هل يمكن للبر أن يمتلئ بالبشر ؟
قال عمرو بن كلثوم في معلقته :
ملأنا البر حتى ضاق عنا ** وماء البحر نملؤه سفينا !
كنت أقول دائما وأنا أقرأ المعلقة : أي مبالغة حكاها هذا التغلبي المغرور !
ولكني عندما عدت قبل أيام من تطوافي مابين الحاصبيات قريبا من حفر الباطن وأمهات المصران قريبا من رماح كنت أردد مايقوله التغلبي بكل اقتناع
فلقد ملأ الناس البر بشكل غير طبيعي ..
قبل سنوات كنا ننزل في تلك البقاع دون أن يكون للعوائل أي أثر فيها .. وأما اليوم فقد وجدنا حرجا من النزول فيها بسبب تواجد العوائل الكبير !!
كان حمد الجاسر رحمه الله يقول (
حفر الباطن قبلتنا وقت الربيع ) أما مايفعله الناس في السنوات الأخيرة فهو أنهم ييممون وجوههم شطر روضة التنهاة في وقت الربيع أو إلى روضة خريم ..
والأخيرتان ليستا مكانا محببا لمن عرف البر حقيقة .. لما فيهما من الزحام أولا ولكثرة وجود العوائل ثانيا ولتواجد المتطفلين على حريات الآخرين بشكل أكبر ثالثا ولوجود الحدائد في جهاتها الأربع رابعا وإن كنت أؤيد وجودها فيهما للحفاظ على الأرض وخضرتها وإلا فلقد زرنا أماكن أفسدها بعض الجهلة بسياراتهم حيث يدخلون بين الأشجار والأرض لم تبرح رطبة من المطر وفي هذا ضرر على الأرض وعليهم هم أيضا ..
ولكم أن تشاهدو هذه الصورة لتقتنعوا بالأثر الذي تتركه السيارة على الخضرة :
وأما الزحام فإنه مزعج بحق .. وبعض الناس للأسف لايراعي حرمة .. ولا مروءة .. فتجده يمر إلى جانبك ثم يلحس بعينيه جميع مايحتويه مخيمك من أشياء
في أحد الرحلات وعندما نزلنا في فيضة الزعبية بين لينة و رفحاء ووضعنا أمتعتنا .. كان أحد رفاقنا يرفع صوته .. فأشار إليه آخر وقد وضع سبابته على أنفه وهو يقول : اصصص .. يوجد أناس قريبون منا في هذا الإتجاه

فرد عليه رفيقنا الأول : ( كشتة فيها كلمة ( اصص ) ماهي بكشتة )

وإنني أردد منذ مدة كلمة تصدق على كثير من هذه الفياض أستميحكم العذر في إضافتها هنا تقول :
(
مكاشت قوم عند قوم مزابل )
ويمكنك أن تأخذ كلمة مزابل وتستبدلها بما تشاء من الكلمات على وزنها

أو غير وزنها

وللشرع تنظيم جميل للغاية حتى لتلك الأماكن النائية في عمق الصحراء حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم (
اتقوا اللاعنين الثلاث : البراز في الموارد ، و قارعة الطريق ، و الظل ) و في رواية: (
اتقوا اللاعنين ، قالوا : و ما اللاعنان يا رسول الله ؟ قال : الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم ) و لا يخفي ما في هذا الهدي النبوي من المحافظة على صحة الإنسان و الحيوان بل و حتى النبات ، فكان الإسلام بذلك قد وضع الأسس القوية لما يعرف اليوم بصحة البيئة.
وحتى العظام ورجيع الدواب له حرمة بحيث لانتعرض له بنجاسة فنؤذي بذلك الجن فقد روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((
لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زادُ إخوانكم من الجن ))
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يبتعد كثيرا عند قضاء الحاجة ويستتر
وإنني لأعلم أن كثيرا ممن يكرهون الرحلات يكرهونها لأجل حرجهم في قضاء الحاجة ويحجمون عنها بسبب ذلك وقد حكى لي مثل ذلك أكثر من واحد
وإن كان بعضهم يكرهها لأسباب أخرى من مثل عدم القدرة على النوم أو ربما الخوف من مغبات الصحراء أو ربما لعدم تحمل الطريق أو تحمل البرد الشديد أو غيرها من الأسباب الكثيرة ..
ولكن هل مشاهدة الربيع فقط هي السبب لأن ينكب الناس على البر بهذه الصورة ؟
في نظري أنا : لا ..
لأن الخروج إلى البر باستمرار- أيها الأحبة - ليس بالأمر الهين .. والرحلة البرية كما أنها ممتعة إلا أنها متعبة كذلك .. وقد حدثني أحدهم عن صاحب له حار الطبع سريع الملل يقول : حينما نقطع مسافات طويلة في الصحراء ونصاب بالجوع والسآمة دون أن نصل إلى غايتنا يصيح صاحبنا ذاك قائلا : خلاص ... هذه آخر مرة أخرج فيها إلى البر
يقول : فإذا جاء موعد الرحلة القادمة بعد زمن وإذا به أول الحاضرين
وأخ لنا دعابي أيضا قال لنا مرة وقد وقفنا في استراحة قبل أن نواصل مسيرتنا باتجاه الصحراء : لم لايذهب اثنان منا فقط فيكشتون ثم يعودون إلينا ونحن جالسون هنا حتى يقضوا عنا همها
إنها متعبة بحق .. تشقق الجلد .. وتقلب لون البشرة .. وتتعب الصدر .. ولكنها محببة ..
ويجدر بي هاهنا التفريق بين أولئك الذين يحبون القنص أو الصيد وأولئك الذين يحبون الطبيعة البرية .. فهواة الصيد يخرجون حتى في الأوقات الحارة غير الربيعية .. ويتكلفون كثيرا في مطاردة غرضهم ..
كما أحب أن أضيف هنا أن الإدعاء والرياء يأخذ منحى واسعا في أمور الصيد أو محبة البر .. ولذا فإنني أتحدث إليكم وأنا أرى نفسي متطفلا بدرجة كبيرة على أولئك الرجال الذين عركتهم الريح وبلل ثيابهم المطر وأضناهم كثرة الترحال .. ولكن يكفيني أنني سأتحدث عن شيء أحبه ولذا فلن أكون ظالما لمملكة ما سأتحدث عنه على الأقل
أذكر قديما صاحب سيارة من نوع جيب يدور في الشوارع بينما يربط فوق شبك السيارة كسرا من الحطب وشراعا مربوطا بشكل يوحي بهوسه للكشتات !
وبعضهم يترك سيارته متلطخة بطين وغبار الصحراء حتى حين
يبدو أننا نسينا سؤالنا
نعود إليه ..
هل مشاهدة الربيع فقط هي السبب لأن ينكب الناس على البر بهذه الصورة ؟
ولكن يظهر أننا سنكمل الحديث في المرة القادمة إن شاء الله .. بعد أن نأخذ فاصلة قصيرة مع بعض الصور ..