، لانهم يضيقون واسعا، ويوسعون رقعة الخلاف والتنازع والشحناء. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتفادى دائما الحدية، وفي «حجة الوداع» ما سئل عن شيء الا قال: افعل ولا حرج. أو كما قال. والصحابة يختلفون، ولا يعادي بعضهم بعضا، واذا احتدم الخلاف بينهم، انتهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصوب آراءهم، او سكت عن الاجابة، فعل ذلك عند امره بصلاة العصر في بني قريظة، وعند اختلاف عمر مع قارىء القرآن. وقد يحسم الموقف، كما في قوله: «أفتَّان أنت يا معاذ؟»، وقد يتولى الله فض المنازعات، كما في اقتتال «الطائفتين». وما من مخطىء بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بحق الاسلام أو بحق نفسه الا ويسمع من يقول بحضرة الرسول: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، والرسول الحريص على جمع الكلمة والرؤوف الرحيم بأمته، يؤلف القلوب، ويؤاخي بين المؤمنين، ولا يرضى ان يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه، وتلك نظرة ثاقبة لآثار حرب الشائعات. وحين لحق بالرفيق الأعلى، وتوقف وحي السماء، واندس «السبئيون» لتمزيق وحدة الأمة، وقعت الواقعة، ونال الأمة ما حذرها منه، وأخبر به بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقوله : «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه». وحين اختلفوا عنده في مرض وفاته، صاح بهم: «قوموا عني»، فهو يكره الاختلاف والتنازع، ويعرف أثرهما على قوة الأمة وهيبتها، ولهذا أمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، ونهى عن منازعة الأمر أهله، الا ان يرى المؤمن كفرا بواحا عنده من الله فيه برهان، وصدق الله: {وّالًفٌتًنّةٍ أّّشّدٍَ مٌنّ القّتًلٌ} وما نشاهده اليوم تدافع مستميت للفتنة، وعشق متيم للصراع، وكل من أراد استقطاب الغوغاء اقترب من المسكوت عنه، وكل من عشق الأضواء لغم كلماته، ثم أرسلها لتصنع له العجائب.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل