القبيلة والمجتمع (المقال الثالث)اليوم الخميس 4/2/1428هـ الرابط
http://www.alriyadh.com/2007/02/22/a...0.html#comment
د. عبدالله محمد الغذامي
انقطعت - دون أن يحبسني حابس، كما ظن بعض الأصدقاء - وانقطاعي كان لأسباب شخصية بحتة، ولقد أفدت من هذا الانقطاع لقراءة ردود الفعل، وهي ردود معظمها إيجابي بشكل استثنائي، وأقول ذلك لأنني سمعت تعليقات من رجال ونساء من ذوي الأصول القبلية، وفيها تصورات واعية لهذه القضية ونقد لاستفحالها وجعلها سبباً في التمييز الاجتماعي، خاصة في مجتمع مسلم يرى أن الإسلام هو جوهر كينونته، وفي الإسلام يقوم قانون (التقوى) على أنه العنصر التفضيلي الأعلى بين الأفراد.
ولقد كانت التعليقات التي جاءتني تصب في هذا الاتجاه، ومن المهم أن نلحظ هنا أن أبناء القبائل هم من ينتقدون هذه الممارسة، ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن هذه الاتصالات الشخصية معي لا يمكن أن تكون معياراً اجتماعياً، وأنا أدرك أن الذين اختاروا التحدث معي إنما فعلوا ذلك لموافقة هواهم مع المنطق العام للمقالات، ثم إن هؤلاء هم من عينة ثقافية واجتماعية تتماثل معي عقلياً وذوقياً، ولذا اختاروني لحديثهم وأنا اخترتهم لسماع قولهم، ومها كان قولهم إيجابياً وعلى درجة عالية من الوعي النقدي والنظري إلا أنني لن أسمح لهذا بأن يحجب عني الأصوات المعترضة. كما أنني لن أفرط بالحق الاجتماعي والأخلاقي باحترام القبيلة وتقدير قيمتها الثقافية والتاريخية. والقبيلة صيغة إنسانية مثلما هي مؤسسة ثقافية وكيان اجتماعي ضروري وطبيعي.
ومما يجب ذكره هنا وهو ذو دلالة عميقة أن المتحدثين معي كانوا - فحسب - من أبناء القبائل، ولم يتحدث معي أحد من غير بني القبائل، وعن هذه المقالات تحديداً، ثم إنني تلقيت ملاحظة نقلها لي صديق متابع روى عن مثقف غير قبلي قوله إن إثارة هذا الموضوع سوف يعزز من الحس القبلي، وتمنى لو أنني تركت الموضوع، ويرى القائل ان هذه المعضلة مشكل عويص، وغير قابل للحل.
وهذه ملاحظة تكشف عن حجم الانشطار الاجتماعي من جهة، كما تكشف عن تصورنا لأسلوب تعاملنا مع إشكالياتنا من جهة أخرى، ولقد أشرت من قبل إلى أن النسق المحافظ يرى أن الستر على العيوب شرط سلوكي، ثم يرى أن الزمن هو حلال المشاكل، ويرى أن الحديث عن مشكل ما هو إشاعة له وإحياء للداء، وسيكون الستر هنا ضرورياً مع تجاهل المشكل وتركه يذوب عبر تناسيه أو عبر التسليم به.
هذا قانون نسقي عريق، ولقد تعاملنا بموجبه مع موضوع القبيلة ومع موضوعات أخرى مثلها، ولذا يشعر المرء منا أنه محتاج إلى قدر كبير من التشجيع الذاتي، مثلما يشعر بالتردد والتخوف من ملامسة أي موضوع يوصف بالحساس، حتى ليبلغ الأمر بنا حد الهوس فيصير كل شيء حساساً حتى نقد الأفراد أو ابداء الملاحظات، وهذا مظهر ثقافي هو من أبرز مظاهر النسق المحافظ، وهذا ما يجعل المشاكل تعمر طويلاً وتستفحل حتى لتستعصي على الحل.
ولو تذكرنا قصة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر حينما قال له: إنك امرؤ فيك جاهلية، بسبب تعييره لرجل بأمه الأعجمية، وسأخص القصة بحديث واف لاحقاً - إن شاء الله - ولكني أشير هنا إلى أن الرسول الكريم لم يراع شروط النسق وضروراته، وبادر إلى تصحيح الغلط الأخلاقي، وبلغة صريحة ودقيقة في تشخيص المشكل ووصفه بصفته الحقيقية، من حيث هو خلق جاهلي وغير إسلامي. ولم يكن الستر هنا ولا ترك الأمر للزمن هو الحل، وإنما الكشف والمصارحة ومواجهة الحدث، وفي السيرة النبوية دروس كثيرة تحسم هذه القضية لمصلحة التناسب الاجتماعي والإنساني إيجابياً وعملياً.
