نعم هذه مصيبة عظمى لأن المجتمع _إلى الآن_ لا يفرق بين الفئات التالية ممن يتحدثون بشرع الله في زماننا:
1- فالعلماء الأئمة المجتهدون: وهم من جمع بين الحفظ والفقه في النصوص وعرف مقاصد الشرع وأصوله وقواعده؛ استحضرها وفَقِهَهَا ، وملك أهلية الاجتهاد والتوقيع عن رب العالمين.
2- والحفاظ: وهم من حفظوا الكتاب والسنة ، ووهبهم الله سرعة في استحضار النصوص والاستدلال على المسائل.
3- والمتخصصون ويدخل فيهم الأكاديميون: وهم من أبحروا وتعمقوا في فن من فنون الشريعة ؛ عرفو خباياه وتشربوا مسائله ، مع إلمامهم بالحد الأدنى من غيره من العلوم الشرعية .
4- والمثقفون من طلبة العلم : وهم من ملكوا أهلية البحث والتقصي في أقوال العلماء ، ومآخذهم في أي مسألة تعرض أو تستجد؛ وكذا لو راجعوا بعض المسائل وإن لم تكن نازلة.
5- والخطباء وأصحاب الصوت الأجش: وهم من يعتمدون أقوال العلماء وما يدور حول المسألة أو النازلة؛ وهم بدورهم يبلغونها للناس ، ويوصلون المراد بأبسط أسلوب.
6- والدعاة : وهم من عنده الحد الأدنى من علوم الشرع؛ ويسأل أو يراجع العلماء فيما لم يتبين له الحق فيه.
7- والوعاظ (وهم القُصَّاصُ في عصور السلف) وهم من يستعطفون الناس ويذكرونهم وينصحونهم ويجلون الصدأ من قلوبهم؛ عرفوا نصوص الوعد والوعيد فبلغوها للناس ، ووهبهم الله عواطف جياشة وألسنة جميلة تؤثر في الناس ، تدخل عباراتهم الآذان فما تلبث أن تستقر في القلوب..
8- والمتعاطفون والمتحمسون لشرع الله من الشباب الصالح الذي حمل هم هذا الدين وبلَّغ ما سمعه من العلماء لعامَّة الناس.
ومن هنا فأن هذه الأصناف الثمانية وما يتفرع منها يجب أن لا يتعدى كل منهم حدوده..
فالكلمة الفصل هي للأئمة المجتهدين ؛ ولا شك أن من كمالهم أن يستعينوا بالحفاظ في ما يغيب عن أذهانهم ويدارسوهم المسائل .
كما أن من كمالهم استعانتهم ببحوث المختصِّين أو بالباحثين ممن يعينونهم في طرح رأيهم في المسألة؛ وهذا واقع علمائنا : فأنا أعرف أن عدداً من طلبة العلم كان الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يحيل عليهم عدداً من المسائل يدرسونها ويفتي على ضوء دراساتهم.
فإذا عارض الإمام المجتهد قول إمام مجتهد آخر وكان قول أحدهما مبنياً على بحوث ودراسات كان أولى ممن أفتى بها بناء على ما استقر عنده فقط.
وكذا إذا كان أحد المجتهدين أكثر اختصاصاً من غيره في باب من الأبواب فقوله مقدَّم على غيره لأنه أعرف من غيره وليس في هذا انتقاص لمن لم يؤخذ قوله: فقول الشيخ محمد بن عثيمين قد يرد ولا يؤخذ في مسألة دقيقة في علم مصطلح الحديث إذا عارض بعض المختصين ولو كان هذا المختص يغرق في بحر علم ابن عثيمين ولو كان الشيخ حياً وراجعه هذا المختص لرجع إلى قوله ؛ وتذكرون مراجعات الشيخ سعود الشريم للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله قبيل وفاته في بعض مسائل المناسك.
ولذلك فالقول الفصل في المسألة هو قول من بحثها حديثاً وراجعها ، ومن حق العلماء عليه في هذه الحال أن يراجعهم ويبين لهم رأيه ودراسته؛ ومن حق العلم عليهم أن يرجعوا إلى رأيه إن تبين لهم الصواب.
أما بقية الفئات فليس لأحد منهم أن يتجاوز مقامه في الشرع ولا أن يعطى فوق حقه:
فلا يصح أن أسأل مختصَّاً في العقيدة عن مسألة في الفرائض لأنه ليس إماماً في كل الفنون.
ولا يصح أن أقدِّم رأياً عارضاً أو فتوى ولو كانت لإمام من الأئمة على دراسة متكاملة لمختص بحث المسألة من جميع جوانبها وسبرها وبين رأياً مبنياً على الأدلة وفهم السلف لهذه المسألة.
وفي المقابل : لا يصح أن أطلب من كل مختص أن يكون مجتهداً _فإن اعتقد هو باختصاصه في علم أنه مجتهد في كل العلوم فتلك طامَّة الطوام_.
كما لا يصح لي أن ألزم كل خطيب من الخطباء أن يكون عالماً شرعياً ومفتياً وموقعاً عن رب العالمين؛ فإن اعتقد ذلك فتلك مصيبة وطامَّة أكبر من سابقتها.
وأطم منها إن استفتوا أحداً من الوعاظ أو الشباب الصالح المتحمس.
ومصيبة المصائب: أن تكون الفتوى من مسائل الأمة الكبيرة التي تحتاج إلى فهم دقيق وتأنٍّ في الفتوى فيها.
والمشكلة في مجتمعنا أنهم سمَّوا الجميع شيخاً واستفتوهم وأخذوا رأيهم على أنه رأي الشرع؛ فإن اعترض أحد على رأي فلان فهموا ذلك انتقاصاً وحطَّاً من قدره!! وسبب ذلك:أننا قصَّرنا في توضيح مقام كل عالم من العلماء وحدوده ، كما أن عدداً من الفضلاء تجاوزوا حدودهم وتكلموا فيما لا علم لهم به فوقعت المصائب والتناقضات..
ولذا كان لزاماً علينا نحن الشباب المتحمس الغيور: فَهْمُ مقامات العلماء ، وإنزال كل شخص منزلته التي يستحقها..
وهذه المسألة فهمها السلف رحمهم الله وعملوا بها: فقد كان الشافعي يسأل الإمام أحمد عن الحديث ؛ وكان يقول "إذا ثبت الحديث عندكم فأعلمونا به" وليس هذا نقصاً في الشافعي لكن أحمد أكثر منه إلماماً في الحديث.. والأمثلة على هذا كثيرة ؛ فقد كثر القصاص في عصور السلف ولم يكونوا ينهونهم إلا عن التوقيع عن رب العالمين ولذا ذمهم العلماء لمَّا انبهر ببعضهم العامَّة وظنوهم علماء..
وهذا ظاهر في زماننا : فإن العالم ولو كان كبيراً : إذا تكلم في دقائق من فن لم يتعمَّق فيه وقع منه الخطأ والتناقض؛ ولذا لما تكلم أحد علمائنا الكبار في مسألة لغوية صرفة وأتى بما لم يُسبق إليه لامه أهل اللغة لأنه تكلم في غير فنه.
أختم بعبارة جميلة قالها ابن حجر في أحد الأئمة لما تكلم في مسألة ليست من اختصاصه ، قال ابن حجر : ((من تكلم في غير فنِّه أتى بالعجائب))
أعتذر عن الإطالة
محبكم/ صالح أبو
__________________
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً***بالطوب يرمى فيرمي طيب الثمر
|