ولكنني هنا أشير - فحسب - إلى ردود الفعل الأولى على المقالات الثلاث الماضية، وأركز على امتناني لكل من أسهم برأي، ولن أجادل صاحب رأي في رأيه، والأمر كله دعوة للرأي ولفتح صندوق الأسرار، والسباحة في حوض الأشواك، غير أنني سأشير إلى ملاحظتين وردتا في موقع "الرياض" على الانترنت، أولاهما للزميل الدكتور صالح معيض الغامدي، وفيها يعلق على مقالتي الثالثة عن الجزار والوجيه ويرى أن الوجيه قد جامل صديقه الجزار ولم يذكر له (كل) الفروق الجوهرية بين القبلي وغير القبلي، واكتفى بصفتي الشجاعة والكرم وسكت عن أشياء أخرى، والحقيقة أنني ممتن للدكتور صالح على متابعته على الانترنت وعلى أحاديثه معي في الجامعة حول الموضوع، وكم أتمنى أن لو تمكن الدكتور من كشف الورقة بكامل أسطرها وقال صراحة ما هذه الفروق لكي يتسنى لي وله ولغيرنا أن نناقشها ونتمعن فيها، هذا إن كان أبناء القبائل يميزون أنفسهم بغير صفتي الشجاعة والكرم، ويجعلونهما في أعلى السلم القيمي النفسي والاجتماعي، ولست أرى في كل ما اقرأ وفي كل ما ألمسه وألاحظه غير هاتين الصفتين مما هما صفتا تميز وتفاضل حتى بين قبيلة وأخرى، وتعلو أي قبيلة في السلم الاجتماعي والثقافي كلما تعالت في هاتين الصفتين، ولقد بذلت جهداً ووقتاً للكشف عن صفات ذات قيمة تعميمية وصريحة ومقننة فلم أجد غيرهما، ولا بد أن أركز هنا أن الصفات المطلوبة في البحث هي الصفات التي تقول بها الثقافة بوضوح وبتعال تكشف عنه الأشعار والحكايات ومجالس المفاخرة، وخطب البلغاء في المحافل والمواجهات الترحيبية.
إن كل ما في الخطاب الثقافي يشير بوضوح قاطع إلى صفتي الشجاعة والكرم بوصفهما القيم التفضيلية العليا، وما عداهما فإننا قد نسمع كلاماً هو أشبه ما يكون بالهمس، يرى أفضليات وتمييزات غير معلنة في الخطاب ولا متناقلة بين الناس لا في شعر ولا في خطابة ولا في قصص. وهذا يحصر بالضرورة موضوع تعريف النظام القيمي القبائلي في صفات يقول بها الخطاب ويتصدر الوجه الثقافي ويصر عليه. ولكي نمتحن هذه القيمة علينا أن نسلب صفتي الشجاعة والكرم عن أي قبيلة.. فماذا سيجري من القبيلة تجاه المعتدي على صفاتها، ثم ماذا سيجري على القبيلة لو سلمت بالوصف ورضيت بأنها غير شجاعة وغير كريمة..؟! نعرف أن هذا غير ممكن وغير مقبول.
هذا هو ما يثبت الصفات ويجعلها ذات قيمة بحثية تداولية، أما ما عداها فإنه غير وارد لا بحثياً ولا اجتماعياً، ومسألة صفاء الدم هي مسألة لاحقة بهاتين الصفتين ولا بد من الوقوف عليها في مقال لاحق.
أما الملاحظة الثانية فكانت من أحد القراء الذي أقر بأن الأصل البشري هو التساوي فطرياً وطبيعياً بوصف الجميع أبناء آدم، ولكن التفاضل في رأيه جاء بعد ذلك حينما اختار نوح قومه في سفينته وهم عينة منتقاة بشريا ولذلك فهي متميزة. هذا ما يراه القارئ الكريم غير أن ما يلاحظ هنا أن سفينة نوح عليه السلام قامت على معيار إيماني ومن كفر غرق، وهذا هو معيارها، أي معيار التقوى، وليس معيار النسب، ثم إن ابن نوح خرج من السفينة ومن النسب أيضاً (ليس من أهلك) بما انه عمل غير صالح. وأخيراً فإن من لم يركب في السفينة قد غرق ومات. ومن هنا فالنسل البشري كله من ركاب السفينة، ولذا تنتفي فكرة القياس التفاضلي هنا، ومثله زواج إسماعيل من عرب مكة، وهو في رأي القارئ وجه من وجوه التفاضل المتجاوزة للتساوي الأصلي، ولكن هذا المثال لا يغطي الظاهرة البشرية في التناسل ولا أحد يقول إن القبائل (كلها) من نسل إسماعيل، ولذا لا سبيل إلى جعل هذا الزواج سبباً للتفاضل القبلي.
هذا مقال تواصلي لربط ما انقطع، ولشكر كل من علق ولكل من سأل عن المقالات واهتم بأمرها.